توعية وتثقيف

الشيخ إمام…


الشيخ إمام

قابلت الشيخ إمام لأول مرة عندما كنت معيداً فى الجامعة، و كان ذلك بفضل صديقى العزيز أحمد أبو العطا، الذى كان وقتها مفكراً عصرياً مستنيراً؛ و ما زال كذلك حتى بعد أن أصبح من رجال الأعمال الناجحين على المستوى العالمي. كان الشيخ إمام و رفيقه أحمد فؤاد نجم نماذج حية ‘للشعراء الحفاة’ الذين كنت قد قرأت عنهم فى تاريخ الحضارة الإغريقية. نجم كان ‘حافياً’ بالمعنى الحرفي تقريباً، فلم يكن لديه من الأحذية سوى شبشب “زنوبه” ثمنه بضعة قروش، أما الشيخ إمام فكان يرتدى ما يمكن تسميته (مجازاً) “بدلة” أكل عليها الزمان و شرب.

أول مرة إستمعت فيها إلى أداء الشيخ إمام كان فى شقة خاصة فى شرق القاهرة، ثم مرة أخرى فى شقة نجم التى كانت فوق سطح عمارة بالقرب من وسط البلد. و فى المرتين كان هناك كورس من الشباب يرد على الشيخ فى الفصلات المناسبة. و كان الأداء ممتعاً و على مستوى حرفي جيد، فضلاً عن المضمون المتيم بعشق مصر وشعبها. بعد ذلك تم تدبير زيارة للشيخ والشاعر إلى الكلية التى كنا نعمل فيها، (أحمد و أنا،) فى مدينة منوف.

كان الشيخ إمام يحتاج إلى “تعميرة” كشرط ضروري قبل الأداء. لا أذكر بالتحديد كيف تدبرنا فى ذلك الأمر، لكن كان هناك “أولاد حلال” يستطيعون تدبير أي شيئ. فى جلسة تحضيرية فى الشقة التى كنت أسكن فيها مع أحمد و زملاء آخرين، تم ضبط مزاج الشيخ إمام، ثم ركبنا سيارة بالأجرة لنذهب إلى الكلية. و إنحشر فى تلك السيارة عدد غير محدد من الركاب، مما أدى إلى “خرشمة” العود. لكن الشيخ إستعمل العود المكسور فى تقديم أداء لا يُنسى.

إنسجمَتْ ألحان الشيخ إمام مع أشعار نجم فى تركيبة بديعة؛ (أو كما يقول الأنجليز “Marriage made in Heaven”.) لا زلت أذكر حتى الآن، بعد أكثر من نصف قرن، أغنية ‘ع المحطه’ التى تصف على لسان عامل فقير مشاعره عندما أنكر عليه ركاب الأوتوبيس فرصة أن يسترق نظرة إلى حسناء راكبة فى درجة أولى. “خش هناك يا أسطى! درجه أولى مش للى زيك …” و يرد المسكين: ” … هوّه يعنى الكون هيخرب لو فقير يلهطلُه لهطه؟”

أو أغنية ‘بقرة حاحا’ النطاحة، التى تصور مصر كبقرة حلوب “تحلب قنطار،” لكن منهوب من سابع جار. و البقرة تناشد أولادها، (أولاد الشؤم،) أن ينقذوها، لكنهم غارقين فى النوم، … ، و غير ذلك من الأشعار الخالدة التى يستطيع القارئ العثور عليها بنفسه على الإنترنت (و لن يندم.)

كان ذلك فى النصف الثانى من الستينات، و عانى الرجلان من ملاحقة و مضايقة أجهزة الأمن. لكن ذلك لم يثنيهما عن التعبير عن مشاعر الطبقة الفقيرة، خصوصاً بعد هزيمة ٦٧. و إزدادت الأشعار و الأغانى حدة فى عهد سيئ الذكر أنور السادات الذى سجنهما بعد أن نعتوه، هو و قلاضيشه، ب”سلاطين الفول والزيت.” كان ذلك فى أغنية تصف ترحيبه المهين بسيئ الذكر الآخر ريتشارد نيكسون: “قلاضيشك يوم تشريفك / عملولك زفه و زار / تتقصع فيه المومس / و القارح و المندار.”

كان السادات قد رتب لنيكسون موكباً يشبه مواكب النصر التى كان الرومان يستقبلون بها الأباطرة الفاتحين عند عودتهم من غزواتهم. ركب الرجلان جنباً إلى جنب فى سيارة مكشوفة، وإصطفت حشود المصريين على الجانبين تهلل لهما. جرى ذلك فى يونيو ١٩٧٤، و إستقال نيكسون بعدها بشهرين عندما أصبح عاراً على بلده و على المنظومة الديموقراطية.

بعد ذلك بقليل تركتُ مصر و “صحوتها” إلى بلاد لم تصحو (و الحمد لله.) و ذات يوم دخلت إلى محل إسطوانات (records) فى بلدتنا كان فيه قسم للموسيقى العالمية، و وجدت هناك إسطوانة عليها تسجيلات للشيخ إمام أنتجت فى فرنسا. و ما زلت أحتفظ بتلك الإسطوانة، حتى بعد أن إنقضى عصر الإسطوانات.

فى شبابي المبكر كان ذوقى قد تشكل على الموسيقى الغربية بنوعيها الكلاسيكي والشعبي (pop)، لكن موسيقى الشيخ إمام و أشعار نجم لمستا وتراً حساساً فى وجدانى، فأصبحت أكثر إنفتاحاً على الفنون الشرقية. رحم الله الرجلين، فقد كانا ظاهرة فريدة فى تاريخ الفن المصري.

يمكنك دعم الموقع من هنا
مؤسسة ندى لحماية الفتيات

Farid Matta فريد متا

كاتب ادبي

‫33 تعليقات

  1. I attended this unforgettable night and enjoyed his songs and became one of his fans, I was playing his songs to my sons here in states like Masr Ya ama Ya Bahia, I want to admit also that I fall in love that night with a wonderful girl called Vivian but had to leave her because of stupid life challenges, Thanks for bringing those memories .

  2. يعيش التنابلة فى حى الزمالك وحى الزمالك مسالك مسالك ، وفيه حاجة تانية عن السادات فاكر منها يانفس يبلبع ، ويفضل يهلضم وما تفهموش
    الله يرحمهم

  3. كنا فى اوائل السبعينات “فى هندسة عين شمس” نحتفى بحفلات الشيخ إمام وأحمد فؤاد نجم _ فى فترات راحتهما من السجون _ وكنا نقيم حفلاتهم فى أكبر مدرج بالكلية وأثناء الغناء كان بعض الزملاء يمرون علينا بالمناديل ليضع كل منا بضعة قروش حتى ندفع ما تيسر فى شكل صرر “جمع صرة”. وكنا أيضا نحتفى بالمرحوم محمد نوح “مدد مدد شدى حيلك يا بلد” وذلك فى الغالب كان فى أيام سجن الثنائى الرائع. رحمهم الله جميعا.

  4. مقال ممتع جدا. ينم عن اصاله متجزره وعشق للفن باطيافه. رغم أنني درست الهندسه في نفس الحقبه تقريبا لم اهتم الا بموسيقي السيدتين , من الله بالصحه علي الأولي ورحم كوكب الشرق. كنت في ماموريه عمل في هولندا بعد تخرجي بما يزيد عن عقدين وتعرفت علي موسيقي الشيخ امام من صديق هولندي كان مدرسا فيما يسمي جامعه امستردام الحره . وأدار اسطوانه للشيخ وكان يستمع إليه باستحسان واضح أخذا علي جرم أنني لم أكن أعرفه رغم أن الرجل لم يكن يعرف لغه غناء الشيخ . هي ظاهره غريبه ربما وجدت الوفت لتحليلها كمتزوق للموسيقي العالميه.

  5. ياه يا دكتور فريد لقد فتحت صندوق الذكريات أنا كنت حاضر لهذا الحدث وأقول أولا تم تدبير التعميره اياها من الحبايب في مركز الشرطه يعني كانت تعميره ميري معتبره أما الازجال والأغاني فلا زلت أذكر البعض منها مثل على المحطه وإللي شفته أنا عالمحطه وجيفارا وزجل الحوار بين نيابة أمن الدوله والمواطن وغيرها وكنا مسجلين شريط الحفله كنا نسمعه في السر خشية الابلاغ عنا
    …. كانت أيام وذكريات رغم هذا العمر لا زلت أذكرها واترحم عليها
    لي عندك شخصيا رجاء رتب مع الدكتور أبو العطا أن تتواجد معه عندزيارته القادمه إلى مصر سنكون سعداء جدا إذا سمحت الظروف تواجدت…. شكراً دكتور فريد مع تحياتي… تلميذك لواء شرطه مهندس عبد الحميد كراره

  6. يا دكتور فريد ..
    صباحك كله هناء وسرور و ابداع
    يا استاذي الرائع …
    لقد أشعلت ذكريات جميلة …
    اذكر و نحن في معهد منوف للالكترونيات واحنا في السنة الثالثة أو الثانية تقريبا ( سنة ٦٨) كان عندنا تدريب في مصنع بنها للالكترونيات , و كنا نقيم بمعسكر خيام في استاد بنها الرياضي ، كنا في المساء بعد التدريب نذهب نتفسح على كورنيش بنها ، وفي أحد الفسح على الكورنيش صادفنا الشيخ امام و معه رفيقه احمد فؤاد نجم ، طبعا كانا بنفس الزي الذي وصفته و الشيخ امام غنى ( جيفارا مات … ) و اغاني اخرى و كنا نردد معه أغانيه ، و اذكر أيضا ايام المعهد اللجنة التقافية باتحاد الطلبة عملت حفلة و كان فيها إمام و نجم بنفس الزي المتواضع و كان رئيس الاتحاد وقتها سليمان هنداوي ، يمكن الاخ العزيز عبد الحميد كرارة يذكر هذه الفعاليات الثقافية.
    تحياتي لك استاذنا Farid Matta والى استاذنا احمد ابو العطا و إلى كل دفعتي ٧١ ، ٧٢ الزملاء الأفاضل .

  7. عظيم يادكتور فريد المقال
    واعجبني وامتعني الفيديو الذي عرضه الاستاذ Ahmed Kamelمشاركتك لمقالك وهوللشيخ
    امام والفاجومي …اغنيه النضال التي لاتموت
    وكلماتها الرائعه التي ترجعنا لايام الزمن الجميل(وبالايدين المعروفين ياسنابل….)
    واغنيه كل عين تعشق حليوه وانتي حلوهفي كل عين(واسمحيلي في كلمتين….)
    ربنا بخلبك وتمتعنا انت واصحابك بكنوز الزمن الجميل 🌹

  8. مقال متميز و ( متفرد ) كالعادة فالأسماء ليست من قبيل الصدف فإسم ( فريد ) صادف أهله .طبعا أنا حديث العهد بصداقتك وليس كأصدقائك القدامى ، ولكن شخصيتك المتفردة ( ونحن كما أعتقد دفعة واحدة فى الثانوية العامة سنة ١٩٥٨ ) ، أثارت فضولى للتعرف على مشوار حياتك ، فما الذى ذهب بك إلى منوف ؟ هل تم تعيينك عضو هيئة تدريس فى هندسة المنوفية ، وما هى بلدتك التى بها أسطوانات كلاسيك ، تقصد هنا فى الصعيد أم فى أمريكا .أعذرنى إن كنت قد أقحمت نفسى على تاريخك الشخصى ويا ريت تقول لى عن أسماء زملائك فى مدرسة المتفوقين ودخلوا كلية الطب ، هل منهم إسم الدكتور محمد بهائى السكرى و الدكتور شكرى محمود عرفة ، لأنهم دفعتى فى طب القاهرة .

  9. منشور جميل ورائع…لكن كنت أتمنى أن لا تصف السادات بسيء الذكر احتراما لمشاعر محبيه ، أنا شخصيا لي الكثير من التحفظات على عبد الناصر ، لكن في أصدقائي العديد من مريديه بل والمتعصبين له ، فلا أملك إلا احترام مشاعرهم ، وأكتفي بالانتقاد الذي لا يجرح الشخص من قريب أو بعيد

  10. طبعاً أذكر واتذكر هذه الأيام الجميله بتفاصيل أعجز عن تفسيرها كنا في هذا الزمان نعيش أيام تسبقها أحلام لم تنتهي ولم تتوقف حتى الآن أحمد فؤاد نجم كان يرتدي بنطلون جبردين كاكي وقميص أبيض خارجي وشبشب جلد باصبع وأعرف من دبر له التعميره الميري ولا زلت احفظ الكثير من أشعاره وازجاله

  11. الله الله هل من مزيد استاذنا الفاضل؟ رايت الشيخ امام مره واحده ايام السادات حين زار المنصوره وغني عدد كبير من الاغاني ويومها انتابني احساس ونحن نردد ونصفق اننا سنخرح من المقر الي عربة الترحيلات حين قال بصوت عال متهكم تلاه تصفيق رئيسك خلاص سلمك لليهود وضيع عليك اي فرصه لنصر ..مصر يامه يابهيه ..توت حاوي توت وغيرها

  12. تعرض إمام للإغتصاب فى طفولته من احد رواد المسجد والذى دعاه الى منزله لعمل ما يعرف بالختمه وهناك تمت هذه الجريمه( منقول عن مذكرات أحمد فؤاد نجم)، ربما كان لحادثه كف البصر والإغتصاب والفقر الأثر الأكبر فى فكر وقناعات بل وحياة الشيخ امام.

  13. كانت ظاهره الشيخ امام و نجم تكتسح الجامعات المصرية.. و كانت شرائط الكاسيت لأغانيهم يتم تداولها كالمخدرات.. كانت هناك روح لمقاومة الساداتية و التى رد عليها سيئ الذكر باخراج الاخوان و السلفيين و تشكيل الجماعات الاسلامية لتسيطر على اتحادات الطلاب و المناخ الجامعى و تنشر الجلباب و النقاب برعاية امنية.. ثم سيطروا على النقابات و كان ما كان و لازلنا نعاتيه حتى اليوم..

  14. مادام البوست عن الشيخ امام, فهذا أمر ذو شجون, فالرجل بلدياتى ووالده من جيراننا, كان الشيخ امام أكبر من والدى بحوالى عشر سنوات, وبالطبع انتقل الى القاهرة قبل مولدى, كنت قد تخطيت الخامسة والعشرين عندما أخذنى صديق من قريتنا الى وكره فى خوش قدم, قدمنى صديقى له “الاستاذ سامى من البلد يامولانا”, كان هناك نجم وزوجته صافى وعدد من الصحفيين والغرفة كانت مزدحمة مثل علبة السردين فعلا لا قولا, جاءت جلستى بجانبه, وإذ به يفاجئنى بعدة اسئلة بدت عادية كشخص يرحب بواحد من بلدياته, : ازيك يا استاذ سامى؟, لست ادرى كيف التقط اسمى فى هذا الصخب الذى كان يدور فى الغرفة, قمت بالرد عليه “الحمد لله يامولانا”, : خلصت دراسة ولا لسه؟, “نعم يامولانا وانا حاليا فى الجيش”, وإذا به يفاجئنى : تعرف حد اسمه مصطفى عيد (وهذا اسم والدى), تعجبت من سرعة بديهته وأجبته بأنى إبنه, فجاء صوته عاليا وهو يرحب بى ترحيبا حارا وبدأ يحكى ذكرياته فى منزلنا وترك كل من فى الغرفة وتفرغ للحديث معى, وبينما ذهنى مشغول بكيفية تعرفه على اسم والدى لمجرد سماع صوتى وهو الذى لم يلتقى والدى من خمسة عقود على الأقل, فجأة قال احد الصحفيين انه قرأ على التيكرز قبل حضوره اعلان وفاة الجنرال جياب قائد الفييت كونج وهم مقاتلى فيتنام الذين دوخوا فرنسا وأذلوها ثم دوخوا الأمريكان, هنا تركنى الشيخ وصاح فى إتجاه الصحفى “هذه أكاذيب وتلك أمانيهم, جياب لا يمكن ان يموت”, سبحان الله على هذه القدرات العجيبة, بالفعل تأكدنا ان الخبر كان كاذبا ومصدره امريكا بطبيعة الحال

  15. اول مره سمعت الشيخ امام كانت في ايام الثوره
    وحبيت اغانيه جدا واصبحت من متابعيه
    والي الان ” مصر سلامه يا بهيه” من اجمل الاغاني التي احب سماعها
    ايامها وكعادتي عندما احب شيء ابحث وراءه
    ايامها تعرفت علي اشعار احمد فؤاد نجم وقصته مع السجن السياسي
    لكنني لم اتابع ابنته

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى