امين تاكي | كتبت هذا المنشور في رمضان وانا في بني أنصار بمدينة الناظور

امين تاكي:

كتبت هذا المنشور في رمضان وانا في بني أنصار بمدينة الناظور المغربية على حدود مليلية
في الليلة السابقة تعرضتُ لضرب مُبرِح من شُرطيين عند بوابة بني أنصار بداخل السجن ، فقضيتُ النهار التالي بالبكاء والألم وكتابه هذا المنشور

الرحلة الى اوروبا

. الجزء الثالث والعشرين

لم نعرف سِن الطفولة في بلادنا ، نجنج إلى إبتكار حياة مستهلكة وشنيعة منذ نعومة اظافرنا. كم أكره كل حياتي السابقة التي عشتها في اليمن ، عشتُها في برد البلاد ، رغم أنها تنعم بدفءٍ عتيق. هذه هي الشفافية

ياللعار.! عشتُ ثلاثين عاماً في حالة مُضنية ومُخيفة لاتنتهي. مجرد فقاعات من الشعر الأبيض تتطاير في جسدي بسرعة مروعة. نمضي قُدماً دون التفكير في حياتنا ، حتى نصل الى الجنازة ، وحينها ندرك كم كانت حياتنا تافهة. لكنها تستحق المجازفة عموماً ، لسبب بسيط : لاوجود لبدائل أُخرى. إما الحياة ، وإما الحياة

قال لي والدي ذات يوم ، إن أخطر عُمر يمر به الإنسان ، هي العشر سنوات مابين الثلاثين والأربعين. وإذا لم نستغلها ، فقد نجد انفسنا عُراةً على قارعة الضياع ، ونعيش الحسرة على مالم نفعله في الماضي ، كشلالٍ بطيء من دمارٍ فتاك

كنتُ أرى والدي حكيماً ، لكن الحكمة ماهي إلا وهمٌ خداع ، وإدعاء باطل ، ومحضُ كذبة في تلك البلاد. خوضوا غِمار الحياة وتجاربها ، وستفهمون ما أعني

أرى أن الحكمة كلمة نابية مُقززة ، لأنها تتركك عائماً في بحر من الخراء والوحدة. أرجو ألا تُسمونني معقداً ، أرجو أن لاتعتقدون بأنني موجِهاً كلامي لأحد ، أرجو أن لاتعتمدون على ثقافتكم السمعية وتُرهات الكُتب

لاتذهبوا أينما يأمرونكم بالذهاب. لاتستهينوا بفرادتي وفرادتكم التي لايصل إلى مستواها اولئك الّذين يتعتقدون أن ثمة حياة في بلادنا ، واولئك الذين يعلِقون شهاداتهم خلف مكاتبهم كالمقصلة

لم أثِق يوماً بالدراسة الجامعية منذ أن عرفتُ الاستاذ الجامعي ثقيل الظِل خائباً وجباناً. يتمترس خلف الكتب ، وينتشي بإصدارها. إنه فارغٌ كلياً ، اللهم إلا من وجود إمرأة قبيحة وكريهة الرائحة ، او زوج يضرط على مخدة الكنبة دون أن ينتبه. لايخدعكم مظهره ، وتذكروا أن الرائحة النتنة تفوح أينما حل الاستاذ الجامعي

نرجسيته تتناسب طرداً مع جهله للحياة. لايرى أبعد من تلك الصفحة المكتوبة ، فتفوته الحياة الحقيقية. لأن إقدامه على الفهم يعزله عن تجارب الحياة ، وهنا تعشعش المشكلة. الحياة من وراءه ، والمكتبة من أمامه ، يرسوا على بحر من الإستمناء الفاشل. لاتثقوا بهؤلاء الرجال

ماهذا الهراء؟ ماذا اقول؟ مازلتُ خلف أسوار اوروبا ، في الجزء العربي طبعاً. حيث يعيش أكوام من المهاجرين ، وأطنان من الأدوية ومُسكنات الألم بسبب تمزُق أربِطة الساق او تهشم عظام الاقدام جراء محاولات القفز من فوق السور. مجموعة كبيرة من عصى العكاز التي يستندون عليها اثناء الحركة ، كتائب من الاشخاص الذين يقُصون عليك تجاربهم التي تجعلك تتسمر في مكانك

