كان الأخ يونس، الذي يلبس نظّارة للبعيد، مؤذناً للمسجد. وكانت لحيته تطاوعه عدا في…


كان الأخ يونس، الذي يلبس نظّارة للبعيد، مؤذناً للمسجد. وكانت لحيته تطاوعه عدا في بقعة صغيرة إلى الجهة اليسرى من ذقنه. قال إنه جرح وقع له في طفولته حين أراد قتل علي بن أبي طالب. نهرته أمه آنذاك، ولا تزال تنهره في كل زيارة:
“إيش قال لك صاحب راسك؟ تقتل علي بن أبي طالب؟”
كانت ترفع يدها إلى أعلى من رأسها حين تنطق اسم علي، ثم تخفضها. وأحياناً كانت تبقيها في الأعلى إلى حين فراغ ابنها من كيل السباب لبجّاش الذي لعب دور عليّ وغش في اللعبة.

لم يفهم الأخ يونس كلام أمه حتى صار في الإعدادية. تركت تلك القصة أثراً في روحه ودفعته للخشية من التاريخ. وعندما تعددت الطرق أمامه اختار أن يكون مؤذناً، وكان يقول إن المؤذن يعيش في بقعة من الوجود لا هي في الماضي ولا هي من المستقبل.

بقي اسمه الأخ يونس وسيُنادى عليه القيامة: ليتقدم الأخ يونس. سيتقدم الأخ يونس، سيقع الكتاب في يمينه، وسوف يقول نُكتة عن الأمويين. ستضج أرض المحشر بالضحك. الأخ يونس يحب النكات، وهو يختلف كلّياً عن أي أخ يونس في الدنيا، فنكاته حكايات حدثت بالفعل. حفظتُ منه أكثر من مائتي نُكتة يدور أغلبها حول المصلّين، وكان يقول إن الله هو من يصنع له النكات أو يرمي إليه بخيوطها. غير أنه توقف عن ترديد ذلك الهراء بعد أن قال نكتة سخيفة في حافلة. آنذاك قال الأخ يونس لنفسه لو أن الله هو من يصنع له النكات لما خرجت تلك النكتة التافهة من حلقه. ثم أصبح مؤذناً وحارس مسجد ولم يتوقف قط عن ترديد النكات. أفضل نكاته كانت عن الأمويين وهم حي قريب من المطار القديم. ما من أحد يناديهم بالأمويين عدا الأخ يونس. وقبل أن يبلغ الثلاثين من عمره ترك الحي الواقع على أطراف المدينة وذهب إلى مسجد في المدينة القديمة. كان مسجداً للسلفيين، وقد أعطوه تلك الفرصة بعد إلحاح من شقيقه السلفي المعروف وهو يتحضّر لمغادرة البلاد إلى مكان لم يفصح عنه. في المسجد الجديد صار للأخ يونس كُنية، ولم يعد أحد يناديه بالأخ يونس إلا بعد أن يجتاز شارع الجمهورية ثم باب موسى. كان السلفيون من الماضي، وذلك ما راع الأخ يونس أول الأمر. ثم أدرك أن المؤذن هو مؤذن في آخر الأمر، لا علاقة له بالزمان ولا المكان.
توقف ، وقد صار سلفياً، عن ترديد النكات أمام الناس. ثم عاد إلى النكات خلسة دون الإشارة إلى الأمويين. لاحظ أن السلفيين صاروا يتداعون إلى الاستماع إلى نكاته بعد أن استبدل الأمويين بالصوفيين. وكانت نكتة العام حين قال لإخوانه السلفيين وهم يدردشون بين صلاتي المغرب والعشاء “قام أحد التبليغيين وألقى موعظة عن الخروج في سبيل الله مستدلاً بحديث. سمعه أخ سلفي كان بين الحاضرين فعارضه قائلاً هذا الحديث ضعيف. فما كان من التبليغي إلا أن قال: اخرج معنا وبإذن الله سيصير قوياً”.
صار السلفيون يرددون تلك النكتة أمام أنفسهم وقد أبدلوا الصوفيين مطرح التبليغيين لتصبح النكتة حقيقة.
كنّا نصدق الأخ يونس. كان يؤكد لنا، ولا يفعل ذلك إلا إذا جاع، أنه سيُؤتى كتابه بيمينه. سمعه عبد الله البعداني وهو يحمل الشاي إلينا على مهل، كأنه يمشي على زجاج مكسور، فقال معاتباً “ولا تدري نفسٌ ماذا تكسب غداً”. عاد إلينا البعداني مجدداً وفي يده صينيّة من النحاس عامرة بأقراص الزلابية. تبادل معنا النظرات دون أن يحرك شفتيه. غير أن الأخ يونس سمعه يقول وهو يباعد بين الزلابية والشاي “ولا تدري نفسٌ بأي أرض تموت”. ليس كل ما يسمعه الأخ يونس كنّا نسمعه.
كان الأخ يونس يعشق القرآن ويخاف منه. وكان يقول إن المتمعّن فيه سيعرف يوم موته. وأنّه، قال لي مراراً، لم يعُد يتمعن في القرآن حين يقرأ.
“وكيف تقرأه إذن؟”
قال:
“أرتّله. القرآن كتاب بديع يا أخي. إما أن تتمعن فيه أو ترتّله. إذا رتلته ضاع معناه، وإذا تمعّنت فيه ضاع صوتك”.
ثم سكت، وعاد ليقول وشفتاه ترتعشان:
“وستعرف يوم موتك”.
أذّن الأخ يونس ثلاثة أعوام متتالية في مسجد الحي. دعاني لأؤذّن معه، كان ذلك في العام الثالث قبل أن يترك الحي إلى مسجد آخر في وسط المدينة ويصبح اسمه “أبو حذيفة”. كان يعلمني ويقول “عليك أن تتذوق أشهد ألا إله إلا الله. تذوقها ولا تلحنها. لحّن باقي الأذان ولكن ليس الشهادة. دع الشهادة تخرج لوحدها كأنك تتحدث إلى أمك”.
كنّا نؤذن، وكان يونس معجباً بمعرفتي في الإعراب، تحديداً إعراب القرآن. كان يعود إلى غرفة المسجد، أو الحُود كما يسميها، منهكاً في المساء. وإذا لم يجد ما يفعله كان يستلقي في تلك الغرفة التي بالكاد تتسع لشخص لثالث، يضع كفّيه تحت رأسه وينظر إلى السقف كأنه يقرأ شيئاً ما ثم يقول “اعرِب لي هذه الآية”.
كان يقضي النهار في دكان قريب من حي الأمويين، وبالرغم من أنه كان مؤذن مسجد الحي إلا أنه لم يكن يؤذن سوى الفجر وربما العشاء. الأمويون زبائن دكانه. وهم جماعة من الناس ليسو بالطوال ولا القصار وأغرب ما فيهم أنهم يشبهون باقي الناس. يقتربون من الدكان مثنى وثُلاثى، يلقون السلام على الأخ يونس ثم يطرحون السؤال نفسه: أين أبوك؟ يرد يونس عليهم التحية، يطيلها ويتحكم فيها: وعليكم السلام ورحمة الله تعالى وبركاته ومغفرته وتحياته ورضوانه وعفوه وحلمه. يلحّن التحيّة وهو يمسح نظارته مانحاً الأمويين الوقت للتفكير بمرادهم.
لا يعرف الأمويون ما إذا كان للأخ يونس أب، وما إذا كان أبوه على قيد الحياة. وفي الغالب لا يعرفون ماذا يريدون من الدكان. غير أن الأخ يونس يعرف ماذا يريد الأمويون، وحين يغادرون يبدو عليهم السرور والرضا فيجلس الأخ يونس يتأمل مؤخرات رؤوسهم إلى أن تتلاشى خلف موقف الباصات على الجهة الأخرى. رأيتُ الأمويين مرّة واحدة. اصطحبني الأخ يونس ليريني مؤخرات رؤوسهم. وعندما تلاشوا بين الناس والعربات مسح الأخ يونس نظارته وتمتم “شفت كيف؟”.

كان صديقنا عرفات يزورنا دائماً ويؤذن معنا، وإذا تأكد أن أذانه كان رائعاً يدعونا إلى العشاء أو الإفطار على حسابه. ولكن كيف كان الأخ عرفات يتأكد؟ الحقيقة أنه كان يعُد المصلّين ويقارنهم بالذين حضروا بعد أذاني أو أذان الأخ يونس. كان عرفات ينطق حرف الراء بطريقة غريبة وعندما سألته قال إنها راء زهرانية. لاحقاً حدثني الأخ يونس بأشياء كثيرة عن الزهران، قال إنها بلدة في السعودية معروفة بحرف الراء ورجاني أن لا أسأل الأخ عرفات عنها. فكّر بكلامه، لم أسأله، كان فقط يفكّر بكلامه ونحن نمشي ونرى الشفق. ثم سألني فجأة، وبلا مقدمات، ما إذا كانت الزهران في السعودية. ضحكتُ وضربت كفّاً على كف، فقام هو ودفعني إلى حائط مواجه لمدخل الحي. كنّا نظن أن خلف ذلك الحائط معهد أجنبي يعلم اللغات الأوروبية. وكان الأخ يونس يعرفُ قصّة رهيبة عن ذلك المعهد المفترض. حفظ الحكاية من أهل الحي، وأهل الحي نقلوها عن المؤذن السابق، والمؤذن السابق كان يعيدها بمناسبة ومن غير مناسبة وعندما ينتهي منها يأخذ حصوات من الأرض ويرميها في الهواء قائلاً: الله الله يا أوروبا. أحب أهل الحي تلك الحكاية كما لم يحبوا حكاية من قبل، واتفقوا جميعاً على أن يحملوا وزرها إن بدا مع الأيام أنها كذبة. ذلك ما حرّر الأخ يونس من ألم الضمير وجعله يمد في تلك القصّة حتى صار بمقدوره أن ينهيها في نصف عام.
– إن كانت كذبة إثمها علينا، قال الشبان
– ولو كانت حقيقة فله أجرها، قال الكهول.
تقول الحكاية:
في ليالي الكريسماس الثلاث يجتمع في المعهد كل الخواجات المقيمين في تعز. يحتفلون، يصلّون، ويسكرون ثم يمارسون الجنس على طريقة الأتراك. لم يخبرهم المؤذن السابق عن كيف يمارس الأتراك الجنس. الأخ يونس عرف الجواب وكتمه. لمّا أسرّ إليّ بالجواب قال هامساً “شيء رهيب يا أخي، شيء رهيب”. وكيف عرفت التفاصيل؟ كنت أسأله. وكان يقول: صدفة يا أخي. لم يخبرني قط عن تلك الصدفة، ولا عن كل صدفه الأخير التي تحدث طيلة العام.
سينقل تلك الحكاية إلى المدينة القديمة، وسيستمع إليها السلفيون بخوف وشره. ورغم بشاعة القصّة إلا أنها لن ترد قط في خطب السلفيين التي تقول كل شيء. لم يحبوا أن يشاركهم أحد تلك المعرفة.
قال له الحاج علي، هكذا وبلا مناسبة، للأتراك عيدٌ يحتفلون فيه بأن يقفوا في دوائر، كل دائرة من تسعة أشخاص، يمسك كل تركي بكتفي التركي الذي أمامه ثم يدورون ألف دوره ويغنون بلا آلات. أثناء دورانهم يتصايحون كالمجاذيب حتى يكملوا الألف دورة دون أن يغلبهم النعاس، وذلك هو نكاحهم. سأله الأخ يونس عن الفتيات في تلك المعمعة. وبدلاً عن أن يجيبه عن سؤاله فتح الحاج علي فمه ونسي أن يغلقه. ثمّ، وكأنه أفاق من سباته المفاجئ، قال صارخاً:
“اتقِ الله. إيش من نسوان؟ هذي جهنم الحمراء”.
الأخ يونس يعتمد في حياته على التونة والروتي، ولا يدري كيف سيتقي الله أكثر من ذلك.
سأل الحاج علي عن مصدر القصة فراح الحاج يحرك عمامته من الشمال إلى اليمين ومن الخلف إلى الأمام ولمّا لم يجد جواباً قال للأخ يونس:
“أشتيك في الكريسمس اللي شيجي تضرب أذان يطيّر بالمعهد للمخا”
ثم ضحك الحاج علي وبرزت أسنانه التي تشبه حبّات الذرة. قام يفرك جبهته ويفتح ثلاجة الدكان ويغلقها وهو يغمغم:
“لا تضرب أذان ولا شي، خليهم عندنا أحسن. بس والله قتلني الشجن يا أخ يونس”.
كان الحاج علي صاحب أفضل دكان في الحي، وهو هناك منذ زمن طويل ويعرف أشياء لا تعد ولا تحصى عن الأتراك الذين لم يرهم قط. أدرك للتو إن حكايته ناقصة فنادى على الأخ يونس، وكان قد غادر المكان يحمل في يده كيساً شفافاً:
“ارجع مله شاكمل لك القصة”.

أما الأخ يونس فلم يكن قط مصدقاً لتلك الحكاية حتى رأى عيون السلفيين شاخصة إليه، فراح يمدّها ويزيد في تفاصيلها حتى إنه أدخل إلى جهنم الحمراء نسوة وغلمان وماشية.

——-

مروان

يمكنك دعم الموقع من هنا
مؤسسة ندى لحماية الفتيات

Exit mobile version