توعية وتثقيف

السببية (Causality)…


السببية (Causality)

عاش فى المنيا فى أواسط القرن الماضي رجل إسمه ‘سيد الحمار’، وكان الناس يضحكون عليه وراء ظهره، لكن طراطيش الكلام كانت تصل إليه وتضايقه. نصحه ‘قاصد خير’ بأن يغير إسمه، فقدّم طلباً إلى المحكمة يلتمس فيه تغيير إسمه من ‘سيد الحمار’ إلى ‘مسعد الحمار’ … هذه طبعاً واحدة من النكت التى يتندر بها الناس على أهل الصعيد، وإن كانت مبنية على حقيقة شهدتها بنفسى – وهي وجود شخص بهذا الإسم فى المنيا فى الخمسينات.

لكن هدفى هنا ليس التنكيت، (فذلك له ناسه،) بل طرح قضية منطقية هامة وهي “السببية”. ربما أهم عناصر المنطق على الإطلاق هو القدرة على الربط بين السبب والنتيجة، و لا سيما فى الإتجاه العكسي – أي بين ظاهرة ما و سببها. فى المثال الذى ذكرتُه أدرك سيد الحمار أن لديه مشكلة، لكنه لم يفطن إلى سببها الحقيقي (وهو لقبه،) و أرجعها إلى سبب غلط، (وهو إسمه الشخصي.)

الخطأ فى الربط بين الظواهر وأسبابها له تاريخ قديم. العبرانيون القدماء، مثلاً، لاحظوا أن بعض الناس يعانون من خلل عقلي أو نفسي، وهي ظاهرة حقيقية، لكنهم عللوها بأن هؤلاء الناس ركبتهم أرواح نجسة (*)، وهو سبب وهمي.

فى موضوع السببية، (أي الربط بين الأسباب والنتائج،) نستطيع أن نميز بين حالتين –
1. فى الحالة الأولى نعرف الأسباب ونحاول توقع النتائج التى تؤدى إليها تلك الأسباب، وهذا يسمى ‘prognosis’ أي التوقع أو التنبؤ.
2. فى الحالة الثانية نعرف النتيجة (أو الأعراض،) ونحاول إكتشاف الأسباب التى أدت إليها، وهذا يسمى ‘diagnosis’ أو التشخيص.
المصطلحان مشتقان من كلمة ‘gnosis’، وتعنى ‘معرفة’، بإضافة البادئة ‘-pro’ و هي تعنى مسبقا؛ أو ‘-dia’ وتعنى تفكيك أو تحليل. من أمثلة الحالة الأولى التنبؤ بالتغيرات الجوية؛ ومن أمثلة الحالة الثانية تشخيص الأمراض من أعراضها.

الفشل فى الربط بين الظواهر وأسبابها هو خلل منطقي شائع ومتفشى بين الناس منذ الأزل. ذكرتُ مثال الإضطرابات العقلية والنفسية عند العبرانيين القدماء، ( التى ما زلنا نعانى من تبعاتها حتى الآن،) لكن هناك أمثلة أخرى كثيره –
* لاحظ الإغريق أن السماء أحياناً تكفهر وترعد وتقصف الأرض بسهام من البرق، وأرجعوا ذلك إلى وجود إله للرعد سريع الغضب متقلب المزاج (**)، أما الحقيقة فهي أن الرعد والبرق ما هم إلا ظواهر كهربائية أصبحنا نعرف تفسيرها.
* لاحظ الناس إنتشار حمى الملاريا بين الذين يعيشون بالقرب من مستنقعات، وأرجعوها إلى سبب وهمي وهو فساد الهواء فى تلك المناطق، (ومن هنا جاءت التسمية “مال-آريا”). وإستمر ذلك إلى أن إكتشف العلماء السبب الحقيقي، وهو إنتقال ميكروب المرض بواسطة البعوض.
* إعتقد القدماء أن مسار الشمس سببه أن الإله أپوللو يسافر على مركبة نارية من الشرق إلى الغرب كل يوم. و إستمروا فى إعتقادهم ذلك إلى أن إكتشف العلم الحقيقة.
* ويستطيع القارئ أن يضيف إلى القائمة أمثلة أخرى عديدة…

الأمثلة جميعها تشير إلى حقيقة لا شك فيها، وهي أن الفشل فى الربط بين السبب والنتيجة، وإن كان أحيانا يرجع إلى نقص فردي فى القدرة على التفكير المنطقي، (كما فى حالة سيد الحمار،) إلا أنه فى أغلب الحالات مرتبط بالجهل ويزول مع زواله.
_____________________________
*) الأرواح النجسة هي ما يسميه الناس العفاريت أو الجن. وفى زمن كتابة التوراة كانت الأرواح النجسة تلعب دوراً هاماً فى كل شيئ، وكان يرأسهم جني إسمه بعلزبول. ونحن نعرف الآن أن بعلزبول وعفاريته لم يكن لهم وجود أساساً، ناهيك عن كونهم مسؤولين عن أمراضنا العقلية أو غير العقلية.
**) هذا الإله كان كبير الآلهة. عند الإغريقيين كان إسمه ‘زوس (Zeus)’، أما الرومان فسموه ‘چوبيتر (Jupiter)’.

يمكنك دعم الموقع من هنا
مؤسسة ندى لحماية الفتيات

‫6 تعليقات

  1. الفلسفة مبسطة .. كلام جميل ولكن في اعتقادي زوال الجهل لا يجلب التفكير المنطقي .. التفكير المنطقي يتوقف علي نوعية التعليم ومقدرة الانسان الفسيولوجية والنفسية علي تقبل التفكير المنطقي

  2. اغرب ماسمعت عنه ان في التليفزيون المصري برنامج يربط بين التعاسه في الحياه الزوجيه والعامه والعمل والصحه بقوه سلبيه في المنزل
    والاسباب كما تقول المذيعه متعدده لهذه القوه السلبيه
    منها ان تكون دورات المياه شرق او غرب المنزل
    طبعا حتي في التليفزيون الامريكي هناك برامج تشجع الروحانيات وبرامج تبرهن ان ممكن فقدان خمسين رطل من وزن الجسم في عشرين يوم وهو علميا وحسابيا مستحيل
    لكن برامج نشر الجهل للشعب اخطر من المخدرات

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى