توعية وتثقيف

الجِپْتَانا (Geptana) (١)…


الجِپْتَانا (Geptana) (١)

هل تعرف ما هي الجِپْتَانا (Geptana)؟ أغلب الناس، (بما فيهم كاتب هذه السطور،) لم يسمعوا عنها إلا مؤخراً، أو لم يسمعوا عنها بتاتاً. كنتُ قارئاً شرهاً منذ طفولتى ومع ذلك لم أصادف أي ذكر للجِپْتَانا (Geptana) فى أي كتاب قرأته.

الجِپْتَانا (Geptana)، كما سنرى، هي نص مصري قديم فريد من نوعه، و من النادر أن يوجد ما يضارعه فى قيمته التاريخية والثقافية والحضاريه. كيف إذاً إنمحى ذكر هذا النص تماماً طوال ٢٠٠٠ سنه؟ لا يمكن أن يحدث شيئ كهذا من تلقاء نفسه. لا بُدّ أنه كان هناك جهد مكثف ومنسق لمحوه من الوجود. لكن لماذا؟ ومن فعل ذلك؟

لأن الجِپْتَانا (Geptana) هي بمثابة “قنبلة نووية” ثقافية من شأنها أن تهدد الهيكل العقائدى الذى يسود نصف العالم. تخيل إنك إكتشفت فجأةً أن سفر التكوين وجهنم والفردوس وجبريل وميخائيل … وحتى ‘رؤيا يوحنا’ … إلخ، كلها كانت معروفة ومسجلة فى مصر مئات السنين قبل أولئك الذين قالوا لنا إنها كُشفت لهم حصرياً بوحي من السماء! ألا يكون هذا زلزالاً فكرياً لا يعرف أحد مداه؟

هذا بالضبط ما أدركته المؤسسات الدينية، فتكاتفت على محو أي أثر للجِپْتَانا (Geptana) من الوجود، ونجحوا إلى درجة تقارب الكمال.

لم يكن نجاحهم هذا أمراً فريداً من نوعه، بل كانت هناك أمثلة أخرى سأذكر منها ثلاثة. المثال الأول: كنا نعرف من الوثائق الكنسية المبكرة عن وجود أناجيل ‘غير معتمده’ فى القرون الأولى للمسيحية، لكن الكنيسة نجحت فى محو أي أثر لهذه الأناجيل لمدة تفوق ١٦٠٠ سنه، ولم نرى مضمونها إلا بعد إكتشاف مخطوطات نجع حمادى، (بمحض الصدفة،) عام ١٩٤٧ (*). مثال ثانى: نحن نسمع عن “مسيلمة الكذاب”، لكن لا أحد يعرف شيئاً عن تعاليمه، لأن المؤسسة الدينية نجحت فى محو أي ذكر لتلك التعاليم على مدى ١٤٠٠ سنه. مثال ثالث: لم يكن أحد يعرف أن كثيراً من التعاليم المسيحية كانت موجودة ومسجلة قبل أن يولد السيد المسيح. إتضح ذلك عندما عثر راعي فى بادية فلسطين على مخطوطات كهوف قمران (**)، لكن قليلون خارج الأوساط الأكاديمية يعرف هذا.

وكما أدت الصدفة المحضة إلى إكتشاف مخطوطات نجع حمادى ومخطوطات كهوف قمران، أدت أيضاً إلى إكتشاف الجِپْتَانا (Geptana) قرب أواخر القرن الماضى.

لا شك أن القارئ عند هذه النقطة قد أوشك صبره على النفاذ ويكاد يصيح: “هلا قلت لنا أخيراً ما هي هذه الجِپْتَانا (Geptana) وما هو مضمونها؟! لقد أزهقتنا بالمقدمات والتلميحات وآن الأوان أن تدخل فى صميم الموضوع!” أرجو المعذرة، لكن المقالة قد أصبحت طويلة، وسنستكمل الحديث فى تعليق قادم إن شاء الله.
_____________________________________

*) كان هناك حوالى ٨٠ إنجيل فى القرون الأولى للمسيحية. فى بداية القرن الرابع إعتمد آباء الكنيسة أربعة أناجيل (متى، مرقس، لوقا، ويوحنا) وأمروا بحرق كل ما عداهم. لكن راهباً من نجع حمادى لم يمتثل للأمر، وإحتفظ بنسخ من تلك الأناجيل حتى دُفنت معه. بالصدفة المحضة عثر صبي فى نجع حمادى سنة ١٩٤٧ على مقبرة ذلك الراهب، ووجد فيها جَرّة فخارية تحوى نسخاً من أناجيل يهوذا وبرنابا وبطرس والعذراء والطفولة (infancy) وغيرهم.
**) تعرف أيضاً بمخطوطات البحر الميت (Dead Sea scrolls).

يمكنك دعم الموقع من هنا
مؤسسة ندى لحماية الفتيات

Farid Matta فريد متا

كاتب ادبي

‫24 تعليقات

  1. كانت هناك أناجيل كثيرة لم يتم اعتماد إلا 4 فقط من بينها. وبالنسبة لما قاله مسيلمة فقد أورد التاريخ شذرات مما قاله، مثل “إنا أعطيناك التفاح، فصل لربك وارتاح”، وهي نصوص هزيلة ليس بها إلهام بشيء. لكن لدي تعليقًا أساسيًا على ما تفضلت به يا جناب الدكتور، هو أن المعرفة الدينية كانت منذ أقدم العصور، وظلت واحدة بصرف النظر عن الأديان التي جاءت تترى بعد ذلك، وهو ما يؤكد أن الله كان معروفًا للبشر منذ فجر التاريخ، ولم يترك خلقه كما يعتقد المحدثون.

  2. مقدمة مشوقة. العلاقة بين الغنوصية (العرفانية) والمسيحية المبكرة لازالت بالنسبة لي ينقصها الوضوح. ويرجح البعض ان يوحنا المعمدان كان تحت تأثير أفكار اهل وادي قمران وربما تنير لنا هذه النقطة يوما في مقالاتك.

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى