عائشة….


عائشة.
——-

في الأيام الماضية نشرتُ نصوصاً زعم ناقلوها، محدثون ومؤرخون، أنها صحيحة، وأنها عن أفعال النبي محمد. انقسم الناس حيال النصوص إلى غاضب مني، أو مدافع عنها. آخرون تعاملوا مع النصوص برويّة وحكمة. معلّقون كثيرون طالبوني بإعلان إلحادي، وآخرون رجوني أن لا أنشر مثل تلك النصوص لأنها تهدم ما سبق وكسبته في المعركة. كسبته؟ في المعركة؟ نعم، هكذا.

لنوسع النقاش قليلاً:
دعونا نلق نظرة على حديث أورده كثيرون، وسنختار اثنين ممن أوردوه: أبو داوود في السنن، وابن حنبل في المسند. عن عائشة أن رسول الله كان يقبلها وهو صائم، ويمصّ لسانها. أحدثت جملة “يمص لسانها” جدلاً بين المحدثين في القرنين الثالث والرابع الهجري. صار الجدل إلى تصحيح النصف الأول من الحديث، وتضعيف نصفه الأخير. غير أن الأمور لم تجر بسهولة، فقد عرف الجزء الثاني من الحديث طريقه إلى الفقه، وهو عند ابن خزيمة في فصل تحت عنوان: باب الرخصة في مص لسان المرأة.

لنذهب الآن إلى مكان آخر، ولنترك هذا الحديث الرائع في مكانه. فهو نصّ عن النبي البشري، يعيش بشريته بكل معانيها ومستوياتها، ترويه زوجته [أم المؤمنين] دون توجّس، حتى وإن لم يصح النصف الثاني من الحديث رواية [لأن في إسناده محمد بن دينار، إلخ] فهو يجوز دراية.

قلتُ سابقاً أن “عائشة وعمر وخالد” كانوا أهم ثلاثة مدافع للإمبراطورية الإسلامية في القرن الأول الهجري: الفكر، نظام الحكم، العسكرية.
وأن العترة الشريفة كانت القرحة، قرحة الإمبراطورية.

المَدافع الثلاثة تلك كانت التحدّي الأخطر أمام مشروع العترة، المشروع الذي خلق ديناً موازياً لما أدركه عرب القرن الأول. ستؤلف العترة الشريفة، ومشايعوها، آلاف الكتب عن عليّ الكرّار، علي البطل، علي صاحب ذي الفقار، عليّ الفتى الذي أفنى الجيوش. إنها سيرة زائفة عن رجل تقاعد عن الحروب وهو في الثالثة والثلاثين من عمره، ثم عاد إليها بعد أن تجاوز الستين فخسرها كلها. وحتى حياته العسكرية المبكّرة فقد كان فيها جندياً مغموراً “لا طالباً ولا مطلوباً” كما وصفه الجاحظ في “العثمانية”. تلك السيرة الزائفة استهدفت قصة أبرز جنرال في التاريخ العربي- الإسلامي: خالد بن الوليد. بلغ علي درّجة الكرّار – حتى وهو عند عموم المؤرخين بديناً عظيم البطن وبطيء الحركة – ليُطاح بالجنرال الحقيقي الذي دفع الحدود العربية شرقاً وغرباً.

يُراد للإسلام أن يكون مُنتجاً هاشمياً، فلا شرف فيه ولا بطولة سوى لبني هاشم. دين العترة يرى باقي البشر رعايا، ليس في مقدورهم أن يسهموا بشيء ذي معنى، ولو رواية حديث. يعرّف الحرّ العاملي في “وسائل الشيعة” الحديث الصحيح على هذا النحو: هو ما رواه العدل الإمامي الضابط في جميع الطبقات. إن لم تكن إمامياً [عتريّاً] فأنت لا تملك شرف رواية حديث عن النبي،نبي العترة، رسول السلالة. هذا ما تعنيه مفردة الإمام: ذلك الذي تحتاجه الأمة وتنتظره لأنها من دونه في ضلال. انفرد عليّ بالصفة دون سائر الصحابة، فهو صاحب السرّ، الوحيد من يملك القدرة على تخليص الناس من الحيرة والضياع. وجدوا للكرّار علي موضعاً في غرب الجزيرة العربية ليثبت فيه عبقريته العسكرية: خيبر. حمل علي الراية أمام أحد الحصون، ووقعت مهاوشة من وراء الجدران، انتهت باتفاق سلام بين المسلمين واليهود. لا يوجد دليل واحد على أنها كانت معركة، ولا حتى حرباً. كانت تهديداً عسكرياً يرمي إلى تحييد اليهود عن الصراع الحاصل بين المسلمين وسائر العرب. ليس للكرّار من ظهور آخر في التاريخ. يُراد من خلال اختلاق التاريخ الموازي الإطاحة بالجنرال “ابن المغيرة” من قائمة الأبطال المؤسسين، أن تحتكر العترة التأسيس فكرياً، سياسياً، وعسكرياً. في الحادثة تلك، خيبر، جيء بعليّ من الطاحونة، كما يقول المحدثون بمن فيهم البخاري، وطُلب منه أن يحمل الراية. كان يصنع الخبز للمقاتلين، وذلك عمل يستحق المديح. غير أن الطاحونة والجيش ليستا شأناً واحداً.

ما علاقة هذه المسألة بحديث “كان رسول الله يقبل عائشة وهو صائم، ويمص لسانها”؟

كما استهدفت السلالة خالد بن الوليد وباقي الجنرالات العرب الأكثر شهرة في القرن الأول الهجري، تستهدف عائشة، فيلسوف الإمبراطورية. نالت عائشة بشكل استثنائي استهدافاً ممنهجاً دوناً عن سائر نساء النبي الأخريات. كانت عائشة فيلسوف الإمبراطورية، استطاعت أن تضع حداً للعديد من ظواهر الهراء التي بدأت في التشكّل بُعيد موت النبي محمد. من ظواهر الهراء التي جابهتها عائشة بما تملكه من معرفة وجسارة وخيال كان هراء آل البيت. قلنا سابقاً إن عليّاً عاش ربع قرن صامتاً في المدينة، وكذلك بنوه. ما من أثر للرجل وبنيه في العاصمة، وكل ما سيُروى عنه فيما بعد لن يعدو كونه خرافة باهتة. ذلك أن امرأة قوية، ذات خيال ومعرفة، اسمها عائشة كانت تسكن بالقرب من داره. كانت ضابط إيقاع العاصمة، شرطياً فلسفيّاً وضع على عاتقه مهمة جسيمة: مراقبة سوء الفهم، سوء التقدير، واستغلال الدين. تبكي النساء في دار الخليفة عثمان في ساعة عزاء، فيهمس ابن عُمر في أذن ابن عبّاس “ألم يقل رسول الله إن الميّت ليعذب ببكاء أهله عليه؟” فيرد عليه ابن عباس بصوت خفيض حتى لا يسمعه الحاضرون: ذلك حديثٌ ردّته عائشة، قالت إنه يتعارض مع قول الله ولا تزر وازرة وزر أخرى. لماذا لم يفطن ابن عبّاس نفسه إلى خطورة ذلك الهراء؟ أفسحت عائشة وقتاً من حياتها لتتبع تلك الظواهر، ويتساءل الغزالي في كتاب “السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث” عن عدد الأحاديث الزائفة التي نجحت في التخفي عن رادار عائشة. كانت عائشة، في تقديري، هي المرأة العربية الأقوى لقرون عديدة. وليس ذلك لأنها زوجة النبي، بل لأنها عائشة العربية.

مثلت عائشة التحدي الإيديولوجي، أو الأزمة الإيديولوجية، التي واجتها العترة في طور النشوء. كان ابن عبّاس، مثل عليّ، يفكر
بالإسلام تفكيراً عشائريّاً، ولم تواتهم الشجاعة للإفصاح عن أفكارهم وتخيلاتهم. وما إن أتيحت لعليّ الفرصة في أن يشن حرباً على عائشة فإنه لم يتردد لحظة. ولننظر إلى خطورة ما فعله: استغل خروجها من الحجاز ليشن عليها حرباً في أرض العراق، أبعد ما يكون عن العاصمة. ولما أدرك فداحة ما قام به خشي من العودة إلى العاصمة فأسس عاصمته في مضيعة من الأرض، وجرى وراء أوهامه الخاصة وانتهى الأمر بمقتله.

ما كان لعلي أن يردد هراءه في المدينة وعائشة تراه، كانت ستلقيه أرضاً وتحوله إلى دجال ببضع كلمات. في العراق، وقد تفتحت أمامه السماوات وحصل على شعب بلا تاريخ، صار يروي الأحاديث عن فضائله، ويعاونه أصحابه في روايتها.

ما علاقة هذا الأمر بمسألة “كان رسول الله يقبل عائشة وهو صائم ويمص لسانها؟”

كل نص لعائشة يفصح عن مكانها الخاص من النبي تأتي العترة بنصوص توازيه. استُهدفت، بدوافع إيديولوجية، على كل المستويات. إن مثل هذا الحديث قد يبدو عاديّاً للغاية، وإن كان الفقهاء يرونه حاسماً في المسائل المتعلقة بدفتر أحوال الصائم، وما يجوز له. بالنسبة للعترة فهو حديث خطر، المرأة تقول إن النبي حتى في صيامه لم يكن يتخلى عن عشقه لها، كانت جزء من تعبّده، توغلت في حياته كلها واستعمرتها. ما سيعني أيضاً استيعابها لفلسفته ورؤيته للعالم، ستكون الخليفة الفعلي للنبي الراحل. لم تكن عائشة من العترة، كانت من العاديين، أولئك الذين سيقول لهم ابن عبّاس “بماذا شرفتم؟ إنما شرفتم بنا” كما في جدله مع ابن الزبير، ابن أخت عائشة. لعائشة رؤية كونية استنبطتها من الإسلام، تراه شأناً يخص العالمين كلهم، ليس فيه مكاناً للطبقات ولا الأنساب. تأمل المؤرخ العربي الأشهر ابن كثير سيرتها فدون انطباعه قائلاً “لم يكن في الأمم كلها مثل عائشة في علمها وعقلها”.

هذا أمر شاق على العترة، حديث على بساطته بمقدوره أن يزلزل أركان الدين الموازي، ذلك الذي يعتمد كليّاً على قتل الثلاثة: عائشة، عمر، خالد. لا بد من إخراج الثلاثة من التاريخ كي يصبح للعترة معنى.

تخلّقت أكذوبة الكرار لتزيح التاريخ العسكري للجنرال الأقوى، وجرى اختراع تاريخ مواز يستهدف مولد التيار: السيدة عائشة بنت أبي بكر. أنا هنا لا أتحدث عن الشيعة ولا التشيّع، وأرجو أن لا يُفهم حديثي في هذا السياق. أتحدث عن العترة، عن السلالة، عن القرحة. سارعت العترة إلى هندسة أحاديث تهدف إلى إزاحة حديث عائشة المشار إليه أعلاه، أدخلت أفراداً من العترة في دائرة الشرف تلك. إذا كان الرسول قد قبّل عائشة في شفتيها فإنه قبل الحسن في ذكره. ليس مستغرباً أن يساهم ابن عبّاس شخصياً في رواية الحديث والترويج له. وإذا قالت عائشة كنت أفرك المني من ثوب رسول الله فإن العترة تبادر إلى صناعة حديث يقول “كان الرسول لا ينام إلا ورأسه بين نهدي فاطمة، يقبل فمها ويمص لسانها [راجع فيض القدير للمناوي، ج5، صفحة 174]. هوس العترة بالمجد والسلطة دفعها إلى ارتكاب جرائم تاريخية في حق نفسها، حق التاريخ العربي، وقبل ذلك في حق النبي نفسه.
لن نخوض في استعراض المعركة التي خاضتها العترة مع المدفع الثالث، عمر بن الخطاب، ففي “نهج البلاغة” المنسوب إلى علي ما يغني. لا أعني هنا ما كتبه شيعة آل البيت عن عُمر بن الخطاب، فذلك أمر خارج نقاشنا، بل ما ردده عليّ نفسه في خطبه بحق الرجل. ومما تجدر الإشارة إليه أن “الكرّار” لم يردد ما قاله في حق عمر إلا حين صار في العراق، بعد موت ابن الخطاب بربع قرن.

وليست مصادفة أن يكون عبيد الله بن عمر بن الخطاب أول الفارّين من المدينة إلى الشام ما إن نصّب عليّ نفسه أميراً للمؤمنين.

—–

مروان الغفوري

يمكنك دعم الموقع من هنا
مؤسسة ندى لحماية الفتيات

Exit mobile version