الثقافة المصرية بين…


الثقافة المصرية بين
محمد عبد الوهاب و محمد بن عبد الوهاب
محمد عبد الوهاب هرم الموسيقى والغناء المصرى، ولد مطلع القرن العشرين فى حى باب الشعرية، فى منتصف المسافة بين القاهرة الفاطمية والمملوكية شرقا والقاهرة الحديثة إلى الغرب، كان يراد له أن يكون مؤذنا ومقيما للشعائر خلفا لوالده فى مسجد الشعرانى إلا أن مواهبه السمعية ضاقت بهذا المستقبل المحدود، وراح الصبى الصغير يتردد على الموالد الصوفيه بأذكارها الدينية ومدائحها النبوية والمواويل الشعبية فى الحسين والمعز وبين القصرين ويتردد على المسرح الحديث ليستمع ويشاهد الأوبرا والسيمفونى ويتسلل إلى مسرح سلامة حجازى وأولاد عكاشة وفوزى الجزايرلى ومنيرة المهدية، ويقرر أن يحترف العزف والتلحين والغناء، فيتتلمذ على سيد درويش مؤسس الغناء المصرى الحديث، والقصبجى، ويلتقيه أمير الشعراء أحمد شوقى فى منتصف العشرينيات فيتبناه ويفتح أمامه بسفرياته السنوية إلى باريس أبواب الثقافة الحديثة والموسيقى الغربية على مصاريعها
ولم تكد تقترب سنوات العشرينيات من نهايتها حتى كان محمد عبد الوهاب قد تمرس فى مختلف صنوف الغناء الموال والدور والدويتو والقصيد وغيرها وغنى: موال إللى انكتب ع الجبين، وأغانى إللى يحب الجمال يسمح بروحه وماله، وأهون عليك وفيك عشرة كوتشينة وفى الليل لما خلى، وقصائد يا ناعما رقدت جفونه، وياجارة الوادى، ونصب نفسه أميرا للمجددين فى الغناء والموسيقى فى مصر، وسيدا للتلحين
ولم تكد تستقر السينما فى مصر حتى ينزل عبد الوهاب بكل قوته إلى ميدانها فيؤسس واحدة من أوائل شركات الإنتاج السينمائى ويلعب بطولة أفلام الوردة البيضا ويحيا الحب ورصاصة فى القلب ويوم سعيد وغيرها، فضلا عن التلحين والغناء فيها، ويقوم بتلحين الموسيقى التصويرية والاغنيات والاستعراضات لعشرات الأفلام،
ويغنى للتاريخ المصرى: الكرنك والجندول وكليوباترا وأنا أنطونيو وأخى جاوز الظالمون المدى، ويغنى لبغداد ودمشق والجزائر والسودان وفلسطين
ويغنى للنيل أجمل الأغنيات والقصائد: النهر الخالد وامتى الزمان والنيل نجاشى وإجرى يا نيل.
ولحن عبد الوهاب لجميع نجوم الطرب والغناء فى مصر: أم كلثوم وعبد الحليم وعبد المطلب وكارم محمود ومحمد قنديل ووردة وفايزة وشادية وصباح حتى نجيب الريحانى وفؤاد المهندس وشكوكو وغيرهم
وقد سمعت ممن أثق به، أنه كان بالقرب من مكتب محمد عبد الوهاب بوسط البلد كانت توجد “كافيه” يجلس فيه العديد من الفنانين والفنانات انتظارا لوصول سيارة محمد عبد الوهاب وبمجرد وصولها يسرعون إليه لمصافحته وتقبيل يده، لأنهم يعرفون أن من يلحن له عبد الوهاب هذا الشهر سيصبح “رقم واحد” فى الإذاعة حتى يلحن لغيره
ومن هنا فنحن نستطيع أن نقول: إن تاريخ الموسيقى والغناء فى مصر سيتوقف عند الخمسين عاما التى توسطت القرن العشرين قائلا: لقد كان هذا عصر محمد عبد الوهاب الذى شغل الناس وملأ الدنيا بالبهجة والموسيقى والفن والشجن
ولكن مع مطلع السبعينيات من القرن العشرين أُريد لمصر وللثقافة المصرية أن تستبدل محمد بن عبد الوهاب (1703- 1791) البدوى الحنبلى الذى عاش ومات فى نجد، بمحمد عبد الوهاب الموسيقار العظيم، فى مؤامرة محكمة دارت بين السادات والمخابرات السعودية والمخابرات الأمريكية، والتى بمقتضاها يفرج السادات عن مسجونى ومعتقلى الإخوان المسلمين ويسمح لقادتهم المنفيين بالعودة للوطن، ويقوم بتأسيس الجماعات الإسلامية بالجامعات المصرية ويغض الطرف عن تسليحها وتدريبها، ويفتح باب الإعلام أمام الشيخ الشعراوى ليهاجم العلم والوطنية ويحرم الغناء والموسيقى ويدعو الى قتل تارك الصلاة ويحرض على الفتنة الطائفية، وتنسحب حكوماته من الشارع والأحياء الشعبية التى راحت الجماعات الدينية المتطرفة تفرض عليها سطوتها وتنشئ المستوصفات والعيادات ومراكز الدروس الخصوصية، وتجبر الفتيات والسيدات على ارتداء الحجاب طوعا أو كرها، وتهاجم وتحرق المسارح ومحلات الفيديو، وتهاجم أفراح الناس وتضرب الفرق الموسيقية وتكسر آلاتها، وتسمح الحكومة للشيخ كشك من على منابر وزارتها الأوقاف وبمرتبها أن يهاجم ببذائة منقطعة النظير أم كلثوم وفريد وعبد الحليم وشادية وغيرهم من أصحاب مزامير الشيطان، وفى الجامعة راحت الجماعات الإسلامية تمنع الاختلاط بين الطلبة والطالبات فى الأروقة وفى المدرجات وتضرب من الأساتذة من يعترض على ذلك وتمنع النشاط الفنى والمسرحى، كما راحت تطارد المحتفلين بشم النسيم وغيره من الأعياد المصرية، وترفض حتى الاحتفال بمولد النبى ورموزه المصرية، وتهاجم الموالد والطرق الصوفية وتسعى لهدم الأضرحة
وتفاقمت الدعوة للتفريق بين ابناء الوطن الواحد فلا ينبغى للمسلمين مشاركة المسيحيين أو مؤاكلتهم أو دخول كنائسهم أو تهنئتهم بأعيادهم، وراحت الدعوات تترى لاستبدال تحية واحدة هى: السلام عليكم، بالتحايا المصرية الثرية، وتدعو لاستبدال العقيقة البدوية بالسبوع المصرى البهيج المترع بالرموز والإشارات، وتدعو لإلغاء طقوس الموت والمقابر المصرية العميقة، بل ولهدم المقابر المصرية بما تحمل من لوحات رخامية تضم إلى جانب أيات القرآن أبيات من الشعر وشواهد للذكرى.
ومن أسف أنه بسبب الفقر وتمدد العشوائيات وتدهور التعليم وتواطؤ الإعلام فإن ثقافة محمد بن عبد الوهاب قد تمددت وتمطت، ولكنها بالتأكيد ستعود من حيث أتت، ويصدح محمد عبد الوهاب فى وادينا الطيب من جديد.

يمكنك دعم الموقع من هنا
مؤسسة ندى لحماية الفتيات

Exit mobile version