توعية وتثقيف

عن الفنون والآداب – ٦ (الفنون التشكيلية-الجزء الرابع)…


عن الفنون والآداب – ٦ (الفنون التشكيلية-الجزء الرابع)

الفن الحديث

‘الفن الحديث’ هو مفهوم لا يتفق النقاد على تعريفه، ولكن هناك تعريفان له هما الاكثر شيوعاً –
* أحد التعريفين يشمل كل الإتجاهات التى ظهرت فى الفنون التشكيلية بعد إنتهاء مرحلة ما بعد الإنطباعية (Post-Impressionism). تدخل فى هذا التعريف الفوڤية (Fauvism) والسوريالية (Surrealism) والتكعيبية (Cubism) والتجريدية (Abstract Art) والمينيمالية (Minimalism) والدادا (Dada) وغيرهم.
* التعريف البديل يشمل كل الإتجاهات التى ظهرت بعد أن تحرر الفن التشكيلي من “قيود” المراحل الكلاسيكية و الأكاديمية. وهذا التعريف يعتبر الإنطباعية والتعبيرية، وحتى الواقعية الإشتراكية (Socialist Realism)، من ضمن الفن الحديث (بالإضافة إلى كل ما جاء بعدهم.)
الإختلاف طفيف وينحصر فيما إذا كانت الإنطباعية (مانيه، مونيه، رنوار،…) جزءاً من الفن الحديث أو لا. على اي حال، أنا أميل إلى التعريف الثانى، وهو أن الفن الحديث يشمل كل ما كسر القوالب التى تشكلت منذ عصر النهضة ثم رسختها المرحلة الأكاديمية و مدرسة الفنون الجميلة فى باريس.

نستطيع أن نميز بين ٣ أنواع من الفن الحديث:
1. الفن التمثيلي (representational art)، وهو الذى يصور أشكالاً نستطيع التعرف عليها، (بشر، حيوانات، نباتات، آلات موسيقية،… إلخ،) حتى وإن كانت ممثلة بأساليب تحيد عن الواقع.
2. الفن غير التمثيلي (non-representational art)، وهو الذى يرسم أو ينحت أشكالاً مختلَقة تماماً ولا وجود لها فى الطبيعة.
3. “البَكَش”(*) الفني (Artistic gimmickry)، الذى لا يستعمل الرسم أساساً، ويستبدله بحِيَل لا علاقة لها بالفنون الجميلة. وغالباً ما تكون هذه الأعمال لا معنى لها ولا هدف سوى الإختلاف أو الإدهاش أو الصدم المعنوي (shock).

تنضوى تحت عنوان الفن التمثيلي كل اللوحات الإنطباعية وما بعد الإنطباعية والتعبيرية والفوڤية والتكعيبية … إلخ. الفن غير-التمثيلي يشمل اللوحات التجريدية، سواء كانت جيومترية (مثل لوحات موندريان وڤاسارللى،) أو غير الجيومترية (مثل لوحات چاكسون پولاك.) أما “البَكَش” الفني فيصعب توصيفه، لكننا نستطيع الإستعاضة عن التوصيف بذكر بعض الأمثلة::
* “الفنان” الذى يسكب البويات على الكانڤاس ثم يميله ذات اليمين وذات اليسار حتى تسيل الدهانات وتختلط فى أشكال عشوائية.
* “الفنان” الذى يرش الألوان على اللوحة فى طرطشات عشوائية قد تكون جميلة أو مبهجة، لكنها أيضاً لا تنتمى إلى صنعة الرسم.
* “الفنان” الذى ينتج لوحات بيضاء تماماً، ليس فيها شيئ على الإطلاق. (ثم يقول عنها “نقاد جهابذة” إنها تعبر عن التجرد والمينيمالية فى أسمى صورهما (**).)
* ألاعيب “الصدم (shock)” مثل تمثال “النافورة” لمارسيل دوشان فى MOMA، وهو مجرد مبولة (urinal) عادية كأي مبولة تراها فى دورات المياه العامة.
من سمات فن “البَكَش” أن أي شخص يستطيع أن يمارسه، ولا توجد فيه أية معايير للجودة من عدمها.

كيف إزدهرت فنون “البَكَش” و ما زالت تباع بالملايين؟ منظومة البيزينس الإمريكية لا تعترف بقيمة ذاتية أو فعلية (intrinsic value) لأي شيئ. القيمة الوحيدة المعترف بها هي القيمة التى يحددها السوق عن طريق آليات العرض والطلب. وهذا مبدأ لا بأس به عادة، إلا فى الحالات التى يخلق فيها المضاربون طلباً مُصطنعاً فيرتفع الثمن بغض النظر عن القيمة الذاتية (***). الغني الجاهل، (ومن هؤلاء فى أمريكا كثيرون)، يشترى تلك اللوحة لا لأنه يقدر قيمتها الفنية الذاتية، بل لأنه يتوقع أنه سيبيعها بسعر أعلى؛ والأحمق الذى سيشتريها منه يفعل ذلك على أمل أنه سيبيعها بأكثر مما دفعه فيها لمستثمر آخر أكثر منه طمعاً وأقل منه معرفة … وهلم جرّا. (هذه ظاهرة معروفة فى الإقتصاد و تسمى “نظرية الأكثر حماقة” (greater-fool theory).) تجار الفن بدورهم يشجعون هذا التداول لأنهم يتقاضون عمولة كلما إشترى أحد ذلك المرحاض أو تلك اللوحة البيضاء. (و عمولة مقدارها ٦% من ٣٠ مليون هو مبلغ لا بأس به.)
_______________________________
*) ‘البَكَشْ’ (gimmickry) فى العامية المصرية هو خليط من الخداع والتحايل وإستبدال الشيئ الأصيل بشيئ لا قيمة له.
**) هذا الفنان إسمه Robert Rauschenberg ، وتوجد إحدى لوحاته فى متحف الفن الحديث (MOMA) فى نيويورك، وأخرى فى SFMOMA فى سان فرانسيسكو.
***) تجلت هذه الظاهرة على نحو مدهش فى “هوجة زهرة التيوليپ” فى هولندا فى القرن ١٧. فى تلك الهوجة إرتفع ثمن زهرة التيوليپ حتى أصبح ثمن البصلة الواحدة أعلى من ثمن عمارة سكنية. وحدثت نفس الظاهرة (فى إستثمارات أخرى) بعد ذلك، مرة فى بريطانيا و عدة مرات فى الولايات المتحدة.

يمكنك دعم الموقع من هنا
مؤسسة ندى لحماية الفتيات

Farid Matta فريد متا

كاتب ادبي

‫10 تعليقات

  1. Some classify gimmicky art as pseudo-art, since it lacks any qualification for belonging to art. Dadaism is an example for false art despite its noble message as a cultural movement. So, Duchamp was a sort of cultural activist (surprisingly, his few surviving pre-Dada works show a great talent and skill). Abstract expressionism, in my view, is real (expressionistic but Americanized) art, and several of its works are full of artistic “truth”, so to speak. These artists emphasized the process of art making itself, and this suits neurotic artists (the founder became alcoholic attempting to treat his anxiety and depression). It is easy for art thugs to hide behind their techniques like spilling and dripping but it is very difficult to fool people with respectable taste. Originality cannot be affected or fabricated. Thank you for this nice piece.

  2. كنت أتوقع ذكر دور Picasso
    في الحداثة كنقلة فاصلة بدأت بالتكعببية والفوفيزم وتجاوزت كل القوالب وجمعت بين الrepresentation والتجربد السيريالي surréalisme…وتأثره بحركة الDadaisme …كذلك أتساءل إذا ما كانت الحركة الفنية المقيمة للأعمال في أمريكا اصبحت مستقلة عن تلك التي توجد في باريس…بفعل انتشار تواجد الفنانين بها في العقود الأخيرة

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى