عن الطب والأدب…..


عن الطب والأدب..

– أتحدث في موضوعي عن نداهة الأدب التي تنادي بعض الأطباء. هل الكتابة في رأيك مرض أم وسيلة جديدة للتعافي..؟

* على المرء، وهو يحاول احتمال كل هذه الدنيا، أن يعبّر عن نفسه، كما يقول الروائي السويسري ماكس فريش [ت. 1991]. الطب حمل ثقيل، هو إقامة مفتوحة في مكان ما بين الحياة والموت. أي في المكان الذي تتخلق فيه الأسطورة، الخرافة، الشعر، والملحمة. يُعتقد أن الثيمات التي تشغل الأدب، غير الكرامة البشرية والحريّة، تبلغ 33 ثيمة. وهي، كلها تقريباً، ما يشغل علوم الطب. الفقد، الخوف والآلام هي زوّادة الشاعر وشواغل الطبيب، يختبران اللحظة نفسها. الطبيب قارئ مثالي للأدب، في الأدب يجد تفسيراً فوق مادي لموضوعه: الكائن البشري بوصفه منتجاً للدين والثقافة والطبقة الاجتماعية. يعلم الطبيب أن عليه أن يفهم المريض أكثر من المرض، وهنا يأتي الاحتياج الماس للأدب: يساعد على فتح ذلك المغلق، على التسلل إلى عالمه ورؤيته من الداخل. عند لحظة معيّنة يجد الطبيب نفسه خاضعاً لرغبة قاهرة تصرخ به من الداخل: اكتب الكتاب الآن، أخبرهم الحقيقة. يكتب الأطباء، يكتب الكثيرون منهم وربما كلهم، وهذه ليست مبالغة. غير أن نسبة صغيرة هي التي تجتاز رهبتها وتنشر ما كتبته.

– هل هناك ما يميز أدب الطبيب في السرد أو الحبكة؟ كيف تنظر إلى هذا الأمر.. هل تجد له نظرة فلسفية أعمق من مجرد كونها موهبة يمارسها بعض الأطباء؟

* لا يمكنني القول إن هناك ملامح أسلوبية أو لغوية تميّز الأدب الذي ينتجه الطبيب عن الأدب الذي ينتجه الآخرون. في آخر المطاف فإن الكاتب يعود إلى المجرة العظمى للنصوص، ذلك الفيض اللاواعي حيث كل نصّ جديد هو تناص مع سابق له، كما ترى كريستيفا. ربما تتجه مصائر الأبطال إلى نهايات مليئة بالعظة والعبرة، أو تمتاز شخصياته الروائية بالتواضع والحكمة، وأحيانا تكون اللغة قريبة إلى التبشير والإنشاد. قلما نجح الكاتب الطبيب في الإفلات من معطف المبشّر الحكيم، من رأى النهايات والخواتيم رأي العين. لنتخيل الطبيب على هذا النحو: كان طفلاً متفوّقاً، ثم يافعاً يكتم معرفته وأسراره إذ هي سر قوته، وفي الختام يصبح الرجل الذي يتحكم بالمصائر ولا يمكن مراجعة كلماته وتعليماته. يسمي الألمان الطبيب: نصف إله في الأبيض. إن ما يميّز الإله، لدى كل أمّة، هو أنه كائن راغب في الكلام على الدوام، وكلامه صادر عن حكمة متسامية. غالباً ما تتجلى تلك الحكمة في كتاب. في حياة الطبيب جزء عظيم تحت السطح: الحكّاء. يحكي الأطباء بلا انقطاع، وتلك سمّة تكاد تشمل جميعهم. لا يوجد طبيب لا يملك في كل وقت قصصاً للحكي. غير أنهم يختارون لمن يقصّونها. الأطباء حكاؤون جيدون، جودتهم ربما تعود في المقام الأول إلى جودة القصص التي يحملونها، بما فيها من إبهار وصدمة وعظة. قليلون فقط هم الذين يقررون أن يقصّوا لكل الناس، أن يكتبوا كتباً.

_____
من حوار أجرته الصحفية هويدا أبو سمك مع عدد من الروائيين الأطباء العرب. أعيد هنا نشر الجزء الخاص بي من الحوار.

يمكنك دعم الموقع من هنا
مؤسسة ندى لحماية الفتيات

Exit mobile version