منظمات حقوقية

ريمة بوست | الجبين ريمة(1975/1976) "الحطاب" و نشيج الأحزان

ريمة بوست

الجبين ريمة(1975/1976) "الحطاب" و نشيج الأحزان

????طاهر سيف عبدالحق
مُهندس طيران متقاعد(مدرس سابقا في خدمة التدريس الإلزامية بريمة)

هكذا بقى الماضي حاضرا بتفاصيله في جبل ريمة، تحكمه قوانين خاصة، وبقى الحطاب في مهنته يذهب يوميا إلى الجبال الوعرة يأتي بالحطب ويبيعه في سوق الجبين ويكسب قوت يومه.
وبقى أولاد المقهوي يتوارثون المهنة، وعائلات تمتهن القضاء وعائلات أخرى هم الفقهاء مدرسون في الكتاتيب ويعلمون منهج الفقه والشريعة،

وظل جبل ريمة بعيدا عن التعليم الذي حدث في مناطق أخرى من اليمن. فقد تحول المقهوي بفضل التعليم إلى قاضي، وتحول من أسرة القضاء بفضل التعليم إلى دكتور يمارس الطب، وتحول سليل عائلة المشائخ إلى رجل اقتصاد وسياسة.

وحدث تغير في ديموغرافية الجبل زاد عدد السكان فيما تضاءلت فرص الكسب والمعيشة
وقلت مساحة الأرض الزراعية في الجبل والتي يتم تقسيمها بصفة دورية لعدد المواريث.
و مع زيادة عدد المواليد لم يعد المحصول الزراعي يكفي لأسر الفلاحين.

وكانت الهجرة بابا مفتوحا من جبل ريمة، وغادر الكثيرون يهاجرون ويسافرون ويهبطون إلى الأودية ويتركون خلفهم الجبال ويتجهون نحو سهل تهامة ثم يتفرقون في شتات مجاهل الأسفار .

هكذا كان يودع المهاجر الجبل بألم وحزن، يودع ماضي حياته، وأحلام أيامه الجميله،
ويغادر موطنه الذي نشأ فيه حبه الأول. و يودع بيئته وحيث ترعرع في صباه حين كان يعشق ليالي القمر و ليالي العيد.
لقد كان المسافر المهاجر من جبل ريمة يلقي نظرة وداع مؤلمة على الوطن الذي سكن قلبه ومهجته.

وكان المغادرون نحو الهجرات البعيدة يعلمون أنهم لن يروا الشروق الدائم من أعلى القمم الجبلية، وسيعود وقع المطر شديدا إلى تلك الأرض الجبلية الجميلة وهم في شتات بلاد الاغتراب ولكن يحدوهم الأمل بالعودة.

لقد كانوا يهاجرون مجبرين، فالريمي بطبيعته يريد أن يكسب ويتحرر من الفقر، وغدا سيعود إلى الوطن مرفوع الرأس وقد حافظ على كبريائه، فهو لا يستسلم للإذلال، وفي هجرته حياة متجددة أخرى مفعمة بعشق الوطن.

وتمرد رفاق "مهدي" الحطاب، رفضوا مهنة المخاطر وحمل الحطب، وسافروا إلى مكة المكرمة، وبقى "مهدي" يسلك الأغوار الجبلية التي عشق عزلتها وهدوءها الأبدي.
وكان يعود بالحطب، وأصبح الحطاب الوحيد في سوق الجبين، الذي يوفر الأحطاب من بيئة الجبال المحيطة، وبدا راضيا عن حياته واستمر يستقر في مهنته .

وذات صباح خيم الضباب على الجبين وعلى منطقة "المنصح" و"مدرسة الفتح" ورافق الغيم قطرات من المطر، رشاش منهمر يبلل الأرض، واحتجبت الشمس طوال النهار.

وكان جرس المدرسة يقرع بين الفينة والاخرى ويرن الصوت و نحن المدرسين ننتقل بسلاسة بين الفصول نشرح ونناقش التلاميذ ونشعر بالدفء من الحماس الذي يبديه معظم الطلبة بتفاعلهم مع المعلم.

وفي نهاية اليوم الدراسي كان الأستاذ "علي محسن المكواس" يبادر بسرعة يدق الجرس بشدة
والتلاميذ في غاية من السعادة يخرجون وينطلقون وهم يقولون فيدوس.

وساد الهدوء بعد انصراف الطلبة، وحمل إلينا الغداء عامل المقهى كالعادة كان يأتي به من الجبين ويتعشم كل تلك المسافة يخدم المدرسين وسط الأجواء الضبابية الماطرة. وصنع لنا الأستاذ "محمد أحمد عبدالجبار" الشاي ومال الجميع للقيلولة والراحة.

وكنت أعشق الضباب وهثيم المطر، وتجولت حول المدرسة وأنا أحمل المظلة الواقية وحين سمعت الصراخ ونشيج الآلام والبكاء تقلصت بطوني وشعرت أن هناك كارثة في إحدى القرى الواقعة بجانب المدرسة ولم أعد أتذكر أن كانت هي السربة أم هي الرباط.

وشاهدت بعض الرجال يغادرون القرية وعدد من النساء يلتحقن بهم، ثم خرج كثيرون واتجهوا نحو طريق الجبال.
وقابلت إمرأة كانت تملأ أوعية الماء من عين غدير "المنصح" وقالت لي لقد سقط مهدي الحطاب في الجبل وجسده معلق في منحدر خطير، وقلت لها ربما لايزال على قيد الحياة،
ونظرت نحوي بعين الريبة، قائلة لقد توفى يا أستاذ ، ونعى راعي الغنم الخبر المشؤوم للقرية قبل قليل وقد رآه حين سقط وتوفى.

واتجهت نحو الجموع التي كانت تغادر القرية ذهبت أشارك واستطلع الأمر ورافقت "الحاج معبش" وهو رعوي من رباط حمير كان جارا للمدرسة يستضيفنا إلى بيته في معظم أيام الجمع نتناول نحن المدرسين الطعام معه.

ووضح لي "الحاج معبش" بأن الحطاب انزلقت رجله وتدحرج يهوي وارتطم رأسه يصطدم بالصخور والأحجار حتى علق بين تشابك الأشجار والأغصان والأشواك ومن السهل أن نحمل الرجل من ذلك المكان، والذي بقى في مكانه و لم ينزلق في الهوة السحيقة والمخيفة.

كان "الحاج معبش" رجل قوي الجسم أحمر البشرة معتدل القامة، يتصرف ويتحدث بهدوء ونكاد نراه كل يوم فهو يعمل بصفة دائمة في الأرض من أملاكه حول المدرسة،
ووصلت معه إلى بداية الطريق المتدرج نحو اعماق الوادي واستمريت أرافق "معبش" حتى ثغر الجبل،
ورأيت من يحمل مهدي الحطاب فوق ظهره والناس من خلفه وحوله يساعدون في رفعة وكان الحادث من الذكريات المؤلمة في الجبين التي لا تنسى في ذلك العام الدراسي 1975-1976.

ووقف إلى جانبي في ثغر الجبل كثيرون كانوا ينتظرون رفع الجثة من الطريق الوعر وحتى الإتساع الآمن حيث كنا نجلس، وبادرت مجموعة أخرى تحمل المتوفي حتى صرنا في الأرض المستوية نحو المدرسة ونحو قرية الرباط.

ثم وضعت الجثة فوق الجنازة وغطيت تماما واتجه الموكب يحمل الحطاب إلى بيته.
وخرجت القرية تلقي نظرة الوداع. وحدقت في الوجوه المتجهمة كان الفزع سيد الموقف لهول ماحدث. وتحول بكاء "أم مهدي الحطاب" وزوجته واقاربه إلى أصوات جماعية متشحرجة ومخنوقة،
وانطلقت تنهيدة ثقيلة تتحطم لها الصدور من قلب الأم المكلوم "أم" الحطاب وعندها تحول البكاء إلى نحيب ونشيج من الأحزان لاينتهي.

واسرع فقيه القرية بغسل الجثة ثم طوى الكفن وعاد الموكب الحزين يحمل الحطاب إلى المسجد المجاور وبعد الصلاة عل الميت كنا نشيع مهدي الحطاب في موكب جنائزي مهيب إلى مثواه الأخير وغادرنا مقبرة الموتى عندما عاد الضباب الداكن يغطي كل مكان.

وقفيت عائدا نحو مدرسة الفتح وأدركني الليل وأنا فوق الرابية المرتفعة بجوار المدرسة وسمعت نحيب وبكاء ونشيج متواصل يمزق القلوب لقد كانت الأصوات مؤلمة تأتي من خلف جدر الضباب ومن خلف ستار العتمة، وطوى الموت حياة الحطاب وترك أسرته تعيش المأساة والفقد الدائم لأهم مصادر المعيشة الذي كان يوفره مهدي الحطاب.

#ذكرى_في_ريمة


اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى