عن الظل الطويل لتلك الحرب


عن الظل الطويل لتلك الحرب
مروان الغفوري
———

عن الظل الطويل لتلك الحرب.
مروان الغفوري
ـــ
يتردد مؤخراً حديثٌ عن أن القوات السعودية التي وصلت، في الأيام الماضية، إلى عدن ستعمل على استعادة قصر الرئيس هادي (مِن مَن؟)، وستسهل عبوره من المطار إلى قصره، في حال قرر العودة. لم تفلح عاصفة الحزم، التي انطلقت لأجل استعادة الشرعية، في استعادة دار في عدن المكتظة بجيوش وآلات التحالف، ولفيف مترامي الأطراف من الكتائب المُلحقة.
كان محمد بن زايد يشرح الأسباب التي دفعت بلاده للمساهمة في التحالف، قائلاً إن دولته لن تسمح بإهانة جد العرب. محمد بن سلمان، ولي عهد السعودية، اختار تعبيراً آخر في الحديث عن جد العرب: “أصل العرب”. ثم، بعد وقت يزيد أو يقل، ترك بن سلمان ما يقرب من مائة برلماني يمني لنصف عام حتى يأذن لهم بالدخول عليه. وعلى غير عادته قرر بن سلمان أذن لهم بن سلمان بإلقاء القصائد التي تمجد سلالته وتاريخها، واستنكف عن قول بضعة كلمات أمام “أصل العرب”، ولو عن طريق المواساة كأول مرة.
عندما قرر جد العرب “هادي” إقالة مسؤول عسكري صغير اسمه “أبو قحطان” ضربته القوات الإماراتية بطائرات الأباتشي. وشوهد جد العرب هادي ينزل إلى مطار أبو ظبي بينما يقف في انتظاره صغار الضباط. قررت الإمارات أن توجه صفعة قاسية إلى وجه “أصل العرب” أمام عدسات الكاميرا، لأسباب غير معروفة، وربما كانت غاية في التفاهة، متجاهلة كل الأعراف الدبلوماسية بما فيها تلك التي تتسامح مع أقسى الصفعات، شريطة أن تؤدى بدبلوماسية. تجاهل “بن زايد” جد العرب، وفضل التقاط الصور مع أحد سلَفيي عدن الأكثر راديكالية، يدعى “هاني”. سبق أن نجحت السعودية في تحويل صالح، الرئيس، إلى مرتزق في كشوفات مدفوعات اللجنة الخاصة، بحسب حليفه السابق الجفري.
الاحتمالات التي يمكن لليمن أن ترسو عليها مظلمة. فأياً كان شكل الدولة التي ستخرج من هذه العاصفة فستكون، بالتأكيد، دولة ناقصة السيادة على نحو جذري. في جنوب اليمن قفز القادة الشعبويون إلى الإمام وتنازلوا، كلياً، عن السيادة. فقادة المجلس الانتقالي يعقدون لقاءاتهم تحت العلم الإماراتي في غياب تام للعلم اليمني. لا مقابل، حتى الآن. فقد بيعت السيادة جنوباً مقابل أن تدبر الإمارات رواتب شهرية منتظمة، وغير رسمية، لسلسلة من التشكيلات الميليشوية التي تعمل تحت إدارتها. إن أفضل ما يمكن أن تقدمه الإمارات للجنوب هو أن تساهم في استعادة السلطة البيروقراطية للدولة، بأجهزتها الوظيفية كلها. تعمل الإمارات على الحيولة دون ذلك، فهي تدرك أن الفراغ هو الوضع المناسب لحركتها. في صنعاء، كما في مأرب، لا يملك اليمني قراره، ولا أرضه: أي سيادته. ومن غير المتوقع أن تخرج السفينة من الظل الطويل للتحالف، وللحرب، في المدى المنظور. فنحن أمام رؤية عملية تقول إن اليمن أخطر من أن يُترك وحيداً.
بالإمكان إلحاق هزيمة عسكرية سريعة بالحوثيين في الجزء الواقع تحت سيطرتهم، ولكن لماذا. فاليمن بلد جائع منذ زمن طويل، وتسكنه الحروب. إن الصورة النهائية لليمن الراهن، في تجلياتها الكارثية المفزعة، هي بالنسبة لصانع السياسة والأمن في الخليج تبدو مألوفة، فلا تشكل ضغطاً. لم يحدث أن اكترثت السعودية لمسألة الدولة اليمنية خلال تاريخ العلاقة بين البلدين. أما عاصفة الحزم فقد وقعت لمنع “الهلال الشيعي من الاكتمال”، كما يقول بن نائف، ولي العهد المعزول. استعادة الدولة اليمنية مسألة أخرى، ومختلفة.
يحتاج اليمنيون لسلام يستند إلى مشروع دولة، على أن تكون دولة قابلة للبقاء، لا دولة ملفقة. الدولة التي أنجزها صالح، خلال ثلث قرن، كانت دولة ملفقة، وكان يعمل على إصلاح أعطالها المتكررة بالحروب. تدرك السعودية الفرق بين دولة قابلة للحياة ودولة ملفقة، لكن ذلك الفرق لا يحفزها لفعل شيء ما. ويبدو أن السعودية صارت مقتنعة أنه من الصعب أن ينجز اليمنيون دولتهم في المدى المنظور، وأن أفضل النتائج الممكنة هي أن لا تتسبب لادولتهم في زعزعة دولة الآخرين. قبل أشهر عرضت صحيفة الشرق الأوسط، السعودية، تقريراً عن الغوث المالي الذي قدمته السعودية خلال أشهر للشعب اليمني. في تقريرها اعتبرت الصحيفة التحويلات المالية التي تصل المواطنين اليمنيين من ذويهم “العمال” في السعودية عوناً مالياً سعودياً، ومكرمة تستحق التمجيد. ذلك أقصى ما يمكن أن تقدمه السعودية لجارتها: سلسلة من التحويلات المالية المتكررة، على المستوى الفردي، تخرج من الدولة وتصب في اللادولة، مع دعم رأسي مباشر إلى الحكومة المركزية يكفي لتثبيت العناصر الجنينية للدولة البيرقراطية، على أن تبقى جنينية في كل أطوارها، كما حدث مع دولة صالح.
تبحث السعودية، مؤخراً، عن وسيلة تمكنها من إعادة صالح إلى الحكم، لكي يستعيد دولته الملفقة. ترى السعودية في ذلك النموذج حلاً سحرياً للمشكلة اليمنية. فاليمن، في التقدير السعودي، مشكلة على شكل دولة، أو العكس. وقبل عامين قلتُ لرئيس اللجنة الخاصة السعودية، المعنية بالشأن اليمني، إن اليمن واحدة من الأقدار الطبيعية التي لا يمكن زحزحتها، وأن السعودية إذا كانت ترغب بجار كالسويد أو فنلندا فلن تكون بلد النفط الأكبر في العالم. وأن هذا القدر التاريخي هو قدر من اتجاهين، وأن اليمن لو أنها وقعت إلى جوار السويد لكانت قد حصلت على نظام حكم رشيد، ودولة قابلة للحياة.
يعيش الرئيس هادي في السعودية، وبمقدوره العودة إلى اليمن لو أذن له التحالف، وأتاح له ظروف العودة. يحتاج اليمن، أكثر من أي وقت مضى، لرؤية الرئيس هادي وهو يمشي في شوارع البلد. تحتاجه أيضاً السعودية في المعركة التي تخوضها وفقاً لمصلحتها. المصلحة السعودية أولاً، بما في ذلك عندما يتعلق الأمر بهادي، فعليه أن ينجز مصلحتها قبل أي شيء. إذا غاب هادي عن المشهد، قُتِل، فإن التبرير القانوني الذي تستند إليه حرب السعودية في اليمن سيختفي أيضاً. لكن عودته إلى اليمن، وإن كانت تنطوي على خطر ما، فإنها أيضاً ستمنح السياسة والحياة والمقاومة وزناً كبيراً في بلد أهلكته الحروب، وهيمنت عليه روح التشظي. يريد البلد “جد العرب هادي” لدعم استقراره، ولو عند مستوى ما، وتريده السعودية، فتنال ما تريده. وكعادة جد العرب فإنه يأتي أخيراً.
سيمضي وقت طويل حتى يعثر اليمنيون من جديد على دولة، وستكون تلك الدولة بحاجة ماسة إلى قدر مرضٍ من سيادة صعبة المنال. حتى مع القدر اليسير من السيادة فإن الديموقراطية كما نعرفها ستصبح جزءاً من أحلام ثورة ١١ فبراير، الثورة التي سرعان ما صارت جزءاً من ماضٍ سحيق. وفي أفضل الظروف فإن شكلاً من أشكال ديموقراطية التوافقات، على الطريقة اللبنانية، سيحل بكل طاقته التدميرية الكامنة. ومن وقت لآخر ستتدخل السعودية لإصلاح أعطال الحياة مستخدمة كل تلك الوسائل التي صنعت الأعطال.

عن الظل الطويل لتلك الحرب

يمكنك دعم الموقع من هنا
مؤسسة ندى لحماية الفتيات

Exit mobile version