كتّاب

“هو صحيح الهوى غلاب؟؟”…


“هو صحيح الهوى غلاب؟؟”
بيرم التونسى فى ذكرى مولده

لم يكن بيرم التونسى تونسيا وإنما كان مصريا صميما فجده هو الذى هاجر إلى مصر زمن محمد على (1805-1848).. وولد بيرم التونسى مارس 1893، ومات أبيه صغيرا ولم يرعه أعمامه بل استولوا على ميراثه القليل، فاضطر للاعتماد على نفسه فى جلب الرزق وقبل أن يصل إلى العشرين من عمره كتب محتجا على ضرائب للبلدية: “يا بائع الفجل بالمليم واحدة.. كم للعيال وكم للمجلس البلدى” فاصبح بهذه القصيدة علما على الزجل الاجتماعى الملتزم بقضايا الفقراء والوطن، وعندما نصب الإنجليز فؤاد سلطانا تحت حمايتهم كتب: “ولما عدمنا بمصر الملوك .. جابوك الإنجليز يا فؤاد قعدوك”.. وتوهج مع ثورة 1919 وسيد درويش العظيم فكتب له: أوبريت “شهرزاد” وفيه: أنا المصرى كريم العنصرين.. وشبب بالملك فؤاد والملكة نازلى، فنفى 1920، خارج البلاد لعيش مشردا بين البلاد:تونس، سوريا، باريس، ليون وغيرها، ويعود إلى مصر وينفى من جديد، ويعود ثانية بعد 18 سنة من النفى والتشريد، ويغض الملك فاروق الطرف عن وجوده بوساطات كبيره: كامل الشناوى، مجمد محمود، أحمد حسنين، فيقتحم بجرأة عالم الفن والغناء، فيكتب الأغانى والأوبريتات، والمسرحيات، والتمثيليات، ويندر أن يوجد فنان لم يكتب له شيئا، المهم عرف أم كلثوم وكتب لها الكثير ومنه: الورد جميل وياصباح الخير وأهل الهوى والأمل والآهات وشمس الأصيل والحب كده .. وغيرها .. ونشأ خلاف ضارى بين أم كلثوم والشيخ زكريا أحمد حول حقوق الملكية الفكرية سنة 1947، استعر حتى 1959، حين قال لهم قاض مثقف وسميع: يا ست أم كلثوم.. ياشيخ زكريا.. قضيتكم ستطول، وقد وحشتنا أعمالكما معا .. حرام عليكم تحرمونا.. فخرجا من عنده ليلتقيا ببيرم الذى يكتب: “هوصحيح الهوى غلاب؟ ماعرفش أنا.. والهجر قالوا مرار وعذاب واليوم بسنة” ويلحنها زكريا .. وتغنيها أم كلثوم أكثر من مرة..
وفى يوم الأربعاء 5 يناير 1961 يموت بيرم التونسى متأثرا بالربو المزمن الذى أصابة جراء العمل فى مصانع الكيماويات أثناء سنوات المنفى الطويل، وكما تقتضى شهامة بنت البلد تسرع أم كلثوم إلى بيت بيرم فى السيدة زينب لتطمئن على الإجراءات، وتعود حزينة إلى بيتها لتكتب إعلانا: “تنعى أم كلثوم إلى المصريين والعرب والعالم .. أخاها ورفيقها ومعلمها.. الفنان العظيم بيرم التونسى .. الذى كتب لها اعذب ماغنت.. وتعلن أم كلثوم عن تأجيل حفلة الغد إلى الخميس الأول من الشهر القادم .. وتعد التذاكر سارية للحفلة القادمة ..و .. ”
وفجأة يدخل أحمد رامى ليهتف بأم كلثوم: قلبى معك يا أم كلثوم .. لم نكن نتصور أن الأمر سيكون بهذه السرعة..
المهم تطلب إليه أم كلثوم أن يقرأ لها الإعلان ويراجعه قبل أن تدفع به إلى الإذاعه.. فيقرأه رامى، ويطويه ويقول: أرجوك يا أم كلثوم.. لا ترسلى بيانك للإذاعة ولا تؤجلى حفلتك، فلقد كان رامى يقتنص الفرحة والسعادة ويخطفهما خطفا مهما كانت الظروف وأستطيع أن أقص عليك من عجائبه فى اقتناص السعادة الكثير .. واقتنعت أم كلثوم بكلام رامى بل وطلبت من الإذاعة التنويه على أن الحفلة قائمة
.. وحتى ذلك التاريخ كانت أم كلثوم تغنى ثلاث “وصلات” أو أغنيات أولهما أغنية الموسم . وثانية تختارها هى من نفس المقام الموسيقى للأولى –كما تقتضى أصول السلطنة والاستماع- وتترك الأخيرة لاختيار الجمهور حيث يدور بينها وبينهم حوار باسم حتى تستقر على الأغنية التى ستغنيها
وفى تلك الليلة الخميس 6 يناير 1961، جاء الناس من سرادق عزاء بيرم إلى سينما قصر النيل .. ووقفت أم كلثوم لتغنى، فغنت وصلتيها الأولى والثانية، وقبل الثالثة راحت تقول: كنت قد أزمعت أن أؤجل حفلتى حزنا على بيرم الذى أتينا من عزاءه ولكننى فكرت أن بيرم لو كان معنا ماوافق على التأجيل ومثل بيرم لايموت وستظل أعماله الخالدة نغم فى فم الأجيال.. وراحت تتحدث عنه وعن صداقتهما الطويلة.. ثم قالت وطبعا ستوافقوننى الرأى إذا قلت لكم أننى فى وصلتى الأخيرة سأغنى لكم آخر ماكتب لى بيرم ولحن زكريا.. فصفق الجمهور طويلا.. وراحت أم كلثوم من خلال دموعها ولوعتها تغنى “هوصحيح الهوى غلاب” وكأنها لم تغن من قبل.. وروح بيرم ترفرف على الحفل .. وكانت ليلة رائعة .. رحم الله بيرم العظيم .. ويسعد أوقاتكم

يمكنك دعم الموقع من هنا
مؤسسة ندى لحماية الفتيات

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى