أمس صمت اليمنيون وتحدثت النغمة، الموسيقى. تحدثت بعشر لهجات، بلا كلمات. هناك اكتش…


أمس صمت اليمنيون وتحدثت النغمة، الموسيقى. تحدثت بعشر لهجات، بلا كلمات. هناك اكتشف الصامتون، في مسرح موغادور، كم هم يمنيون ومتشابهون. ساعتان من الصمت كانتا ضروريتين ليكتشف اليمني أخاه اليمني، ليغني عبود خواجة لحناً تهاميّاً، ليتشابك دخان القرى كلها.

إذا تحدث اليمنيون فإنهم يصبحون شعوباً شتّى، لا يعرف بعضها بعضاً. هذا ما قاله العقدان الماضيان. كان عليهم أن يصمتوا بالأمس، أن تتحدث موسيقاهم بدلاً عنهم، نيابة عن لهجاتهم. قادهم الصمت إلى معناهم الواحد، دلّهم على حقيقتهم التي عبثوا بها وكأنها تخص سواهم. عندما صمتوا اتّحدوا، أو توحدوا. علينا أن نخترع تعبيرات جديدة غير الكلمات، أو بالقدر الأدنى من الكلمات، حتى تجري مياهنا مجدّداً، ليصير بمقدورنا الاستماع إلى ذلك القرار البعيد، الماضي.

قالت مجموعة بحثية يمنية تدرس السلالات الجينية لليمنيين إن أهل يافع يعودون إلى بني صريم في عمران، وأن تسعين في المائة من سكان سقطرى يمنيون ينحدرون من خولان وما حولها (هاجروا قبل ألفي عام في أقرب التقديرات)، وأن أبرز السلالات الهاشمية (قائمة طويلة) تتلاقى مع أشراف الحجاز ولا تذهب بعيدا في الجذر الجيني اليمني. لماذا نعرف اليمني جينيّاً؟ التشريح الجيني للمجتمعات سيفتح الباب للفاشية. اليمني ليس وحدة جينية بل ثقافية. من يحفظ أغنية يمنية ويملك محراثا أو قطعة من العلم فهو يمني. من يغني لثورة واحدة على الأقل، ويؤمن بالشرف من خلال الإنجاز (الإنجاز وحده) فهو يمني. ومن كان يمنياً فهو معذب وتائه ويحلم بدولة يسودها القانون. اليمن ليس كهفاً، لم يخرج من كهف ولن يذهب إليه.

في المقدمة وقف الملك اليمني الحضرمي محمد القحوم وأدار النغمات العشر بين أنامله. ببضع حركات نقل الحاضرين من المهرة إلى تعز. فعل ما فعله الفرعون مينا، أقدم ملوك مصر: وحّد القطرين.

قال الصديق محمد السامعي:
هكذا صار لدينا نسخة يمنية من “مؤتمر العودة”.

تناثرت حروف المسند على جدران المنصة، كأن من لا ينتمي إلى تلك الأبجدية لا ينتمي إلى أهل المسرح. الأبجدية القديمة والنوتة امتلكتا المنصة وعرّفتا اليمني إلى اليمني من جديد. على ذلك المستوى العميق، النفسي والتاريخي، تشابه الكلّ، وبدا السياسي عابراً وسطحيّاً. ليلة بسيطة رمّمت ما أفسدته السياسة والحرب خلال عقدين من الزمن، وأكثر. كان القحوم مصلحاً، يعيد خلق الذات اليمنية من جذورها. لم يكف عن التبسّم، وكلّما استدار إلى الجمهور رأينا بلادنا النقية، البلاد التي تتسع لكل الناس وتحبهم.

قبل الأمسية التقى الناس، وبعدها تعارفوا. الشارع المقابل للمسرح صار إلى “بابل”. هدر الناس إلى الناس بعشرات اللهجات، الألسن تبلبل، واليمني هو اليمني، ذلك الطيب الحقيقي الذي اكتشفته الموسيقى للتو واطلقته من متاهته.

امض على الماء يا محمد القحوم، سيمضي الناس خلفك يتحسسون ذواتهم ومعانيهم. احمل آلاتهم الموسيقية، صليب شعبنا التائه، وتنقل في البلدان.

كنت أبحث عن المكان، مع أسرتي، فاقتربت منا فتاتان.
سألتا: رايحين مسرح موغادور؟
– نعم.
قالت إحداهما: جئت من السويد وتهت في الطريق.
قالت الأخرى:جئت من هولندا ولا أعرف المكان.
وقلت لهما: جئت من ألمانيا وأعرف أين هي هولندا وأين هي السويد.
ومضينا معاً.

م.غ.

يمكنك دعم الموقع من هنا
مؤسسة ندى لحماية الفتيات

Exit mobile version