كل سنة وأنتم جميعا بخير…


كل سنة وأنتم جميعا بخير
يا ليلة العيد آنستينا
ما يكاد ينقضي من رمضان ثلثه الأول – وهو الثلث الأهم من حيث التكاليف – حتي تشعر”ستي” بأنها مستورة والحمد لله، فتنطلق بنا أنا وإخوتي إلي عم “نصيف عبد المسيح” تاجر القماش، لتشتري لنا جلابيب العيد من “الزفير المقلم”ثم تتوجه إلي عم”عبد السميع ناشى” الخياط ،ليأخذ مقاساتنا – بلا ورقة ولا قلم – وانما علامات يقرضها بأسنانه على القماش، وتدفع العربون.
وما إن ينقضي من رمضان ثلث آخر، حتي تبدأ أمي في التجهيز لإعداد الكعك والبسكويت، وفي ليلة الإعداد يرحب بالجميع أقرب وجيران، كبار وصغار، فالمناسبة سعيدة، والحق في السعادة مكفول للجميع، كما إن صناعة الكعك تحتاج العديد من الأيدي العاملة، وفي جو من البهجة تتوالي خطوات الإعداد: الدقيق أولا، من درجة الزيرو، ثم الزبد بعد تسييحة، ولا تنس أمي أن تدعونا لنأكل بقايا الملح والسمن والمسمي “المرتة” الشهية التي تترسب في قاع “الحلة”بعد تلك العملية، ثم يتلوها اللبن الحليب، وكانت للنساء درجات معروفة ومعتبرة من حيث إجادتهن لصناعة الكعك وتسويته، وبعد تجهيز عجين الكعك وتقطيعها يتسلم كل منا أنا وإخوتي ورفاقنا الحاضرون “مناقيش” من الصفيح ” المشرشر” لنقش القرص، في خطوط تشبه أشعة الشمس تحيط بدائرة بارزة هي وسط القرصة تمثل الشمس نفسها، وكذلك يكون الكعك الذي يفرغ قلبة مشيرا إلي الشمس، تنطلق منه الأشعة نفسها، وأغلب الظن أن هذا الشكل – بل وهذا الطقس كله – يعود إلي عبادة المصريون لرع وآتون، والمهتمون بالآثار الفرعونية يعرفون أن الدائرة البارزة التي تمثل قرص الشمس – الذي صار هنا هو القرصة – كان أول مايواجه الداخلين إلي أى معبد
المهم كانت امي – رحمها الله – تهتم بوجودي بين”الناقشين” إذ كنت أجيد صناعة الخطوط والنجوم والمربعات والأشكال وكتابة الاسماء، بحيث تكون واضحة وبارزة ودقيقة تحافظ علي شكلها بعد التسوية وإلا تحولت إلي مايشبه أطلال دارسة، وتستعين الصبايا والسيدات علي العمل الدؤوب بالغناء الممتع، وربما تركت أمي لنا في آخر العمل بقايا العجين لنصنع منه مايروق لنا من اشكال، عروسة، حصان،جمل، طائر. وجوه بشرية
ثم تكون صناعة البسكويت الذي يحتاج إلي متخصص – عم “خليل الديب” نذهب اليه حاملين المواد الخام من دقيق وسمن وحليب وسكر.
وبعد سنوات، دخلت إلي عائلتنا عناصر مدينية متنوعة بسبب الزواج والتعليم، فعرفنا حشو الكعك بالملبن والعجوة بالإضافة إلي البيتي فور والشكلمة، المزدانة بالمكسرات واللولي،
وتعد تلك الخبرة والتي لايمكن تعويضها أو استبدالها، من أمتع مايمر به الإنسان من خبرات ،ففضلا عن الخبرات العملية – فإن الوجدان يثرى، والقلب ينتشي والمشاعر تتفتح، ويرفرف علينا وقتها عطر التاريخ، وعبير الحضارة ونغم التواصل ودفء التقاليد المصرية الأصيلة.
وتفرقت العائلة الممتدة إلي أسر نووية صغيرة، وباعدت بينها السبل، ورغم ذلك فإنني أحرص علي أن أهيئ لأولادي وأسرتي المرور بخبرة عمل كعك العيد، وسأهيئها لاحفادي، إذا شاءت إرادة العلي القدير

وينتظر الناس بفارغ الصبر آذان مغرب يوم التاسع والعشرين من رمضان، وعندما يذيع الراديوا إن دار الإفتاء قد أعلنت أن اليوم هو المتمم لشهر رمضان، وأن غدا هو أول أيام عيد الفطر المبارك، حتي تمتلئ النفوس بالبشر وترقص القلوب فرحا، فقد تم الصوم ومن حق الصائمون أن يتأملوا أن يغفر الله من ذنوبهم، ماتقدم منها وما تأخر، وينطلق صوت أم كلثوم الساحر، بكلمات رامي وألحان السنباطي، وكأنه زغرودة حياني منشدا ” ياليلة العيد آنستينا، وجددت الامل فينا” وتنفتح أبواب المتعة الحلال، والتي قيدها الصوم، والسنن، والرغبة في ختم القرآن، وربما المتعة غير الحلال ايضا، فقد أنشد شوقي: رمضان ولي هاتها ياساقي/مشتاقة تسعي إلي مشتاق،
وتستمر الزغرودة” حبيبي مركبه يجري/ونوره في النسيم يسري/قولوله ياجميل بدري/حرام النوم في ليلة العيد” ويعود الذين اغتربوا، ويلتقي في البيوت الكبيرة الإخوة والأقارب الذين ساحوا في الأرض، فشرقوا وغربوا، وحول أطباق الحلوي واليوسفي والسوداني تتجمع الأجيال جدود وآباء وأحفاد، وتقطع الضحكات الرنانة أحاديث الذكريات المتدفقة، وحكايات الزمن الغابر.
ومازال الصوت الساحر ينطلق” يانور العين ياغالي/ياشاغل مهجتي وبالي/ تعالي إعطف علي حالى/ وهني القلب ليلة العيد”
وقبل أن تشرق الشمس تكون أمى قد أعدت لنا تلك “العلقة” المحببة “حماية العيد” فإذا ما أوشكت الشمس علي الشروق تنطلق الآف الحناجر المؤمنة بتكبيرات صلاة العيد الشجية” الله أكبرالله أكبر/لا إله إلا الله/ الله أكبر كبيرا/ والحمد لله كثيرا/ وسبحان الله بكرة وأصيلا” ، فسرعان مانرتدي ملابسنا الجديدة، ونهرع خلف الآباء والأخوة الكبار، في الطريق إلي المقابر، وأمام المقابر وتحت أقدام الراحلين – الوقوف عند الأقدام لا عند الرؤوس – يلتقي جميع ابناء العائلة الواحدة بامتداداتهم العديدة وتبايناتهم الشديدة: فلاحون وأساتذة جامعات ، اميون ومثقفون، ساسة ومتنفذين وناس علي باب الله، يتبادلون جميعا ضحكات هادئة ودموع علي راحل عزيز وسؤال عن الصحة والولد وتبريكات، وقد فعل الزمن فعله المقدورفقد تكون قراءة قرآن هذا العيد، لمن كان يملا المكان بالبهجة في العيد السابق منذ شهور قليلة، وفي أعماق الخيال تمر بالأبيض والأسود صور الأحباء الذين رحلوا ، جدتي ، أبي ،امي ، إخوتي، وبعد الفاتحة وتوزيع ماتجود به نفوسنا من رحمة علي السائلين وقراء القرآن، نهبط من المقابر للمرور علي دور الأقارب والجيران، معيدين علي الكبار ومانحين للصغار العيدية – إذا كنت من ابناء العائلات المركبة مثلي فالأحسن أن تكتب اسماء الابناء والأحفاد في ورقة خشية السهو أو الخطأ، إمساك دفاتر يعني -، وكأن سيولا من السعادة والبهجة قد غمرت البيوت والشوارع يحملها أطفال بجلابيب جديدة وبدل وفساتين ، بل وبزات ضباط ، يحملون من اللعب أشكال وألوان: بمب، بالونات، مسدسات وبنادق، طبول وشخاليل وزمامير والآف الأصوات العشوائية التي تدفع الإنسان لكي يظل في حالة دائمة من الشوق إلي الحياة…………………… كمال مغيث


يمكنك دعم الموقع من هنا
مؤسسة ندى لحماية الفتيات

Exit mobile version