مصاريف طائلة للأكل من المطاعم ، وخسائر كبرى للمواصلات ، كلما فكرتَ بالذهاب الى بوابة مليليا او فرخانة. والوجبات التوفيرية لا تنفع في شيء
شاب لايستطيع المشي دخل في إستراحة كبرى عن محاولة قفز الحاجز ، ليس بسبب سقوطة من فوق السور ، إنما بسبب تعاطية الحشيش. وكان في كل ليلة يحدثنا عن إستعداده للرحيل من المغرب الى مليليا

الإحباط في وجوه اليمنيين وغرفهم المتشابهة في جميع الشقق التي يقطنوها ، من اليمن الى نهاية العالم. واحاديثهم عن السياسة والوطنية والإنتماءات المناطقية وقضايا الفساد ، بأخلاق وعقليات تفوقها فساداً وإنحطاطاً اخلاقياً ، جعلتني أبتعد عنهم ، وذهبتُ للسكن في مكان بعيد عنهم

لكن ذلك لا يهم كثيراً ولا يحزنني! فأنا اعرف ماالذي يحزنني حقاً. هذا اليوم هو الذكرى الخامسة لوفاتة والدي
ورأيتُ بعد حزن كبير وتفكير أكبر عشتُه ليلة امس ، وما آل بي من مصائب الدنيا ، أنه عليّ أن أعتذر لك يا أبي
لكنك لم تعُد تسمعني الان

كم كنتُ أبلهاً فيما مضى! كنتُ أتعامل بطريقة سيئة معك ، رغم أن البساطة والمودة تملأن قلبك ، كما انا عليه الان. كان طموحي حينها أن أمحوا الهمود والطيبة في شخصيتك ، لانني ترعرعتُ بين ايادِ رجال عائلتي الّذين قلوبهم كالحصى!

ذنب لايُغتفر مثل جريمة الحوثي بحق الشعب اليمني. كلاهما جريمة ، لافرق بين الطريقتين. موت الاجساد ليس له قيمة أمام موت القلوب والأفكار. فما بالكم بتعمُد العبث في نفس والدي الطيب

لكنني أشعر بصوتك الان يقاطعني ويدهشني ، كما كنتَ تفعل دوماً بقدرتك الفطرية على إلتقاط الأفكار الغامضة : لا يا إبني ، لاينبغي أن تعتذر لي ، أعرف ماسبب إعتذارك. كنتَ تظنني أقل أهمية وقُدرة وذكاءً من الآخرين

إنني متأثر حتى الدموع يا ابي ، وانت تعلم ذلك حتى لو أنك لاترى دموعي بسبب الظلام الدامس الذي يحيط بك. الضوء غاب الى مكان آخر بعيداً عنك ، ليودِع تاريخاً من الذكريات البسيطة

أقول بصراحة غريبة عني : كم انا سعيد يا أبي. هذه اول ذكرى سنوية أشعر فيها بالسعادة لك! لقد تخلصتَ من شرور الواقع يا أبي. الواقع مُرهِق بلا شك ، لكن العبث مُرهِق أكثر

أتذكر آخر ليلة كنا فيها معاً ، كانت سهرة قات في محل المفروشات ، إذ قام بحركة جميلة وغير متوقعة ، ينهض فجأة من مجلس القات كأنه مستعجِل ، وبِفورة غريبة عن طباعه الهادئة يقول : ما أجمل هذه السهرة يا شباب ، نحن لانهتم لأي شيء ، لاتهمنا ضغوطات العمل ، والعمل الكثير لا يخيفنا. وصيتي لكم ، أن تكونوا أقوياء ، عِدوني بأن ننهي أعمالنا بمواعيدها وإتقان جودتها دوماً ، حتى مماتنا. عدوني بذلك الان

إنني أُوافقه على مايقول ، وعبده الوصابي ومحمد السيسبان ، كلنا نوافقه في الوقت ذاته ، بكل حماس. لأننا في السفينة ذاتها. سفينة مفروشات تاكي

وفعلاً نقوم بتلبيس الأقمشة بأسفنج المجالس العربية ، بعنفوان يضاهي عناق المراهق لأول حب في حياته ، ونقوم بترديد جملة من الأمثال اليمنية القديمة "سبعة شلوا جمل ، والجمل ما شلهم"

تجتاحنا دوامة من المشاعر والحماس تفوق خيالنا ، أتوقف قليلاً عن العمل ثم اقول : ألم تلاحظوا يا اصدقاء أن وجه والدي ابيض ، وكأنه مسحهُ بمسحوق تجميل؟ يجيبني السيسبان : لاحظتُ ذلك ، لربما كان وجه الرضى من أثر صلاة الفجر التي قام بأدائها. ثم يلتفت والدي إلينا ويشتمنا مازحاً "أنيك عاركم" ويذهب للنوم

وفي نهار اليوم التالي ، إستيقضنا في وقت متأخر ، وكان على غير العادة ، فالمحل مازال مقفلاً! يخرج السيسبان لشراء الغداء ، بينما اقوم بفتح ابواب المعرض بهدوء ، كي لايسمع والدي فيستيقض ويجد الوقت متأخراً عن الدوام وينهرنا على ذلك

يصل السيسبان بعد نصف ساعة ، ويذهب لإيقاض والدي ، يعود السيسبان وهو يرتجف قائلاً : أبوك لايتحرك! يحل علينا الصمت ، عدا صوت طنين في أذني ، ثم أذهب الى والدي كي اوقضه

لا تصلني أي إجابة. والدي الذي يمازحنا عادةً بالمقالب المدهشة ، لطالما فعلها منذ عرفته. أقوم بهز جسده ضاحكاً : لقد إنتهينا من عمل ليلة البارحة كاملاً ، قم إنظر ماذا أنجزنا ، القات اليوم يجب أن يكون من الدرجة الاولى ، قُم يا رجُل ، قُم. لكن والدي لا يتحرك

علينا أن نواجه الأمور بقوة ، ليس لفهمها ، بل لتذوُق فتات الكرامة. أقترِب من صدر والدي المستلقي على اللحاف ، أجس نبض قلبه ، لاشيء. قلب أبي الضاحك إنطفأ خلال النوم ، كي لايُفسد السهرة

خطفه الموت من بين أيدينا ، ومن يدري كم مرةً جاء ولم يجده
لابأس ، يا أبي. لن يستطيع الموت فعل شيء ، لأننا لحسن الحظ ، وعدناك في ليلة البارحة أننا سنكون أقوياء ، سنحافظ على وصيتك حتى الممات يا أبي ، اجل

كان واضحاً أن اليوم ينتهي بدليل هذه الإشارة ، إستمتعنا ليلة البارحة بإنجاز العمل ، لكن التعب يغلبنا جميعاً ، وانا اكثرهم بالفعل

تمُر لحظة ، ثم نفهم الأمر في اللحظة نفسها ، نفهم الان أنها لم تكن سهرة ممتعة ، ننسى دائماً طبع الحياة الكريه ، ثم نذكره مجدداً مرة اخرى
هذه الحياة الحقيرة تكرر اللعبة اللعينة ذاتها بلا انقطاع
تمنحك القليل من الفرح ، وسرعان ماتسرقه من بين يديك في هذا الصباح ، كما في كل وقت. وهنا ، كما في أي مكان في العالم

أنهض بكسل ، وأتهيأ للخروج من المحل لإيقاف التاكس لنقل والدي الى المستشفى ، أتصل بصديقنا بليغ ليلتقينا بسيارته في المستشفى ، ثم الى مستشفى آخر حيث ثلاجة الموتى. وفي صباح اليوم التالي ، شاركتُ في تغسيل الجثة ، ثم توجهنا الى طريق المقبرة

ترتفع نسمة خفيفة تهز وقفتنا الجنائزية بعد الدفن. يلتف الناس حولي وكأنني انا الزعيم! آخذ على عاتقي تلك المسؤولية الأليمة (الواقع). فكان عليّ أن أتحملها ، لأني أفهم مع الزمن أنني لا أستطيع اللوذ بالفرار دوماً

هكذا عشتُ الواقع يا أبي
أجل يا أبي
أجل

لكن دعني أحدثك عما خسِرته انت في الوقع الذي تركته منذ خمس سنوات

لقد خسرتَ هواتف متطورة ، أكوام من الأغاني الهابطة ، سيارات تعمل بالكهرباء فقط ، قنوات رياضية من دون إشتراك كنتَ ترغبها دوماً ، أطنان من الصُحف المطبوعة التي لاتتحدث إلا عن أخبار الحرب ، سواءً على الغلاف أم داخل الصفحات

كتائب من القتلى الحوثيين الّذين يُصدعون الرأس بأفكارهم الجهادية ، إندثار تجارة المفروشات وخسارة كبرى لمحلات بيعها ، كما إندثرت قبلها بقالة صديقك احمد. إنقطعت الكهرباء وإستبدلوها بإضاءة الطاقة الشمسية التي لاتُنير شيئاً

قتلوا عفاش داخل منزله ، وهرب عبدربه منصور الى السعودية. وأصبح الفتى عبدالملك الحوثي ، متحكماً بالبلاد. كما أن السعودية أقامت علينا حرباً كبرى. خسِرتَ حرباً ضارية وغير متكافئة
إستبدلوا طبقة سياسية فاسدة بجماعة حوثية تفوقها فساداً وإنحطاطاً أخلاقياً ، بسببهم توقفت الوظائف وانقطعت الرواتب ، وعانى الشعب من المجاعة

ماذا اُضيف؟ فيالق من الأبرياء قُتِلوا وشُرِدوا من منازلهم ، والكثير منهم غادروا الوطن. منهم من قذفه البحر الى شواطىء اوروبا ، يبحثون عن لقمة العيش والأمان. ومعظمهم غرِقوا

باع الكثير منهم الوطن ، وسّعَوا في تنظيف مؤخرات السياسيين السعوديين والإماراتيين ، يتقاضون مبالغ ضخمة مقابل عمل شنيع كهذا. فتفهم لماذا يتعرض لك أحدهم ويطلق عليك النار في الزقاق لأنك لاتتبع حزبه وجماعته ، او يقتنصك وانت تمشي في الشارع

لقد خسِرتَ فوز ريال مدريد في مراهنات كرة القدم ، أتذكَر وجهك العصبي دائماً كلما خسر هذا الفريق. أنكَرني إبن أخيك محمد فضل حساب اموالك التي كانت بينكما ، واتهمك بالدّين

تم إزالة بيت صغير يسكنه أستاذ وزوجته وطفلتهما من فوق جسر في شارع المقالح ، بعد أن طردهما صاحب البيت الذي كانوا فيه ، إذ لم يستطع دفع الإيجار بسبب قطع راتبه. قالوا إن البناء مخالف وغير مسموح ، فهدمته الدولة! وهكذا خسِرتَ مشهداً نادراً للدولة ، وهي تُطبِق القانون لأول مرة. فأنتَ تعلم أن دولتنا لاترحم المساكين ، وتتغاضى عن اللصوص. مسألة تربية وطنية

خسِرتَ الخطابات الاستبزاية لدونالد ترامب التي يلقيها على السعودية ، خسِرتَ سماع طبول الحرب العالمية النووية ، والأسلحة وحاملات الطائرات التي إنتشرت في كل مكان ، حتى تظن بأنها ستقضي على البشر

خسِرتَ معرفة تعرضي لمحاولات القتل والسجن والضرب وهروبي من اليمن. خسِرتَ الشعور بمعاناتي في رحلتي الى اوروبا. لكنكَ ربحتَ إبتعادك عن قلقك إزاء مايحدث لي. بالمحصلة ، خسِرتَ أشياء كثيرة ، لكنك لم تخسر شيء

ها انتَ الان وقد حصلتَ على معلومات مفصلة عن الواقع الذي تركته ، والحمد لله. فأرجوك لاتحاول التفكير بما اخبرتك عنه ، وبما خسِرته ، وإلا إختل توازنك ، وطار النوم من عينيك
إرقد بـ///ــلام بعيداً يا أبي
بعيداً عن الواقع


امين تاكي | ناشط حقوقي

Exit mobile version