توعية وتثقيف

جولة فى تاريخ البشريه (١١)…


جولة فى تاريخ البشريه (١١)

لم يرى أحدٌ فناً فى وضوح ونقاء لوحات رافائلّو (Raffaello). (حتى أن البعض قالوا إنه ربما جاء من عند الآلهه.) كان سن رافائلّو ٣٧ سنه عندما أكمل لوحته الرائعة ‘التجلى’ (‘Transfiguration’)، فذهب إلى إحدى “سيدات الليل” للإستجمام وفك التوتر. (كان هذا أمراً عادياً ومقبولاً فى ذلك الزمن.) إستيقظ فى الصباح يعانى من حمى شديدة ومات بعد يومين (*). ذكرت المسكينة إن الفقيد كان لديه فى تلك الليلة حيوية لم ترى مثلها طوال إشتغالها بالمهنه، لكن لم يكن فى هذا عزاءٌ للبشرية عن فقدان تلك الموهبة الفذة.

لكن هذا المقال ليس عن سيدات الليل، ولا هو حتى عن رافائلّو (**)، بل عن الفترة التى عاش فيها الفقيد – عصر النهضة – الفترة التى خرجت فيها البشرية، بعد طول سبات، من ظلمات العصور الوسطى التى وصفتُها فى المقالة السابقه.

كان النظام السائد فى العصور الوسطى هو تحالف بين الإقطاعيين ورجال الدين يمتص دماء شعب جاهل يعيش فى ضباب الغيبيات. ظهرت أول شقوق فى ذلك الحصن الإقطاعى/الدينى فى جمهورية فلورنسا عندما تولى حكمها كوزيمو دى ميديتشى (Cosimo de Medici). كانت عائلة دى ميديتشى تمتلك أول بنك فى التاريخ وتمثل طبقة جديدة صاعدة من رجال الأعمال. إرتخت فى عهدهم سلطة رجال الدين وإزدهرت الفنون بكافة أنواعها، وترعرع تحت رعايتهم عدد من أعظم الفنانين على الإطلاق، أذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر ليوناردو وميكلانچلو ورافائلّو وبوتيتشللى.

وكما لو أن الطاقة الخلاقة كانت مخزونة لألف سنة تتحين الفرصة للإنطلاق، تفجرت الفنون على أيدى هؤلاء العظماء على نحو لم ترى له البشرية مثيلاً من قبل. أعادوا إحياء تقاليد العصر الكلاسيكى بواقعيتها وديناميتها وبهجتها، وأضافوا إليها تقنيات حديثة فى صناعة الألوان والخامات وإستخدام المنظور (perspective). لم يتخلوا عن الموضوعات الدينية، لكنهم أعادوا صياغتها فى صورة إنسانية متفائلة تمجد الجمال ولا ترى عاراً فى الجسم البشرى. كان چورچيو ڤاسارى (Vasari) رساماً وأديباً عاش فى ذلك الوقت (***)، وفى ما كتبه عنهم كانت الجملة التالية التى لا تُنسى: “أحياناً يرسل لنا الله أشخاصاً فيهم نفحة من ذاته.”

الفنان الذى جسد مُثُل عصر النهضة فى أكمل صورها هو ليوناردو دا ڤينتشى. لم يكن ليوناردو رساماً لا يُعلى عليه فحسب، بل كان مهندساً فذاً ومخترعاً عبقرياً ومفكراً عقلانياً عميقاً. أي أنه كان يجسد ما أطلق عليه المؤرخون فيما بعد ‘رجل النهضة (Renaissance man)’. ومن حسن حظ البشرية أن ليوناردو كان دائماً يسجل أفكاره فى كراسة يحملها معه. ونجد فى تلك المذكرات إسكتشات تفصيلية لمخترعات لم تتحقق إلا بعده بمئات السنين، مثل الطائرة العمودية والدبابة والمضخة اللولبية وغيرها، وكذلك إسكتشات لتشريح الجسم البشرى (الذى كان محرماً فى ذلك الوقت،) وخواطر فلسفيه ومشروعات للوحات فنية وغير ذلك. إذا أتاحت لك الظروف أن تكون فى فلورنسا ذات يوم، خذ رحلة سريعة إلى قرية ڤينتشى (Vinci) القريبه. سترى المنزل الذى وُلد فيه ليوناردو وطبيعة توسكانا الخلابة المحيطة به.

كان ليوناردو “إبن حرام (bastard)” كما يقول العامة؛ (أمه كانت خادمة فى منزل أبيه.) لكن قيمة أحد أظافر قدميه كانت أثمن من رقبة أي أمير بارك مولده ١٠ أساقفه. كذلك لم يكن ليوناردو متديناً مثل عامة البسطاء، لكن شعرة واحدة من رأسه كانت أثمن من رؤوس كل كرادلة روما مجتمعين.

ليوناردو لم يكن له نظير، لكن فنانى النهضة الآخرين كانوا أيضا عظماء دخلوا التاريخ من أوسع أبوابه. لا أحتاج هنا للإستفاضة عن ميكلانچلو وما أهداه للبشرية – أذكر على سبيل المثال فقط تمثال ‘الأسى’ (‘pieta’) وسقف كنيسة السيستين (Sisine Chapel) فى الڤاتيكان، وتمثال داود الذى يمكن أن تشاهده فى جاليريا ديللا أكاديميا فى فلورنسا. وقد رد ميكلانچلو الجميل لعائلة دى ميديتشى بنحت مقبرة للورنزو العظيم لامثيل لها (يمكنك أيضاً أن تشاهدها فى فلورنسا.) أما ساندرو بوتيتشيللى (Botticelli)، فقد كان له طراز متميز بديع، تتراقص فيه الأشكال كأن الدنيا عرض باليه. وقد كان له شرف رسم أحد حوائط كنيسة السيستين (*4) بجوار رائعة ميكلانچلو.

على بعد دقائق من كاتدرائية فلورنسا يقع دير سان ماركو الذى زين خلاياه فنان آخر من أبدع فنانى عصر النهضه – فرا أنچيليكو (Fra Angelico). كان فى ذلك الدير راهب كاريزماتى إسمه ساڤونارولا (Savonarola) يعتنق أفكاراً أصولية متزمته. كان ساڤونارولا هذا يخرج إلى الأسواق ويخاطب الرعاع محرضاً إياهم ضد التحرر والفنون وسائر مباهج الحياه. وتبعه كثيرون (كما حدث فى مصر فى ماضى ليس ببعيد.) أصبح ساڤونارولا الحاكم الفعلي للمدينة، وصار ينظم فى الميدان الرئيسي حرائق سماها ‘حرائق الخلاعات’ (bonfires of vanities)، يرمى الناس فيها كتبهم وآلاتهم الموسيقية ولوحاتهم الفنيه. حتى الفنان العظيم بوتيتشيللى وقع تحت تأثير الراهب المهووس، ورمى اللوحات التى كانت فى ورشته فى النيران، (ولم يبقى من إنتاجه إلا ما كان قد باعه أو رسمه على جدران.)

لحسن حظ أوربا والبشرية إنقلب أهل فلورنسا على الراهب المسعور. وكانت نهايتة مروعة، فقد أحرقوه حياً فى نفس الميدان (*5) الذى كان يَحرِق فيه مسرات الحياة (*6). وإستأنفت النهضة مسيرتها بعد هلاك ساڤونارولا، وإنتشرت إلى مدن أخرى مثل ڤينيسيا وروما وڤيرونا. لم تنظر أوربا إلى الوراء بعد ذلك. جاء عصر التنوير، وإنتقل مركز ثقل الحركة الفنية إلى الشمال، إلى هولندا وبلچيكا ثم إلى فرنسا حيث إزدهرت إبتكارات فنية جديدة مثل الإنطباعية والتعبيرية وغيرها.

أطلتُ فى الحديث عن الفنون التشكيلية، وأنا أعلم أنها أمر لا يهتم به إلا البعض، لذا ستكون الحلقة القادمة (١٢) هي الأخيرة عن الفنون، وسنتحدث فيها عن الحركات الفنية الحديثه.

______________________

*) من غرائب الصدف أن رافائلو توفى يوم عيد ميلاده (٦ أبريل.)
**) الصيغة الشائعة فى الإنجليزية لإسمه هي ‘Raphael’. إعتاد الإنجليز أن “يُأنجلو” (anglicize) أسماء العظماء: الرسام Tiziano مثلاً سموه Titian والكاتب (Lev) تولستوي سموه Leo، و ‘ibn Roshd’ سموه Averroes، وهكذا.
***) ڤاسارى هو الفنان الذى رسم الحائط الداخلى لقبة كاتدرائية فلورنسا Santa Maria del Fiore
*4) سميت كنيسة السيستين (Sistine) بإسسم البابا سيكستوس (Sixtus) الذى أنشأها. وهي كنيسة صغيرة خاصة (chapel) تختلف عن دار العبادة المفتوحة لعامة الشعب والتى تسمى كنيسة (church). أما الكاتدرائية (cathedral) فهي كنيسة كبيره تكون أيضاً مقراً لأسقف أو كاردينال أو بطريرك. والكنيسة والكاتدرائية تتبع منظومة معمارية معينه.
‏*5) ‘Piazza della Signoria’ وتعنى (تقريباً) ‘ميدان الساده (جمع سيد)’
*6) رسمياً صدر الحكم من الڤاتيكان وليس من فلورنسا

يمكنك دعم الموقع من هنا
مؤسسة ندى لحماية الفتيات

Farid Matta فريد متا

كاتب ادبي

‫13 تعليقات

  1. أطل في الحديث لو تكرّمت صديقي العزيز. فأين أجد مثل هذا الفيض من المعرفة والعلم والتاريخ ملخصاً موثقاً و بهذا الإبداع.
    لك جزيل الشكر والعرفان على هذا المجهود العملاق 🙏🙏🙏

  2. ١- اشكر د صلاح الحديدى ان اسعدنى بالتعرف بك
    ٢- بوست سهل ممتنع… ال foot notes ممتعة مثلها مثل المتن
    ٣- فى فلورنس لاحظت على تمثال الملك داود لمايكل انجلو خطأ، إنه غير مختون!!!
    و أظنه خطأ مقصودا فقدكان مايكل انجلو متمردا
    ٥- بمناسبة “التجلى”، و لأنك موسوعى المعرفة… هلا ساعدتنى بمعلومات عن “التجلى فى الفينومينولوجى” ؟
    لك الشكر، و الامتنان اسعدتنا

  3. شكرا على التناول الرائع، أعدتني إلى ذكرى زيارتي الأولى لروما، وبعد الاستمتاع برؤية ال Pieta مررت بالفناء المؤدي إلى كنيسة السيستين، وكان اليوم حارا، والفناء مكتظ بالشباب الصاخب من كل قارات العالم، وبعد الدخول ولي العنق للنظر إلى الأعلى لرؤية الروعة وما أبدعه مايكل أنجلو وركن رافائيل، ينتهي تماما الصخب والضجيج، ويخشع الجميع (بما فيهم الشباب بالغ النشاط). “الشعب يريد” أن يكتب فريد: 2-3 حلقات عن الفن لا تكفي!

اترك رد

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى