المَلَكيّة (Monarchy) – ٤ (الخاتمة)…


المَلَكيّة (Monarchy) – ٤ (الخاتمة)

من منا لن يكون سعيداً لو أنعم عليه القدر بثروة طائلة وسلطان بلا حدود؟ (لا سيما إذا كان لا يستحق هذا و لا ذاك.) لا غرابة إذاً فى أن الملوك (*) سعداء بوضعهم، (حتى و إن قالوا على لسان شكسبير “مهمومةً تنامُ الرأسُ التى تحمل التاج.”) الغرابة نراها فى رعية يدوس الملك على رقابهم و يمجدوه. الغرابة نجدها فى العبيد الذين يتوقون إلى أن يتسيد عليهم شخص لا يختلف عنهم فى شيئ سوى أن حيواناً منوياً شارداً قد جعله ملكاً. الغرابة نشاهدها فى الذين يركعون أمام شخص، أياً كان، و يُقَبّلون طرف ثوبه؛ و يستجدون عطفه؛ و تخفق قلوبهم و هم يخمنون ما إذا كان سيبتر رؤوسهم أم سينعم عليهم بلقب أو بإقطاعية.

عندما إنسلخت المستعمرات البريطانية فى أمريكا عن الدولة الأم، كان هناك إتفاق مسبق بين الثوار على أن يقيموا بعد الإستقلال نظاماً جمهورياً. لكن الناس ما لبثوا أن طلبوا من چورچ واشنطون (أول رئيس) أن يُنَصّب نفسه ملكاً، (و رفض الرجل لحسن الحظ.) لم يعجبهم أن يحكمهم رجل مثلهم تقيده قوانين و دستور و تنتهى مدته بعد ٤ سنوات؛ وأرادوا حاكماً يبتر الرؤوس و يأخذ ما ملكت يداه، ولا ينهى مدته إلا الموت. و قبل ذلك بثلاثة آلاف سنة كان بنو إسرائيل قد فعلوا نفس الشيئ عندما طلبوا من نبيهم صموئيل أن يعيِّن عليهم ملكاً “مثل جيرانهم.”

و هناك مثال آخر نعرفه جيداً و يشار إليه كدليل على إرتباط الناس بالنظام الملكي -عندما هبت رياح الربيع العربي، إجتاحت العاصفة الجمهوريات فقط ولم تمس أياً من الممالك العربية. و ذلك على الرغم من أن الممالك لا تقل تخلفاً و إستبداداً عن الجمهوريات. لماذا؟ هناك ٣ نظريات: أولاها أن القوى الخارجية التى شجعت الربيع العربي ترتاح للنظم المَلَكِية و تأمن لها. الثانية تفترض أن النظم المَلَكِية أكثر حنكة فى القمع و إخماد الإضطرابات. و النظرية الثالثة تفترض أن الشعوب المتخلفة لا تعترف إلا بشرعية الملوك، بينما النظم الجمهورية فى نظرهم ليست شرعية؛ (الملوك يختارهم الله، أما الرؤساء فيختارهم البَشَر.)

مثال رابع – بعد أن أريقت دماء غزيرة من أجل الحرية والمساواة فى الثورة الفرنسية العظمى، ما لبث الفرنسيون أن إرتدّوا إلى النظام الملكي الذى كانوا قد ثاروا عليه. وعُرفت تلك المرحلة التاريخية بمرحلة ‘إعادة إحياء المَلَكِيّة (Restoration)’. إعادة إحياء المَلَكِيّة بعد تجربة النظام الجمهوري، لم تحدث كثيراً فى التاريخ. حتى أننى لا أستطيع أن أتذكر حالة أخرى غير الثورة الفرنسية. لكن مصر ربما كانت قد إقتربت من أن تكون الحالة الثانية، أو هكذا يعتقد البعض. هناك من يساورهم الإشتباه فى أن الرئيس الراحل أنور السادات ربما كان لديه حلم خفي لإحياء المَلَكِيّة. لن نعرف الحقيقة أبداً، فقد أخذها الرجل معه إلى قبره. لكن الإشتباه يستند إلى بعض الشواهد التى سأضعها فى الحاشية (**) لأنها (فى نظرى) لا ترتقى إلى مستوى الادلة.

بهذا أكون قد تحدثت بما فيه الكفاية عن المَلَكِية. و سأختم بما بدأتُ به، وهو أننى لا أستسيغ تلك المنظومة و لا أرى فيها قيمة إيجابية فى الظروف المعاصرة. ذكّرَنى أصدقاء أقدّرهم بأن بعض أرقى وأسعد البلدان فى العالم تعيش تحت نُظُم مَلَكِية. و هذا صحيح، لكن جميع تلك الدول ديموقراطيات برلمانية دستورية لا يلعب فيها الملك أو الملكة إلا دوراً رمزياً لا تأثير له. دور الملك فى تلك البلدان هو أشبه بدور الكاهن أو المأذون فى عملية الزواج – وجوده قد يضيف رونقاً للعملية، لكن العمل الحقيقي تختص به الأطراف المعنية وحدها.
_____________________________
*) فى المَلَكيات المطلقة
**) أول تلك الشواهد هو أنه أعطى نفسه لقب “الرئيس المؤمن لشعب مؤمن،” و هو لقب يستعيد فى الأذهان لقب “أمير المؤمنين” الذى كان يتصف به الخلفاء و الملوك. المؤشر الثانى هو إعلان الشيخ الشعراوي أن السادات هو حاكم “يَسأل و لا يُسأل،” و هي صيغة لا تختلف فى جوهرها عن صيغة “الحق الإلهى” الذى منحه رجال الدين للملوك فى العصور الوسطى. المؤشر الثالث هو قرار البرلمان المصري بإعفاء السادات من المحاسبة (بحجة سرية الإنفاق على التسليح.) و هو حق لم يحصل عليه أي حاكم إلا فى المَلَكيات المطلقة. المؤشر الرابع هو الزي الإمبراطوري والصولجان وسائر مظاهر الأبهة المَلَكِية التى صار يظهر بها على نحو متزايد قبل نهايته المأساوية. المؤشر الخامس هو تغيير إسمه من ‘أنور’ إلى ‘محمد أنور’، لأن لقب “محمد الأول” له إيقاع أفضل من “أنور الأول”. مرة أخرى – هذه مؤشرات قد تعنى ما يبدو أنها تعنيه، وقد تكون مجرد تفاهات شخصية لا هدف وراءها، والله أعلم.

يمكنك دعم الموقع من هنا
مؤسسة ندى لحماية الفتيات

Exit mobile version