الدراسة فى الإتحاد السوڤييتى – ٦…


الدراسة فى الإتحاد السوڤييتى – ٦

لم تكن هناك “مذكرات” و لا “مَلازم” يبيعها الأساتذة فى المعهد الذى درستُ فيه. و إذا أوصى أستاذ بكتاب معين، كنا نذهب إلى مكتبة المعهد، فيصرفون لنا الكتاب لمدة الترم بأكمله، وكانت دائماً لديهم نسخ كافية للجميع. أما إذا أردت إقتناء الكتاب، فثمن أي كتاب كان لا يتعدى حوالي روبل ونصف، وهو ما يعادل ثمن إفطار فى الكافيتيريا. كانت بعض الكتب مترجمة، أذكر منها كتاب Terman و كتاب Skilling فى الدوائر الإلكترونية، و البعض الآخر لمؤلفين سوڤييت أذكر منهم كتاب Itskhoki فى هندسة الرادار و كتاب Shevchenko فى قوة المواد.

كنت أول طالب من خارج المعسكر الإشتراكي تطأ قدمه ذلك المعهد. لكنى لم أكن أول أجنبي، فقد كان هناك ألمان ومجريون و تشيكوسلوڤاك و غيرهم. أما أكبر مجموعة من الأجانب فكانت الصينيين. شاءت الصدف أننى بعد ذلك بنصف قرن عيّنتُ فى HP مهندسة صينية نابهة بعد حصولها على الدكتوراه من جامعة ميتشيجان، و حكت لى أن والدها كان يَدرس الهندسة الكهربائية فى ليننجراد فى ذلك الوقت بالذات. ربما رأيتُه هناك … ياله من عالم صغير! (*) غادر الصينيون كلهم بعد وصولى إلى ليننجراد بقليل لأسباب سياسية.

لم يكن زملائي الروس معتادين على التعامل مع الأجانب، فكان تعاملهم معى فى البداية حذراً و مترقباً، حتى حدثت واقعة غيرت كل شيئ: فى ذلك الوقت كان قطاع الزراعة فى روسيا يعاني من سوء الإدارة، فإذا ما جاء موعد حصاد البطاطس لم يكن لديهم من الأيدى العاملة ما يكفى، والبطاطس لا يمكن تركها فى الأرض الرطبة لفترة طويلة. فكان طلبة الجامعات يذهبون لمدة يوم أو يومين فى الخريف للمشاركة فى حصد البطاطس. قال لى المشرف على تنظيم تلك العملية إننى غير ملزم بالذهاب، و أن آخذ ذلك اليوم أجازة. أصريت على الذهاب معهم، و كان ذلك من أحكم القرارات التى إتخذتها أثناء وجودى فى روسيا. فقد إنكسر الجليد بينى و بين زملائى فى ذلك اليوم، و سقطت الحواجز، و أصبحت واحداً منهم حتى النهاية (**).

والحقيقة أن حصاد البطاطس لم يكن مضنياً، و كان اليوم مليئاً بالغناء و المرح، و أكرمنا الفلاحون و فرحوا بنا، و أطعمونا من خيرات المزرعة، و تذوقت الڤودكا لأول مرة بين ضحكات زملائى وتشجيعهم. و ها أنا بعد أكثر من ٦٠ سنة ما زلت أذكر ذلك اليوم برقّة و شغف.

كانت السنة الإعدادية أسهل عليا منها على زملائى، فقد كنت فى مصر قد تعلمت حساب المثلثات و الهندسة الفراغية و مبادئ التفاضل والتكامل، أما زملائى الروس فلم يكونوا يعرفون تلك المواد لأن الدراسة قبل-الجامعية عندهم ١٠ سنوات فقط مقابل ١٢ فى مصر.

كان معهدنا قديماً و مشهورا حتى فى زمن القياصرة، و كان مستوى التعليم و الأبحاث فيه عاليا. كما كان حظنا لا بأس به أيضاً فى ناحية أخرى هامة، و هي أن معهدنا كان مجاوراً لمعهد الطب رقم ١. وكانت نسبة البنات فى معهد الطب ربما ٨٠% أو أكثر، بينما كان العكس هو الحال فى معهدنا الهندسي. و حيث أنه لم يكن هناك فصلٌ بين الجنسين فى ذلك المجتمع، فقد كان من الطبيعي أن تترعرع علاقات بين طلاب معهدنا و طالبات معهد الطب، (و توجت كثير من تلك العلاقات بالزواج فيما بعد.)

كانت هناك فائدة أخرى من مصادقة فتيات معهد الطب – شرب الكحوليات فى المجتمع الروسي، (و عند شعوب الشمال عموماً،) أمر شائع، (و إن كان الإفراط فيه مكروها.) لذلك كان الكحول دائماً من المواد التى عليها قيود صارمة. حتى أنى أذكر أن المسؤول عن معمل الإلكترونيات فى قسمنا كانت لديه خزنة مقفولة بالضبة و المفتاح، و لم يكن يحفظ فى تلك الخزنة سوى مادتين – الذهب والكحول. ليست هذه مبالغة أدبية، بل هي حقيقة مادية، و ربما مازال الأمر كذلك حتى اليوم.

أما إذا كانت لديك صديقة فى معهد الطب، فلم تكن هناك مشكلة فى الحصول على الكحول النقي، لأنه كان متوفراً عندهم. (كما أن البنات لم تكن تغوى المشروبات القوية، فكانت القيود على الكحول فى معهدهم أقل صرامة.) و كانت هناك وصفات لإنتاج مشروب قريب من الڤودكا بإستعمال الكحول. لكن كان عليك أن تكون شديد الحرص و أن تعرف ما تفعله، لأن هناك أنواع من الكحول يؤدى شربها إلى التسمم أو إلى العمى (***).

من ناحية أخرى لم تكن المخدرات معروفة فى ذلك المجتمع، (فى ذلك الوقت على أي حال،) و على الرغم من إختلاطى الوثيق بزملائى لم أسمع عنها شيئاً، و لو كان هناك شيئ لرأيته بالتأكيد، لأننا على مدى ٦ سنوات كنا قد أصبحنا نثق فى بعضنا البعض كعادة الطلبة فى كل مكان.

هناك الكثير من النوادر التى أذكرها من تلك الفترة المتقشفة و السعيدة فى نفس الوقت. لكن لا أحد يقرأ على فيسبوك مقالات بهذا الطول، لذلك سأكتفى بهذا القدر و إلى لقاء آخر.
______________________________
*) ساهم الرجل بعد عودته فى إنشاء صناعة الطائرات الصينية.
**) ربما يظن القارئ الكريم أننى كنت أتسم بالحكمة فى تلك السن المبكرة (١٧ سنة.) و هو فى هذا يكون مخطئا – فمقابل ذلك القرار العاقل كان هناك مئة تصرف صبياني طائش.
***) الكحول الميثيلي و الأيزوپروپانول.

يمكنك دعم الموقع من هنا
مؤسسة ندى لحماية الفتيات

Exit mobile version