كتّاب

قناة السويس للفلاحين المصريين.. وليست لدليسبس…


قناة السويس للفلاحين المصريين.. وليست لدليسبس
فكرة قناة السويس فكرة قديمة تعود إلى عصر سنوسرت الثالث ( 1878- 1839 ق م ) من الدولة الوسطى الفرعونية، ثم تجددت فكرتها بعد دلك فى زمن الرومان، وبعثها مرة جديدة عمرو بن العاص سنة 640 م، ثم تجددت زمن بونابرت 1798، ثم زمن محمد على 1805، إلى أن بدأ حفرها فعلا مند سنة 1859 ، فى زمن الوالى سعيد بن محمد على ( 1854 – 1863 )، لتفتتح سنة 1869،
كان الاتفاق بين شركة القناة وممثلها ديليسبس يقضى بأن تقدم الإدارة المصرية أربعة أخماس العمال وتقدم الشركة الخمس الباقى، كما تقدم الشركة للعامل المصرى أجرا يتراوح بين قرش ونصف وثلاثة قروش، كما تقدم الشركة للعمال جميعا الرعاية الطبية اللازمة، ولكن الشركة تنكرت لكل وعودها فلم تقدم عمالا واكتفت بتقديم الموظفين الاداريين والفنين والمهندسين الذين يحصلون على أجور باهظة ويعيشون فى مساكن آدمية، وتنكرت الشركة لتعهداتها للمصريين فلم تقدم لهم أجورا ولا رعاية طبية وتركت الفلاحين المصريين يتحملون وحدهم عبء حفر القناة فى ظروف بالغة القسوة، والصعوبة، كانت قوات الأمن تهبط على القرية فجأة وتستقر فى دوار العمدة أو شيخ الغفر وتطلب منه خمسين أو ستين أو سبعين فلاحا تبعا لحجم القرية، وكان العمدة يعد كشوفا باسماء هؤلاء الفلاحين، الذين سيغادرون القرية وربما لا يعودوا إليها أبدا، وكانت هده الكشوف تستبعد بطبيعة الحال أبناء عائلة العمدة واقاربه واصهارة كما تستبعد أبناء الاسر القوية والقادرة وابناء الاثرياء الذين يفتدون ابنائهم برشوة كبيرة للعمدة، وهكدا تحدد أسماء ابناء الفلاحين الفقراء الذين يقبض عليهم الخفر ويقيدون ويخزنوا فى غرفة السلاحليك بدوار العمدة حتى يكتمل عقدهم فيساقوا على هيئة ترحيلة مقيدين بالحبال تتدلى من اعناقهم قلة بها ماء وكيسا به خبز ناشف كمؤنة للطريق الطويلة، ويتقدم الفلاحين المكبلين الى خارج القرية وسط صراخ وعويل نساءهم وبناتهم وامهاتهم، الذين يصاحبونهم مشيا بجوارهم ويسعون لاختلاس فرجة بين الحرس ليضعوا فى افواههم كسرة خبز او جرعة ماء او ليضعوا على وجوههم قبلة قد تكون الاخيرة، حتى يدركهم الحرس فيلهبونهم بالسياط او يدفعونهم بعيدا ركلا باقدامهم، وعندما يتجاوز الركب الحزين حدود القرية ترجع النساء وحدهن ليواصلوا التشبث بالحياة الفقيرة على أمل ان يعود الغائبين
حدثتنى جدتى – حسن عجمى رحمها الله – بأن أبيها كان من بين هؤلاء الفلاحون الذين كتبت اسماءهم فى دفاتر تلك الترحيلة البائسة، ولسبب أو لآخر عرف بالأمر فأسرع – بعد أن اتفق مع امه – بالخروج الى حقل الأسرة حيث شجرة عتيقة وكبيرة وكثيفة الاغصان، اعتلاها ليختبئ بين اغصانها واوراقها بعيد عن اعين الخفراء الذين يبحثون عنه، وكانت أخته الصغيرة تخرج مساءا وتخترق الحقول خفية حاملة اليه بعض كسرات الخبز وقطع الجبن تخبئه بين ملابسها ليقيم اوده، وظل هذا الجد يعيش فوق الشجرة لمدة ثلاثة او اربعة ايام حتى خرجت الترحيلة الحزينة من القرية
وتصل الترحيلة أخيرا الى موقع حفر القناة وقد انهكها التعب والجوع ليتسلم الفلاحون أدواتهم، مقاطف وفؤوس وكواريك وازاميل، ويبدأون فى العمل هذا يحفر بالأزميل وذاك يملأ المقطف، وثالث يرفع المقطف الممتلئ على كتفه ليعتلى الضفة ويلقيه حيث يأمره المشرفون، ولابد أن يعمل هؤلاء المنهكون بحماس وحمية والويل لمن يتهاون او يتباطأ حيث تنتظره سياط المشرفين، وبعد أن يمر أسبوع وتهترئ او تتقطع المقاطف، والعمل لابد ان يستمر والسياط لاترحم من يتوانى عن العمل، هكذا كان لابد للفلاح أن ينحنى شابكا يديه خلف ظهرة ويجعل من التجويف القابع بين كفيه وظهره وعاء لحمل الصخور والحصى والرمل بديلا عن المقطف، ويصعد بحمله الى اعلى حيث يترك راحتيه ويلقى حمله، وكان من الطبيعى مع هذا العناء ان يهترئ جلباب الفلاح – اذا كان يرتدى جلبابا – فيحمل مايحمل من حصى وصخور على جلده العارى الذي سرعان مايهترئ هو الاخر حتى تبرز عظام ضلوعه ويسقط وينهار تحت ثقل الالم والعجز،
وفى ظل الجوع والالم والجراح المثخنة وهى كلها عوامل تقضى على مناعة الجسم كان المرض البسيط يتحول الى وباء فتاك، ولذلك فقد عانى هؤلاء الفلاحون من ضراوة اوبئة السل والكوليرا والدوسنتاريا، فكانوا يسقطوا موتى وفى ظل تسليم الادارة المصرية وانسحاقها امام شركة القناة وما وراءها من احتكارات دولية وفى ظل غياب أى قوة سياسية او نقابية تدافع عن حقوق الفلاحين الفقراء كان هؤلاء المرضى والموبوئين يجمعون فى خيام قذرة حتى يلفظوا انفاسهم بالعشرات حيث يحفر لهم رفاقهم الاحياء حفرا كبيرة تلقى فيها اجسادهم فى جماعات كبيرة بلا غسل ولا كفن ولا صلاة ولا طقوس
أكثر من الف وخمسمائة فلاح مصرى كانوا يموتون كل شهر إذا حسبنا 125 الف نفس على السبع سنوات التى تواصل فيها العمل فى حفر القناة
125 الف فلاح ماتوا اثناء حفر القناة وغابوا فى العدم دون ان نعرف لهم اسماء ولا ابناء ودون ان نعرف اين استقرت رفاتهم
وفى حفلة افتتاح القناة – نوفمبر 1869 – تلمع فى سماء مصر التقاليد الخديوية والامبراطورية وتلعلع اسماء الاوبرا وفيردى والامبراطورة اوجينى والانخاب والانصاب التدكارية والقصور الباذخة
وتتوارى حكايات عشرات الالاف من الفلاحين الفقراء، وتتوارى الآلام والدموع وقسوة الضرب بالسياط وشعور الفقراء بالعجز امام القوة القاهرة والموت فى الغربة بعيدا عن الاهل والوطن، ومرارة الثكل والترمل واليتم التى عانتها أسر هؤلاء الضحايا
هذا هو التاريخ بوجهه الكوميدى ووجهه التراجيدى… يسعد أوقاتكم

يمكنك دعم الموقع من هنا
مؤسسة ندى لحماية الفتيات

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى