توعية وتثقيف

المراهنة (Wagering)…


المراهنة (Wagering)

على الرغم من أن جحا لم يدرس علم إدارة الأعمال، إلا أن ذهنه تفتق عن مشروع مُربح – عرض جحا على الوالى أن يُعلّم حمارته الكلام خلال خمس سنوات مقابل ألف دينار. إفتتن الوالى بفكرة أن تصبح حمارته مثل سيارة تسلا الحديثة، يقول لها أين تذهب، فتأخذه إلى مقصده. لكن الوالى كان مستثمراً محنكاً، فإشترط بنداً جزائياً – وهو قطع رقبة جحا إذا فشل فى تنفيذ ما إلتزم به. ووافق جحا.

إستعجب الناس – هل جننت يا جحا؟ بالتأكيد لن تتكلم الحمارة أبداً وسيبتر الوالى عنقك! طمأنهم جحا بحكمته المعهودة: “فى خلال الخمس سنوات إما سيموت الوالى، أو ستموت الحمارة، أو سأموت أنا … وتسقط القضية.” راهن جحا على موت واحد من ثلاثة فى خمس سنوات، وهو رهان كان معقولاً فى ذلك الزمن. والظاهر أنه كسب الرهان لأنه إستمر فى إمتاعنا بطرائفه بينما رأسه ما زالت متصلة ببقية جسده. … والآن نترك جحا و نوادره، ونلتفت إلى موضوع جاد، وهو موضوع المراهنة.

الناس تراهن دائماً. فى أغلب الأحوال تكون المراهنة إختيارية، دافعها الأمل فى كسب غير مستحق، كما فى سباق الخيل وألعاب القمار؛ لكنها أحياناً تكون أمراً لا مفر منه. على سبيل المثال فى بداية الثمانينات كان على كل شركة تعمل فى مجال الإلكترونيات أن تراهن إما على تقنية CMOS وإما على تقنية NMOS، وهي مراهنة كانت ستؤدى إلى كسب أو خسارة مليارات. وفى ماضى ليس ببعيد إضطرت شركات صناعة السيارات أيضاً إلى أن تراهن على نجاح أو فشل السيارة الكهربائية … وهكذا.

لكن أصعب المراهنات هي المراهنة “المصيرية”، وهي التى قد تؤدى بالمُراهن إلى الحياة أو الموت. على سبيل المثال – فى بداية السبعينات إضطر الناس فى جنوب ڤييتنام إلى المراهنة على من سيكسب الحرب، و شكل كل شخص حياته على أساس إعتقاده (أو أمله) أي طرف سينتصر. أولئك الذين راهنوا على الحصان الخاسر إنقلبت حياتهم رأساً على عقب. أحد معارفى كان طفلاً وقتها، وأخذه أهله معهم على قارب فى المحيط على أمل أن تلتقطهم سفينة عابرة. غرقت مئات القوارب و ضاع آلاف الضحايا. وتكررت المأساة فى سوريا و أفغانستان و كوبا و جواتيمالا و غيرهم – الذين راهنوا على الحصان الخاسر عانوا كثيراً، و بعضهم فقدوا حياتهم. وهذه هي طبيعة الأمور.

(لا أناقش هنا ما إذا كانت هناك مراهنات خيِّرة بطبيعتها، و مراهنات شريرة بطبيعتها. فهذا يعتمد على وجهة النظر وليس له معايير مطلقه.)

ما نراه فى أوكرانيا هو تكرار لنفس المأساة. راهن البعض على أن روسيا لن تجرؤ على إيذائهم مهما إستفزوها، وخسروا ذلك الرهان، فإنقلبت حياتهم رأساً على عقب، بعضهم إضطر إلى الهجرة، وبعضهم إضطر إلى القتال، وهكذا …. وهذا أمر مؤسف بغض النظر عن من تناصر و من تكره. هذه هي طبيعة المراهنة – إذا راهنت على حصان، فهو قد يكسب وقد يخسر، و ستتحمل نتيجة رهانك سواء شئت أو لم تشأ. الضحايا الحقيقيون هم أولئك الذين لم يقامروا، لكن حياتهم إنقلبت رأساً على عقب دون ما ذنب إقترفوه.

يمكنك دعم الموقع من هنا
مؤسسة ندى لحماية الفتيات

Farid Matta فريد متا

كاتب ادبي

‫9 تعليقات

  1. مقال شيق
    لاكن هناك معطيات في هذه الحرب في اوكرانيا لسنا علي علم بها و ايضا جهات مستفيدة ؟
    اعتقد هذه الحرب كان ممكن بل و كان يجب تفاديها و لاكن فشل ادارات راح ضحيته كثير من الابرياء🥵

  2. امتعتنا يادكتور فريد
    بصراحه مقاله وحديث شيق وممتع لدرجه اجلت شرب شاي الصباح الذي تعودت عليه لحين الانتهاء من القراءه الممتعه
    God bless you my best
    Brother❤️

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى