كتّاب

كتب للفلاح والمحارب، ولم يرتبك قط….


كتب للفلاح والمحارب، ولم يرتبك قط.
ــــــــــ

كان المعلم الراحل مطهر الإرياني.. يمنياً خالصاً، ابن طين اليمن القديم، وروحها القديمة..

1. انحاز لثورة ٢٦ سبتمبر كلياً، مجدها وكتب عنها القصائد وتسامى في آلامها. كان يرى الثورة فضيلة خالصة، كلما ناداها من جهة أجابته. كانت أم الفضائل، ولم يكن يقلقه منها سوى شيء واحد: أن تسقط. وأكثر من مرة كان يتوعد بأن يبقى الجمهوري الوحيد إذا ضل الناس طريق الجمهورية.
٢. انحاز، كلياً، إلى الجيش العربي المصري الذي قدم لمساندة الثوار. في تلك الحرب، التي خاضها الجيش المصري في اليمن، قُـتل آلاف اليمنيين. قدرهم صاحب “اليمن الثورة والحرب، إدغار أو بالانس” بـ ٢٥٠ ألف يمني. كان مطهر الإرياني يرى أن الحرية تستأهل دفع الأثمان كلها، وعرض روحه كواحدة من الأرواح التي لا بأس وأن تهلك ليبقى يمنه العظيم.
٣. واجه الإئمة على كل الصعد. لم يكتف بمواجهة الأئمة كنظام سياسي بربري، بل كنظام عقائدي وأخلاقي ضال، يقوم على أساس تقسيم المجتمعات إلى سادة وعبيد، ويفرض ذلك التقسيم الطبقي بكل الآلات الحادة الممكنة، وبالمدفعية. دخل الإرياني إلى العقيدة، إلى النواة الساخنة للعقيدة الفوقية وبارزها من الداخل، وكال لها أكثر الكلمات شراسة. سخر منها على طريقته، وتوعدها، ثم انتسب تارة إلى اليمني العظيم وتارة إلى فريق الرسول، دافعاً بالإمامة إلى الأطراف: فلا هي من الرسول ولا هي من اليمنيين، كما قال في أعمال كثيرة منها “ملحمة المجد والألم”.
٤. انطلقت الأخبار في عواصم الدول المساندة للأئمة، مثل السعودية وباكستان والأردن، لتقول إن الجيش المصري يستخدم أسلحة كيماوية في حربه ضد اليمنيين “ولم يكن ذلك بلا دليل”. بقي مطهر الإرياني متماسكاً، يغني:
والليل لملم من أطرافه ذيوله ورفع
من كل جانب رداه
والفجر جيشه تقدم كلما احتل موقع
فر الدجى من قداه
والشمس عرس الصباح في خدرها الآن تطلع
تزفها ام الحياة
والصبح ماقد رفع عنها القناع لكن أزمع
يظهر بشاير سناه.

بقيت المعركة في عيني المعلم الإرياني واضحة المعالم: الفجر والدجى.
غير آبه بمن كان مع الفجر، ولا بمن كان مع الدجى. فذلك لا يغير طبيعة المعركة ولا هندستها، ولا يمس حقيقتها. سحرته “بشاير سنا الصبح”، وشكلت وجدانه وأغنيته.
٥. تحسس اليمن، كل اليمن، بقلبه وروحه: روحه العاشقة وقلبه الثائر. راح يستكشف خط المُسند، الطريقة التي دون بها اليمنييون القدامى الحياة والعالم، وزهر الجبل. اكتشف اليمني العظيم، الفلاح والمحارب والمتحضر، وراح في كل الجهات يكشف القناع عن فئة الحكم الطبقية البربرية. لم تكن، كما رآها، لا يمنية ولا متحضرة.
٦. انتسب، على نحو عميق وتراجيدي، إلى “اليماني”. ستصبح تلك الثيمة هي العمود الفقري لبنيته الروحية والذهنية. اليماني، الذي سيصنع مواقفه وقصائده، وسيدفعه للبحث في تاريخ اليمن: من نسر الجبل حتى الملوك التائهة في التاريخ.
راح الإرياني يكتب تحت سماء اليمن الزرقاء، اليمن التي لم تغادرها الحروب قط منذ الليلة التي قرر فيها يحيى الرسي “الإمام الهادي” مغادرة الحجاز والبحث عن وطن بديل مع نهاية القرن الثالث الهجري.
كتب الإرياني عن النسر اليماني الجارح، عن مخالبه الشرسه، عن الباشق الذي يصرصر في أعالي الجبال متحدياً الإئمة ونظامهم الأخلاقي والعسكري.

في القمة الباشق الأبقع يصرصر ويرفع
رأسه بكل اتجاه
ما لاح له صيد إلا و ابرز اظفار تفجع
وشل نفسه وراه
ينقض مثل القدر فارد ذارعين تنزع
من جوف صيده كلاه
النسر نفاث بين الطير إن هكب اسمع
صدى حنينه وراه
قد بايع الجو للنسر اليماني ووقع
بالملك له لاسواه
وعالم الطير للنسر اليماني مطوع
يعلن لملكه ولاه

٧. “عندما هددت الذئاب العاوية الأمل الواعد”، وفقاً لكلمات عبد الباري طاهر، راح الإرياني يقرع الأجراس:
فوق الجبل حيث وكر النسر
فوق الجبل
واقف بطل محتزم للنصر
واقف بطل
يزرع قبل في صميم الصخر
يزرع قبل
يحرس أمل شعب فوق القمة العالية.

٨. كان “أمل الشعب” يحدد المصير الأخلاقي لمواقفه، يعالج ما يراه بروية وشجاعة. فيما بعد ستقوم الثورة بأول عملية افتراس ضد نفسها، أغسطس ١٩٦٨، فيقف الإرياني في المنتصف ويعيد التذكير بالحقيقة: الإماميون على الأبواب. اقتتل الثوار في صنعاء، الثوار الذين صاروا قوات مسلحة وسلطات بيروقراطية. ذلك الصراع المحزن لم يمنع الإرياني من رؤية المتقاتلين وهما لا يزالان يمثلان حقيقة “القافلة”. لم تشغله آلات الصراع ولا آلياته، لا طبيعته ولا تكوينه. ذلك عندما ينظر من أعلى جبال صنعاء ويرى البربرية القادمة من الجبال البعيدة، أو “الرياح السود” بتعبير المقالح. بالنسبة للإرياني فقد كان كل صراع مجانياً، كل صراع وأي صراع، فثمة خطر هو الأكبر، وهو الأكثر مأساوية وتراجيدية. على طريقة الرائي العليم، الرائي الأكثر شرفاً وشفافية في تاريخ اليمنيين المعاصر، جلس وكتب:
ياقافلة عاد المراحل طوال
وعاد وجه الليل عابس
ياقافلة صفي صفوف الرجال
واستنفري كل الفوارس
قولي لهم عاد الخطر مايزال
لاتأمنوا شر الدسايس.

٩. كانت عيناه سارحتين في الغد، الغد الذي لا يتسع سوى إن ضاق الماضي. أخبر رفاقه: غداً سنفعل كل شيء، سنختلف، وسنتقاتل بالمقالات والقصائد، سنجلجل على طريقتنا. أما الآن، فلا صوت يعلو فوق صوت المعركة. تلك الفكرة المركزية التي كانت تحكم مواقف الجنود الأصدقاء، والساسة الأصدقاء في مصر..

هيا شباب اتوحدوا للنضال
وانسوا خلافات المسامر
وبعد نيل النصر تصبح حلال
كل الموارد والمصادر
كلٌ وفكره ينصره بالمقال
ولو يراشق بالمحابر.

إلخ إلخ ..

لذلك يبكي اليمنيون مطهر الإرياني. إنهم جدّهم العظيم الذي تركهم في لحظة فارقة من حياتهم. لحظة عصيبة ومميتة تشبه تلك اللحظات التي صعد فيها إلى مرتفع صغير في صنعاء وصرخ بأعلى صوته حتى سمعته كل اليمن:
ألا إن الأئمة لم يكونوا
سوى فئة من المتثعلبينا.

م. غ.

يمكنك دعم الموقع من هنا
مؤسسة ندى لحماية الفتيات

‫35 تعليقات

  1. يا مروان ….ذي منعك خلي الناس يفهمون ويحبون مطهر الارياني بسجيتهم العادية ولغتهم الدارجة وبدون فلسفة اركردواجيوفسيايية من حقك الطنفسة والطلاسم غير المفهومة ….

  2. يا قافلة بين امسهول وامجبال
    اللهَ مَعِشْ حامي وحارس
    يا قافلة عاد المراحل طوال
    وعاد وجه الليــــل عابس
    ياقافلة رُصِّي صفوف الرجال
    واستنفري كل الفوارس
    قولي لهم : عاد الخطر ما يزال
    لا تأمنوا شر الدسايس
    هيا شباب اتكاتفوا للنزال
    وانسوا خلافات المجالس
    ما بايكون النصر وقت القتال
    إلا بتوحيد المتارس
    * * *

    هكذا حذرنا المرحوم
    من الرجعية واخواتها

  3. الله يرحم فقيد اليمن مطهر الإرياني ويجعله مع الخالدين في الجنه
    لك التحيه دكتور مروان أظهرت الإرياني بمنشورك هذا كاننا نعرفه اول مره

  4. هو شاعر واديب ومفكر ومؤرخ يمني كبير وفقيد الوطن نعاه الجميع …فلا تتعب نفسك في التصنيف لإن المفكر الحر يستحيل تصنيفه يا غفوري

  5. مطهر الارياني رحمه الله . كان عنوان لعشق اليمن . ابيات شعره الملحنه صداها في كل جبل وساحل وسهل . تزيد صباح اليمن جمالا وبهاء . سنفتقد شاعرنا . ونسأل الله ان يسكنه جنة الخلد.

  6. لماذا لم تدعو للفقيد في هذا البوست أن الله يرحمه دعوة واحدة يا مروان لو كنت فعلا تحب الرجل ….بلاش هذه الحركات الغفورية الاخونجية واستغلال تاريخ رجل وطني لإيصال رسائلكم فقط بينما انتم لا تطيقون أحد ….الله يرحم مطهر الارياني الذي نحبه من قلوبنا

  7. مروان والبهارات الغفوريه لو عرف اغلب الناس ان لك عرق ينبض بحب مطهر الارياني لكرهوه رحمت الله عليك يا اخر تبابعة العصر ولحن غنائها وادبها وثقافة المدن والبوادي .

  8. ذلحين عيال العاصفة اللي يعزوا بوفاة مطهر الارياني، هم عرفوا اليمن في شعره والا قصدهم بس مساهمة عامة؟
    كل ريال سعودي ينفق في الحرب على بلاد مطهر الارياني، يجد بيتا من الشعر يحكي لاصحابه كم هم انذال واغبياء وصغار.
    تعرفوا على اليمن، بعيون مطهر، قبل أن تتجرؤوا في الحديث عنهما.
    نبيل الصوفي

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى