توعية وتثقيف

“المفروض أن يكون … (… Supposed to be)”…


“المفروض أن يكون … (… Supposed to be)”

كثيراً ما يخلط الناس بين الأمور كما “يودون لو أنها كانت” و بين ما هي عليه فى الواقع. أحياناً يكون هذا ما يسمى بالإنجليزية ‘wishful thinking’، و فى أحيان أخرى يكون تزييفاً متعمداً، لكنه فى أغلب الأحيان مجرد جهل بالحقيقة. على أي حال، ليس من السهل فى لغتنا العتيدة صياغة هذه الفكرة فى كلمات مجردة، لذلك سأحاول توضيحها ببعض الأمثلة –

خذ، على سبيل المثال، التاريخ (History) – كل بلد تُعلّم أبناءها أن تاريخها هو سلسلة من الإنتصارات والأنجازات المجيدة؛ حروبها على الآخرين كانت دائماً حروباً عادلة أو فتوحات مبينة، وحروب الآخرين عليها كانت عدواناً أثيماً. حكامها لم يخطئوا قط، و العيب دائماً على الآخرين … . ليس العرب هم الوحيدون فى ممارسة هذا “التدليك الذاتي”، فالأمريكيون أيضاً يصورون تاريخهم على أنه سلسلة غير منقطعة من الأمجاد. بلدهم دائماً على حق والآخرون دائماً على ضلال … إن إحتلوا بلدا فهم فعلوا ذلك من أجل الحرية، و أن رموا أحداً بالقنابل الذرية، فهم فعلوا ذلك حرصاً على الحياة (تصور !!) … . ذكرتُ هنا العرب والأمريكان على سبيل المثال، لكن لا يختلف عنهم فى هذا الصدد أي شعب آخر. هذا هو ما يتصوره الناس عن تاريخهم. أما فى الواقع، و من منظور موضوعي، فالتاريخ غير ذلك تماماً. و ما علمونا إياه و ما زالوا يعلموه لأحفادنا هو نسخة منقحة من التاريخ تُصوره ليس على حقيقته، بل “كما هو مفروض أن يكون.”

خذ مثالاً آخر – اللغة العربية! يعتقد المتحدثون بالعربية أنها أغنى اللغات و أعظمها، تعبر عن كل شيئ فى الماضى و الحاضر و المستقبل. و من مظاهر عظمتها أن مفرداتها متعددة المعانى، و كل معنى له مترادفات عديدة … إلخ. أما فى الواقع فهي من أبسط اللغات وأقلها دقة. بالأخص لأن مفرداتها متعددة المعانى، و كل معنى له مترادفات عديدة. مما يؤدى إلى تعويم الأفكار و إطالة النصوص. زد على ذلك أنها لا تحتوى من الحروف المتحركة إلا على أقل عدد ممكن. و لأنها لم تواكب العلم والحداثة، يجد المهنيون، (المهندسون والأطباء و غيرهم،) أنفسهم مضطرين إلى إستعمال اللغات الأجنبية فى دراساتهم وفى أعمالهم (*).

و إليك بمثال ثالث – الوطن (Homeland): تعريف الوطن هو أنه بيت لجميع أبنائه و بناته، يضمن لهم حقوقهم و حرياتهم و سلامتهم، يحسون فيه بالإنتماء و الأمان، و يستمتعون بثقافة مشتركة و تضامن جماعي. الواقع فى معظم البلدان غير ذلك – الوطن هو كيان سياسي مصطنع، تسيطر عليه عائلة أو طائفة أو طبقة تتمتع بمميزات مادية أو عشائرية أو عنصرية على حساب الآخرين، و تُشكِّل عقول العامة لتتقبل ذلك. مع هذا، نادراً ما يرى الناس وطنهم كما هو فى الواقع، بل يرونه “كما هو مفروض أن يكون.”

أستطيع أن أسترسل فى أمثلة أخرى عن ‘الديموقراطية’ و ‘القضاء’ و ‘الحرية’ و غير ذلك. حتى هذه المقالة نفسها يختلف واقعها الهزيل عن ما هو “مفروض أن يكون”. المفروض فى أية مقالة أن تكون المقدمة ١٠٪؜ من النص، والمتن ٩٠٪؜. أما هذه المقالة فهي على عكس ذلك – كل ما سبق كان مقدمة، و القليل الذى تبقى هو صلب الموضوع.

صلب الموضوع هو أن ما يسرى على الأمثلة التى ذكرتُها يسرى كذلك على المعتقدات. من شرق الدنيا إلى غربها لا يرى الناس معتقداتهم كما هي فى الحقيقة، بل “كما يودون لو أنها كانت،” أو كما هي “مفروض” أن تكون. كل دين عند أصحابه هو دين سلام و تسامح و رحمة و عدل و تكريم للمرأة … إلخ. بينما هناك فى مختلف الأديان تعاليم تحض صراحة على غير ذلك. و رجال الدين فى مختلف الملل يعرفون الحقيقة، لذلك فهم ينهون الناس عن قراءة النصوص بأنفسهم، (أو يبيحون قراءتها فقط للترتيل و التعبد، و ليس للتحليل و التفهم،) ويحتكرون لأنفسهم الحق فى تفهيم الناس ما هو “المفروض” أن تعنيه تلك النصوص.
____________________________
*) مقابل ذلك تساهم نفس هذه الخاصية فى جعل اللغة العربية أكثر مرونة فى كتابة الشعر.

يمكنك دعم الموقع من هنا
مؤسسة ندى لحماية الفتيات

Farid Matta فريد متا

كاتب ادبي

‫7 تعليقات

  1. تعليق حضرتك علي اللغة العربية سيفتح بابا لن ينغلق
    و علي العكس هناك دول فرض عليها ان يدرس لابنائها انها دول مجرمة مارست العدوان و الابادة الجماعية و لكن هذا كان بعد هزيمة عسكرية ساحقة

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى