الدراسة فى الإتحاد السوڤييتى – ٣…


الدراسة فى الإتحاد السوڤييتى – ٣

عندما فزتُ ببعثة دراسية إلى روسيا بعد الثانوية العامة، كنت كمن إشترى سماً وهو يظن أنه عسل. بعد قضاء ٦ سنوات من الدراسة الجادة، (و سنة قبل ذلك فى دراسة اللغة،) رجعتُ إلى بلدى بشهادة إعتبرَتْها مصر مكافئة (بالكاد) للبكالوريوس. فى ذلك الوقت كان زملائى الذين لم يفوزوا بتلك البعثة قد تخرجوا قبلى بسنتين أو ثلاثة، و أصبحوا مهندسين ذوى أقدميه. و لكي يضيف القدر إلى الجرح مهانة (insult to injury)، عطلت نقابة المهندسين قبول عضويتى لمدة سنتين بعد ذلك، دون رفض أو طلب مزيد من الأوراق أو أي شيئ … مجرد تعطيل من أجل التعطيل لحرمانى من الحصول على بدل الهندسة، (الذى كان ٥٠٪؜ من المرتب الأساسي،) لأطول مدة ممكنة. وهكذا ضيعوا عليا، بلا رجعة، حوالي ٢٥٠ جنيه، و هو مبلغ كان يكفى فى ذلك الزمان كمهر لعروسة (*).

كانت وزارة التعليم العالى قد كلفتنى معيداً فى المعهد الصناعي فى منوف. و ما زلت أذكر الحزن والإحباط على وجه والدى و هو يقول: “إزاي تكون من الخمسة الأوائل على الجمهورية، و تروح تتعلم فى الخارج، و فى النهاية تشتغل فى معهد صناعي فى الأرياف؟” الكلمتان ‘معهد’ و ‘صناعي’ كان لهما وقع سيئ على الأذن المصرية، (**)، و كان الرجل حزيناً على إبنه المجتهد الذى أدارت له بلده مؤخرتها. رفقاً به لم أخبره أن مرتبى كان ثلثي ما أستحقه لأن أستاذاً من الإسكندرية، لا أعرفه و لا يعرفنى، قرر لوجه الله أن يحرمنى من رزقي المشروع لمدة سنتين.

كان عبد الناصر ما زال فى أوج مجده، لكنك كنتَ تحس بكراهية روسيا فى كل ركن من أركان البيروقراطية و الوسط الجامعي. و عبر عن تلك الكراهية عميد معهد منوف وقتها بقوله “المهندسين المتخرجين من روسيا دول مجرد فنيين. (***)” على مدى ٣ سنوات لم أنجح فى التسجيل للماجستير مع أي أستاذ فى الجامعات المصرية، و بدت الأمور ميؤوساً منها إلى أن صدر قرار وزاري بتخصيص بعثات للدكتوراه إلى روسيا لمن حصلوا على البكالوريوس من هناك.

عندما هاجرت إلى أمريكا فيما بعد، كانت تلك الشكوك تؤرقنى، فقصدت أن أشتغل فى الصناعة حيث “the rubber meets the road” كما يقول الأمريكان، أي حيث النجاح يقاس بالنتائج، و لا يتحدد بالفهلوة و الظٌرف و المداهنة، (و هي مواهب لا أمتلكها.) إتجهتُ إلى Silicon Valley حيث حصلتُ على وظيفة فى معامل الأبحاث المركزية لشركة HP. و أنتج شغلي هناك ٢٧ براءة إختراع بإسمى، و ٤١ مقالة علمية نُشرت فى مؤتمرات عالمية. من تلك المقالات ٥ حصلوا على جوائز ‘أفضل بحث (Best Paper) فى المؤتمر’. كما أننى أشرفت على تطوير تقنيتين حديثتين تستعملان الآن على نطاق واسع. الراجح، إذاً، أن ما قاله عميد معهد منوف عن قدراتي العلمية لم يكن له أساس من الصحة، و كان نابعاً من مجرد الكراهية – لروسيا، أو لى، أو للإثنين.

كنت قد قررت الهجرة لأن الأمور لم تتحسن كثيراً بعد حصولى على الدكتوراه و رجوعى إلى منوف. نفس ذلك الأستاذ الكبير الذى عرقل إلتحاقى بالنقابة لمدة سنتين، كان بيده الآن قرار ترقيتى من مدرس إلى أستاذ مساعد. أي أن ذلك لم يكن محتملاً مهما أنجزتُ. لذلك قررت أن أعفيه من مواجهة تلك المعضلة، و تركت له البلد بحالها.

لماذا كان كل أولئك المصريين يكرهون روسيا و من تربطهم بها أية صلة؟ كل واحد له أسبابه، و لن أضيع وقتى و وقت القارئ الفاضل فى تفصيص تلك الأسباب. بعضها دينى، و بعضها طبقي، و بعضها يرجع لأن الوعي المصري يشكله الإعلام الأنجلو-أمريكى؛ و ذلك الإعلام كان مجنداً ضد روسيا منذ أيام الملكة ڤيكتوريا، بغض النظر عما إذا كانت قيصرية أو بلشفية أو أرز بالمهلبية.

كتبتُ فى التعليقين السابقين عن تركيبة التعليم الجامعى و عن منظومة الدراسات العليا فى الإتحاد السوفيتي فى الستينات والسبعينات. و فى هذه المقالة تحدثت عن تجربتى فى مصر فيما يتعلق بالبعثة الدراسية التى أرسلتنى إليها الدولة، (ثم عاقبتنى عليها.) وفى التعليق القادم بإذن الله سأبدأ الحديث عن تجربتى فى روسيا نفسها.
______________________________
*) لم يحدث هذا لأحد من زملائى، فالراجح أن الأمر كان له بعد آخر.
**) أدى هذا فيما بعد إلى تحويل المعهد إلى كلية هندسة تابعة لجامعة المنوفية.
***) لم يكن عميد معهد منوف نفسه من خريجى أوكسفورد أو هارڤارد، بل كان فى الأصل “دبلوم صنايع” ثم حصل (بطريقة ما) على دكتوراه من تشيكوسلوڤاكيا فى سن متقدمة.

يمكنك دعم الموقع من هنا
مؤسسة ندى لحماية الفتيات

Exit mobile version