إعادة فتح الكتاب…..


إعادة فتح الكتاب..
ماذا يريدون؟
مروان الغفوري
ـــــــــــ

الحملة الثالثة خلال ثلاثة أعوام. دُشنتْ الحملة الأولى على إثر مقالي “حوار بين الزنداني ورسول الله”. كانت تلك أسوأ الحملات أخلاقاً، وذلك كان متوقعاً. آنذاك هاجمتني جماعة النظام، وكان لا يزال نظاماً مطلع العام ١٢، انتصاراً لرسول الله. أما الجماعات الدينية فانتصاراً للزنداني. وبقيت جماعة تائهة، كبيرة الحجم، كانت تريد فقط أن تعبر عن حضورها وتكسب معركة.

الانكشاف الكلي أمام الذات من الممكن أن يزلزلها، ويحدث متتالية تفاعلات نفسية ستهدد السلام الداخلي للكائن. لذا فهو يبحث دائماً، على فترات، عن معارك مضمونة ينتصر فيها. مع تلك المعارك يكون النقاش الثقافي مستحيلاً بالمعنى العملي. ذلك أن الكائن وجد معركة صغيرة، توهمها على طريقته، وقرر أن يكسبها. إن كسب تلك المعركة، كما يفكر، قمين بمنحه قدراً من السلام الداخلي ويعيد اعتباره أمام ذاته. أعني: ذاته التي لم تجد الكثير لتنجزه. الاتجاه إلى الكائن/الشخص من خلال حوار ثقافي لن يكون مجدياً، إذ أنت كمن يريد أن يحرمه من نصر أحرزه وأرض كسبها. هو غير معني بك، لا سلباً ولا إيجاباً، وربما كان محايداً فيما يخص موقفه منك. كل ما يريده منك هو أن تسمح له أن ينال منك ويمضي. سيتسامح معك بعد ذلك، سيتسامح بعمق وسيحبك، فقد منحته فرصة ليكسب معركة ويعيد استقراره النفسي، أي يشعر بوجوده.

تعلمنا الطب السلوكي على يد أحد أشهر علماء الطب النفسي: بروف. أحمد عكاشة. في مرة قال لنا “إذا لم تجدوا نصراً تحرزونه شجعوا فريق كرة قدم، وتأكدوا أن الفريق الذي ستشجعونه قادر على كسب المباراة. أنتم بحاجة دائماً للانتصارات لأجل استقراراكم النفسي”.

حدث بعد ذلك أن الذين هاجموني عادوا مرة أخرى وصاروا “من أتباعي” كما يصفهم بعض التنويريين. إذا أردت الإحالة إلى عينات تؤكد كلامي فمخزن رسائلي يعج بالنماذج. تلك الرسائل التي تمتد من الكاتب الكبير إلى التافه، ثم من التافه إلى الكاتب الكبير. لسنا مجتمعاً بلا ذاكرة كما يعتقد المثقف المهم مصطفى ناجي. نحن، فقط، نعبد آلهة الأشياء الصغيرة. وتلك معارك نكسبها ونقدمها قرباناً لله مرة، ولذواتنا مرات. وما كان لله فهو يصل إلى ذاوتنا، وما كان لذواتنا فلا يصل إلى الله.

حدثت الحملة الثانية مع “ما الذي ينبغي أن يعلمه رسول الله الليلة”. ذلك المقال/ تلك المقالات أطلقت الرياح في عديد من القرى. وصل حد الخطابة في المسجد. من المثير هُنا أن أشير إلى شابين إصلاحيين: الأول من برلين، أخبرني أنه قرأ نصوصاً من مقالاتي تلك، حول الرسول، في خطبة مسجد في العاصمة الألمانية. الآخر من تعز، فتح النيران على المقالات وصاحبها، فهي تسيء إلى الرسول وتهين مقام النبوة. الرجلان في الحزب نفسه، ويعيشان في كوكبين.

كانت تلك الموجة شديدة، ولكني لم أنزعج. وكالعادة تدخل الزندانيون العظماء ذكوراً وإناثاً، إلى أن باغتهم الحوثي في صنعاء.
الموجة الثالثة تحدث الآن.

عندما نقول الآن فنحن نتحدث عن أرض الهزائم والحروب والجوع والهلع. عن البلد الذي فقد المستقبل، وترنح وجوده على حافة العدم، وبقي له فقط .. فقط الماضي. إذا التقطنا صورة طوبوغرافية لأرضنا، ومجتمعنا، من الأعلى سنرى جيلاً كاملاً، متفاوت الأعمار، أضاع المستقبل والحاضر وبقي له ماضيه. وفيما يبدو، فلم يعد أولئك الناس مستعدين لخسارة الماضي أيضاً، والدخول في عدمية حضارية بلا ملامح، في فراغ بلا حدود.

في الموجة الثالثة حدثت متغيرات صغيرة، ذات دلالة.
الجماعات/ الجهات الدينية تفضل أن تمسك بك الآن، وأنت تخوض غمار مسألة ذات بعد ديني، وبهذا تفقدك فاعليتك ومصداقيتك، بل ومعقوليتك، انطلاقاً من الديني “الثابت” لا السياسي المتغير. وسيكون من الأفضل أن تجري شيطنتك مبكراً، فأنت على المدى الطويل والمتوسط غير مريح ليس فقط لهذه الجماعة بل لنخب الجماعة. أي: من منظور سياسي صرف يستشرف ميدان ما بعد الحرب. لا أعني بالطبع أن ثمة حملة منظمة، بل الإحساس المنظم، الغريزة الوجودية العميقة لدى المتشابهين، الحدوس الاستشرافية المتجانسة. ذلك ما يدفع الجماعات المتجانسة، آلياً وبلا قرارات فوقية، إلى اتخاذ الموقف نفسه في الوقت المناسب. مشهد درامي بشري خالص، على طريقة “الواحد للكل، الكل للواحد” كما كان فرسان دوماس الأب يهتفون.

الحرب نفسها، في اليمن، ضمرت. بقيت حرب على الأطراف في تعز، وحرب بعيدة بين الجبل والصحراء في مأرب. التحالف يقوم بالمهمة، وجيوش منظمة لا تصل أصوات مدفعيتها إلى المدن. انتقلت الحرب في اليمن، راهناً، إلى نموذج شبيه بحروب صعدة الكلاسيكية: جبهات تتبادل إطلاق المدفعية، وإعلام يتبادل صناعة النصر. اعتاد اليمني،فيما يبدو، على أصوات المقاتلات، وبقيت حياته مشلولة كلياً.
ثمة وفرة من الوقت، ومستويات من الاكتئاب تزيد أو تقل، هزيمة في الأعماق. كان إنغلز يقول عن المرأة في المجتمعات البدائية بأنها “عبدة العبد”. وهي فكرة فلسفية عميقة تشير إلى رغبة المكروب/ المهزوم في ممارسة قدر من القهر ضد آخرين، لأن يهزم آخرين، لأن يجعل منهم ضحايا له هو، هو الضحية. وكما قلت في السابق فقد تعرض المجتمع اليمني لعملية إخصاء شاملة في وضح النهار، أمام شمس اليمن البلاستيكية المحايدة، ودخل في متتالية عميقة من الهزائم وفقدان الأمل واليأس.

لاحظتُ أن الحملة الأخيرة استعرت في وقت قياسي وعلى نحو بلغ حدوده القصوى من العنف. الذين مارسوا أكبر درجات الصراخ والهجوم كانوا، فيما يبدو، يعانون من الشعور الأكثر قسوة، ذلك الشعور المتعلق بفقدان الأمل، باليأس، بالهزيمة، بالخصاء. كما لو أن المرء كان يحاول، من خلال هجومه العنيف على كاتب لم يقل الشيء الكثير ولا الشيء الرهيب، أن يخفي أصواته الداخلية، أن لا يستمع لذاته المنهكة والمتهاوية. كان هناك، من مشاهداتي، أناس يعالجون أنفسهم من خلالي. بدا الأمر شبيهاً بما تفعله بعض الشركات الاحترافية: تمنح الموظف المكروب فرصة الدخول إلى غرفة مغلقة، توفر تلك الغرفة فرصة لتفريغ شحنات الكرب والغضب والألم العميق من خلال تسكير الأطباق والكبايات وإلقاء الطين على الجدار.

قدر من السادية المتوحشة، والمفهومة. يعتقد علم النفس أن بعض الفاعلين، في حالات شبيهة، قد يصل بهم العنف حد النشوة، وبعضهم يصل إلى القذف عند ذروة العنف وفي أعاليه. لم يكن فرويد الشخص الذي توصل لهذه المشاهدة، أعني التجلي الجنسي للعملية العنفية، بل تلامذة متأخرون. الإيحاءات الجنسية الكثيفة التي تجلت في ردود كثيرة قدمت تأكيداً علمياً لفرضية سيكولوجية. وهو أمر يتناسب، بمعنى ما، مع فكرة الإخصاء نفسها بالمعنى السوسيولوجي. ثمة ما يثير الدهشة هُنا: تداخل السوسيولوجي والسيكولوجي.

ماذا تريدون أن تعرفوا عن دينكم؟
… هل أنتم مستعدون للاستماع إلى رجل يقول لكم إنكم تعرضتم لخديعة؟ وأن الله غير الشيخ، وأن القرآن غير المدونات، وأن الرسول ليس المفتي، وأن الرحمة في القرآن ذكرت في كل صفحتين مرة على الأقل، وأن ضلالات الدين الذين بين أيدينا تفوق حقائقه، وأن من يأكل الطعام الفاسد يصاب .. يصاب في جسده وعقله!

تجفلون عن النظر في مدونات تبشركم بانهيار الكون إذا تعلم الناس في الكتابة، تسلمون بما في داخل الكتب وتغلقونها، ثم من وقت لآخر تستخرجون منها الألغام وتضعونها في طرقاتنا؟

لماذا تخشون الاعتراف بحقيقة أن القاعدة وداعش والحوثيين والإخوان المسلمين والسلفيين وأنتم، وأنا، وجميعنا، ذلك العالم الجائع والمنهار الذي قتل من نفسه في العام ٢٠١٣ حوالي ٧٥ ألفاً في بين المغرب وباكستان … أن كل ذلك هو نتيجة، بالضرورة، للأطعمة السامة الموجودة في الكتب التي على الرفوف..

تعالوا، مجرد كباية قهوة صغيرة هذا الصباح. تعالوا، ماذا قالت لكم الكتب، متى سينهار العالم، وستنفجر المجرات، ويحدث التمزق الكوني العظيم.
ـ إذا تعلم الناس الكتابة!
“إن بين يدي الساعة ظهور القلم” رواه البخاري ومسلم!
ـ إذا أطاع الرجل زوجته، سينهار العالم وتقوم الساعة
“بين يدي الساعة طاعة الرجل لزوجته” رواه الترمذي
ـ عندما يرتفع سعر الحصان ثم يرخص قليلاً ستقوم القيامة وينهار الكون!
“تقوم الساعة عند يغلو الخيل والنساء ثم ترخص” رواه الطبراني والحاكم
ـ بموت الصحابة ينهار الكون، وتنهار المجرات وتقوم القيامة وتصبح السماء وردة كالدهان “إذا ذهب أصحابي جاءكم ما كنتم توعدن” رواه مسلم

كيف تجدون أنفسكم الآن وأنتم تراقبون بورصة الخيول؟.
اربطوا الأحزمة، تبهوا، إذا ارتفعت بورصة الخيول قليلاً ثم هبطت ستقوم الساعة وتنفجر المجرة أولاً ثم باقي المجرات. هذا ما تقوله الحاكم والطبراني وغيرهما ..

أخبركم القرآن، مجازاً أو حقيقة، عن قمر انشق، أو قمر سينشق. لا يعلم أحد ماذا أراد الخالق أن يقوله. لكنكم لم تهدأوا حتى قالت لك السير والأحاديث:
بلى، انشق وجلس على الجبل!
ورحتم تبتهجون، وتنكلون بمن يقول لكم “يا لها من ترهات” ما يقولونه هم، وأنتم، لا ما يقولوه الله.

أنتم، يا من تحاربون الإلحاد من خلال أسوأ صور الشرك. عندما تتحدون بالله، حتى يصعب التفريق بينكم. وعندما تزعمون أنكم أدركتم ماذا يريد الله، واكتشفتم أسرار كلماته، وصرتم أنتم هو، وهو أنتم. أنتم حتى لا تعلمون أنكم صرتم كذلك، لكننا ننظر إليكم ونراكم على ذلك المشهد الكوميرتراجيدي الموحش. اختلطت كلماتكم بكلمات الله، وعندما بحثنا عن الله وجدناكم أنتم في كل الجهات،وكنت بابه الوحيد ..

ويا له من حظ بائس.

إلخ إلخ إلخ ..
هل أنتم مستعدون للاستماع إلى رجل يقول لكم نحن واقعون تحت طائلة خديعة مدوية، وأن القرآن غير المدونات وأن سيرة النبي ليست بالضرورة ما قيل عن النبي.

سأكتب قريباً عن هذا الأمر، ما إن أجد الوقت الكافي والمزاج الرائق، وربما الحاجة لذلك..

نهاركم سعيد
م. غ.

يمكنك دعم الموقع من هنا
مؤسسة ندى لحماية الفتيات

Exit mobile version