المَلَكيّة (Monarchy) – ٣…


المَلَكيّة (Monarchy) – ٣

يقول المثل المصري “إللى ما لوش كبير يشتريله كبير.” من غير المحتمل أن تكون القبائل السلاڤية فى سهول روسيا قد سمعت هذا المثل فى العصور الوسطى، لكنهم إمتثلوا به على أي حال، فذهب مندوبون منهم إلى أمير من الڤايكنج إسمه روريك (Rurik)، و قالوا له: “الخير فى أرضنا كثير، لكن ليس عندنا نظام (order). تعال و صِرْ علينا ملكاً!” قبِل روريك العرض، و أسس هو ونسله فى روسيا مَلَكيّة مطلقة و طبقة أرستقراطية إستمرت حتى ١٩١٧.

حدث نفس الشيئ تقريباً، (وإن لم يكن بنفس الدرجة من التراضي،) فى بريطانيا عندما إستولى عليها ويليام الفاتح سنة ١٠٦٦. جاء وليام من نورماندى (شمال فرنسا،) و لما إستتب له المُلْكُ أعلن أن كل الأراضى فى بريطانيا أصبحت مِلْكه الخاص. إستبقى لنفسه نصيب الأسد و وزع الباقى على أعوانه. و هكذا خلق طبقة جديدة من النبلاء ما زال نسلهم يشكلون الأرستقراطية البريطانية حتى يومنا هذا.

و ما حدث فى مصر بعد ذلك بحوالى ٧٥٠ سنة كان مشابها فى عمومه و إن إختلفت التفاصيل – بعد أن إستتب المُلْك لمحمد على باشا، أعلن أن أرض مصر كلها أصبحت مِلكه الخاص، و وزع بعضها على طبقة جديدة من النبلاء الموالين له. أولئك و نسلهم هم الأرستقراطية المصرية التى عرفناها حتى سنة ١٩٥٢.

يعرف الملوك أن الإمتيازات الهائلة و الثروات الخرافية التى يستحوذون عليها لأنفسهم و لعائلاتهم و أتباعهم لا تستند على أساس طبيعي أو أخلاقي، و تستفز مشاعر من لديه مشاعر. لذلك فهم يهتمون دائماً بتشكيل عقول الرعية، حتى يتقبل الناس ذلك الوضع المنافى للطبيعة (*) و لا يثورون ضده. و يقدم رجال الدين للملوك خدمات جليلة فى هذا الصدد –

إخترع رجال الدين للملوك فكرة ‘الحق الإلهي، التى فحواها أن إرادة الملك هي إرادة الله. و إذا صادر الملك أرضك أو أخذ إمرأتك أو بتر رأسك فلا تزعل، لأنه ينفذ إرادة الإلٓه. بل أن بعضهم فى أوربا تفتق ذهنه عن فكرة “حق الليلة الأولى،” فأفتوا بأن من حق الملك، (بالإضافة إلى ما جاء ذكره،) أن يقضى مع كل عروسة فى البلاد ليلة دخلتها. و أقنعوا الغنم بقدسية تلك الممارسة إلى درجة أن العريس المتعوس كان هو نفسه يتوسل إلى الملك أن يشرفه “بقص الشريط”. غنى عن الذكر أن جلالته لم يكن يستطيع أن يقدم تلك “الخدمة” لجميع رعاياه مهما كانت الفكرة مغرية. لذلك أصر على تسمية “حق” الليلة الأولى و ليس “واجب” الليلة الأولى.

ما هذه إلا بعض اللقطات المختارة من تاريخ المَلَكِيّة “المجيد”. و لا نجد هذه العجائب إلا عند البشر. أما الأنواع الأخرى فتفضل نظماً أكثر ديموقراطية. أقرب الأنواع إلى البشر فى ممارسة النظام المَلَكي المطلق هم قرود البابون. يتمتع ملك البابون أيضاً بمبدأ “الحق المطلق”، لكن ذلك الحق عندهم يقتصر على ما طاب له من الإناث، (فالقرود لا يهتمون بالنقود ولا العقارات و لا الألقاب.) و كما قال ريتشارد الرابع فى إحدى مسرحيات شكسپير (**) : “مُثقلة هي الرأس التى تحمل التاج،” لذلك ملك البابون يلزمه أن يظل متيقظاً حتى لا “تلعب البابونات بذيولهن” بينما هو نائم أو مشغول مع واحدة منهن. و هناك فارق آخر بين المَلَكيّة البابونية و المَلَكيّة البشرية. فالبابون لا يتوارثون المُلْك، بل يتبعون نظاماً مختلفاً – ما أن يشتد عود واحد من العُزّاب حتى يقتل الملك ويأخذ مكانه، و هذا تقريباً هو ما كان يحدث بين المماليك الذين حكموا مصر نحو ٥٠٠ سنة.

أشرت فى الجزء السابق من هذه المقالة إلى أن الناس قد رُوِّضوا على مدى العصور على قبول “الحق المطلق” للملوك، حتى أصبح ذلك القبول عندهم مثل الغريزة التى لا تخضع للعقل. سأورد فيا يلى مثالاً آخر يوضح ذلك – بلغ إجمالي عدد ضحايا ثورة يوليو فى مصر ٦ أشخاص، أٌعدِموا بعد محاكمات صورية. و ما زال الكثيرون فى مصر يعتبرون ذلك من أجسم التجاوزات فى تاريخ بلادهم. أما أن محمد علي باشا كان قد قتل ١٠٠٠ شخص فى ليلة واحدة، بدون محاكمة على الإطلاق، و لو حتى صورية، فذلك عندهم أمر مقبول تماماً و لا يعيب “مؤسس مصر الحديثة.” لماذا؟ لأن محمد علي كان ملكاًً، أما ثوار يوليو فكانوا من عامة الشعب (commoners).

و للمسألة أيضاً جانب ديني – أوردتُ فى تلك المقالة ٤ أمثلة لبطش الملوك الذى لا رادع له: أوكتاڤيوس، و هنرى الثامن، و إليزابث الأولى، و هارون الرشيد. تقبل الناس بلا نقاش حكايات أوكتافيوس و هنرى و إليزابث. أما عن هارون، فقد طالبونى بالبرهان و الدليل و الإثبات و الوثائق، مختومة من الوزارة و السفارة و الإدارة و الإمارة. لماذا يا ترى؟! لأنهم قد دُرِّبوا منذ نعومة أظافرهم على ربط المُلْك بالدين، فأصبح المساس بهارون عندهم مساس بالدين، حتى وإن لم يفكروا هم فى الأمر على هذا النحو. (و إلا لماذا لم يطالب أحد بالدليل على أفعال أوكتاڤيوس و لا هنرى و لا إليزابث؟)

كنت أنوى أن ينتهى الحديث عن المَلَكيّة (Monarchy) فى تعليقين. لكنه إمتد إلى ٣، ولم ينضب الموضوع بعد. فربما ستكون هناك حلقة رابعة.
____________________________
*) لماذا يملك شخص مليون فدان ولا يملك آخر رقعة يرقد عليها؟
**) مسرحية ‘هنرى الرابع.’

يمكنك دعم الموقع من هنا
مؤسسة ندى لحماية الفتيات

Exit mobile version