توعية وتثقيف

جولة فى تاريخ البشريه (١٩)…


جولة فى تاريخ البشريه (١٩)

أدان برلمان أثينا سقراط الحكيم بتهمة شبيهة بما يُسمونه فى مصر “إزدراء الأديان”، وحكموا عليه أن يموت بشرب السم. لكن عندما إقترب موعد تنفيذ الحكم راجعوا أنفسهم: “كيف نقتل أعظم فيلسوف فى الدنيا؟”، فإستجدوه أن يتوب أو يعطيهم عذراً لإلغاء الحكم. رفض سقراط: “الحياة بين حمير مثلكم لا تستحق عناءها. ناولنى يا بني قارورة السم!” (*) الله يرحمه! عزاؤنا أن إسمه بقى خالداً فى التاريخ بينما الذين قتلوه لا يذكرهم أحد. كذلك الأساطير التى قتلوه بسببها، لم يبقى منها سوى صور ملونة على علب الحلويات.

إستنبط جاليليو جاليليي (Galileo Galilei) من الملاحظة والحساب أن الأرض تدور حول الشمس وليس العكس. “ياللهول! كيف ذلك أيها الزنديق؟ ألم يوقف يشوع إبن نون الشمس فى مسارها؟ ألم يصعد الأنبياء إلى السماء على سلالم وأحصنة؟ أليست أوروشليم مركز الكون؟” حاكمَته محكمة تفتيش (inquisition) (**)، لكنهم لم يتعجلوا قتله، (فقد كان عالماً ذا مكانة،) بل إستتابوه لعله يتراجع. كان جاليليو يعرف جيداً ما فعلوه مع چوردانو برونو (Giordano Bruno) فى ماضى ليس ببعيد، (أحرقوه حياً،) وربما أيضاً رأى أن بقاءه على قيد الحياة أفضل للبشرية من موته على أيدى همج لا يساوون نعل حذائه، فإبتلع كرامته وتراجع. مرت ٥٠٠ سنه على هذه الحادثه، والآن كل تلميذ إبتدائى فى العالم يعرف جاليليو، ولا أحد يعرف، أو يريد أن يعرف، أسماء أولئك الذين عذبوه وأهانوه.

يقدم لنا سقراط وجاليليو نموذجين مختلفين للشجاعة: سقراط واجه الموت وفضّله على أن يعيش فى عالم تسوده البهائم. جاليليو واجه الموت وتراجع – ربما خوفاً، وربما لأنه وازن بين المنفعة والخسارة ووجد أن منفعة البشرية من بقائه تفوق ضرر أن يقال عنه إنه جبان. ليس لنا أن نحكم عليهما، فكلاهما من أفضل من أنتجت البشرية، لكنهما يمثلان نوعين مختلفين من الشجاعة فى مجابهة سلطة جاهلة غاشمه.

لكن أسمى أنواع الشجاعة بلا شك هو قدرة الإنسان على مجابهة الرعب الذى ينبع من داخله هو. كل طفل يلقنه والداه قِيَمهم و معتقداتهم قبل أن تكون لديه قدرة على التمييز بين الحقيقة والخرافة، أو بين المعقول واللامعقول، (***). وقد جبلتنا الطبيعة على قبول وإتّباع تعاليم والدينا كإحدى أهم إستراتيجيات البقاء (*4). وعندما يكبر الطفل ويصبح قادراً على التمييز، تكون هذه المعتقدات قد أصبحت جزءاً من شخصيته ووجدانه، ولا يستطيع التملص من براثنها إلا من لديه قدر غير طبيعى من الإستقلالية والشجاعة الذهنية.

كان ڤولتير (Voltaire) واحداً من القلة النادرة التى تمتلك ذلك القدر من الشجاعة الذهنية. لم يكن يشك فى وجود خالق، لكنه رأى بوضوح لامعقولية أن يأمر الخالق العبرانيين أن يَبْقُروا (puncture) بطون النساء بعد قتلهن، أو أن يأمر دبتين بإلتهام ٤٢ طفل لأنهم عايروا نبيا بأنه أقرع، وغير ذلك من الأمور التى لا يقبلها عقل. نشر ڤولتير شكوكه وآراءه فى كتيبات تحت أسماء مستعاره. لكن مخابرات محاكم التفتيش سرعان ما توصلت إليه. كان رجلاً غنياً وذكياً وعاشقاً للحياة، فلما ضيقوا حوله الخناق هرب إلى سويسرا حيث إستمر فى حملته التنويرية بلا هواده. ولم يكن وحده، بل شاركه آخرون مثل چان-چاك روسو وديدرو و أولباك (Holbach) وغيرهم. العالم الذى نعيش فيه اليوم يدين لهؤلاء العظماء بالكثير، فلولاهم لما تحررت البشرية (بعضها على الأقل) من غيبوبة التخلف، ولما ترسخ المنهج العلمى، ولما إنطلقت الثورة العلمية-الصناعية.

لم يرجع ڤولتير إلى فرنسا حتى توفي. ساعتها أدركت الأمة الجاحدة عظمة فقيدها، (وكانت سطوة رجال الدين قد إنحسرت قليلاً،) فنظم له مواطنوه جنازة لم ترى لها باريس مثيلاً فى عظمتها وهيبتها، وأنشأوا له ضريحاً فى پانثيون العظماء (*5)، يزوره المواطنون والأجانب حتى اليوم لتقديم فروض الإحترام والتبجيل. أما زبانية الحلف الملكى-الإقطاعى-الدينى الذين لاحقوه طيلة حياته فما هم إلا ذرات تراب فى مزبلة التاريخ.
______________________
*) هذا الكلام من عندى. لم يصلنا ما قاله سقراط بالفعل، فتخيلت ما ربما دار فى عقله.
**) كونت الكنيسة الكاثوليكية محاكم التفتيش (inquisition) بهدف إستئصال المعتقدات الإسلامية واليهودية من أسبانيا بعد إستردادها. لكن محاكم التفتيش، بعد أن أنجزت تلك المهمة، تحولت إلى ملاحقة العلماء والفلاسفة المستنيرين فى غرب أوربا.
***) فى العادة أهم جزء من تلك المعتقدات هو العقوبة التى ستحيق بمن لا يقبلها، وهى دائماً عقوبة مفرطة فى بشاعتها، تهدف إلى شل عقول البسطاء و منعهم من التفكير.
*4) فى فجر البشرية كان الطفل الذى لديه خصلة الإستقلالية وعدم الإمتثال لتعليمات أمه لا يعيش حتى يورّث تلك الخاصية لنسله. (كانت الأسود والتماسيح تتولى أمره.) وأدى ذلك إلى تأصل خصلة التبعية والإنسياق فى الجنس البشري.
*5) الپانثيون (Pantheon) هو ضريح يحتوى على مقابر أفضل أبناء وبنات الأمه (nation).

يمكنك دعم الموقع من هنا
مؤسسة ندى لحماية الفتيات

Farid Matta فريد متا

كاتب ادبي

‫16 تعليقات

  1. جميل و فريد
    نحن مدينين لهؤلاء العظماء.
    اعتقد أن سبب التخلص من العلماء لم يكن أساسا لهرطقتهم بقدر ما كان وراءه الخوف من أن يفلت الناس من قبضة سلطة رجال الدين أو السياسة..
    من قيل عنه انه أوقف دوران الشمس، كان يمكن، أن تفسر تلك الحادثة بأنه أوقف دوران الأرض، و بالتالى ثبت و ضعها بالنسبة للشمس!! و يا دار ما دخلك شر.
    أما مسألة فتك اليهود بأعدائهم فى العهد القديم، فلا سبب منطقى يجعل رجال الدين فى عصر فولتير يتمسكون بصحته، فهم اساسا ليسوا يهودا، بل أنهم يؤمنون بأن هذا هو نفس ما فعله اليهود برسل المسيحية !!! مما يعزز الظن بأن حقيقة الأمر هو إدراكهم أن العلم و المنطق سيؤديان حتما للتنوير، الذى هو ألد أعداء عاشقى السلطة
    للأسف مازال فى عصرنا أناس يؤمنون أن الأرض مسطحة!!!!

  2. لكن على الأقل كانوا يعرفون قيمة سقراط.. مهما بلغ شططهم وجنونهم. هذا الأمر لم يكن موجودا لدى من طاردوا العلماء في أوروبا الكاثوليكية أو حكموا بالتفريق بين أستاذ جامعي وزوجته في مصر لأن كلامه لا يعجب الاكليروس السني.

  3. د فريد بك حضرتك لست فقط عالما بارعا في العلوم الهندسية ولكن في فلسفة التاريخ. تحياتي وتقديري واسمحوا لي بان اضع هذه الروائع على صفحاتي.

  4. كل يوم نتعلم منك استاذنا الفاضل والاهم من ذلك انك تتطرقت لمحتوي كنت امل ان اقرأه ودخلت القسم العلمي في الثانوية بسبب ذلك واليوم اجد متعه فيما تقدمه اسلوب سهل بسيط يصل للهدف بثلاثه

اترك رد

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى