كتّاب

فى بيت أبو القسيس:…


فى بيت أبو القسيس:
فى سنة 1970، وكنا فى بنى سويف وكنت فى الصف الأول الثانوى، وجمعتنى تختة الدراسة مع زميلي مجدى جمال ميلاد، فأحببته منذ أول يوم فهو لطيف وابن نكتة ومبتسم وساخر وجدع وعبقرى فى اللغة الإنجليزية، كنا نجلس معا فى التختة الأخيرة فى الصف فهى تتيح لنا قدرا كبيرا من الحرية والعبث والبعد نوعا من التفتيش المفاجئ على كراساتنا، المهم أن صديقى عرف إننى من المنوفية وأقيم مع أسرتى، وعرفت أنا أنه من قرية تسمى الشنطور تتبع مركز سمسطا ويقيم فى غرفة بحمام مع قريب له إذ يصعب عليه السفر يوميا من الشنطور لبنى سويف، ودعانى مجدى للمذاكرة معه فى غرفته فرحبت بطبيعة الحال فهناك سأكون بعيدا عن صرامة أبى ومراقبة أخى الأكبر، ولم نكن نذاكر طبعا إلا نادرا.. فكنا نقضى الوقت فى اللعب والمصارعة ومطاردة الكلاب وتحيئ العشاء.. ومع امتحان نهاية العام طلبت أمى أن يأت مجدى ليقيم معنا لتراعينا حتى نتفرغ للمراجعة، وتطمئن على استيقاظنا مبكرا حتى لا نتأخر على الامتحان ومرت أيام الامتحان على خير
وفى آخر يوم للامتحان جاءنا عم ميلاد أبو صديقى، رجلا مهذبا مهندما محترما، يعمل رئيسا لبنك التسليف الزراعى بالقرية، مصمما على اصطحابى لأقضى فى بيته فى الشنطور مع مجدى وأسرته أول أسبوعين من الأجازة، ورحب أبى وذهبت معه ومع مجدى إلى بيته.
بيت ريفى جميل فسيح يضم كل مايشجعنا على اللعب والشقاوة، فناء كبير يضم طلمبة ماء وتظلله شجرة “دقن الباشا” الهائلة برائحتها الذكية، وفرن بلدى، ودكك خشبية، وغرفة مقعد فوق السطح، وأكوام من القش والحطب، وزلعتان تاريخيتان للجبنة والمش، وعشش كثيرة لدواجن متنوعة، ونستمتع فى الإفطار بذلك الطبق المعروف فى الصعيد ولا يعرفه أهل الدلتا، البيض المسلوق يهرس فى طبق من السمن البلدى السايح ثم يوضع عليه الجبن القريش ويؤكل بالعيش الشمسى،
.. وبعد مشوار قصير نصل للغيط والترعة فنصطاد السمك، وننزع كيزان الذرة الخضراء، قبل أن تدكن حباتها، فنأكلها نيئة ونستمتع بمذاق حليبها الشهى، ونقذف بعضنا بقوالحها الخضراء، ونبحث بين العيدان عن ثمار الخيار والطماطم وغيرها، ونتسلق أشجار التوت، ثم نخلع ملا بسنا كلها لنسبح فى الترعة.
وفى المساء يأت أقارب عم ميلاد وزوجته، ليتعرفوا على ذلك الفتى الضيف المنوفى. رجال ونساء وأولادهم بنات وصبيان بملابس تظيفة لنتسامر ونغنى، ثم يأت قسيس ليصلى بهم وأنا معهم أصلي كما يصلوا، غير أننى لم اكن أستطيع أن أردد إلا دعاء، “كيرياليسون كيرياليسون .. يارب إرحمنا” فقد كانت الصلوات صعبة علي وخاصة إذا تخللتها كلمات قبطية لم أعتدها
المهم، أنه كان لمجدى شقيق أصغر منه اسمه “سامى” فى سنة تانية إعدادى تقريبا، وفى الريف ينظر الأخ الكبير إلى أخوته الأصغر منه باعتبارهم “خدامين” له ومن حقه تشغيلهم وضربهم: إنزل هات عيش .. هات قلة مية.. قول لأمك تعمل شاى .. روح هاتلنا بقرشين صاغ طعمية، وكان سامى هذا متمردا وعنيدا وشقى، ففجأة أجد مجدى ينهال على سامى صفعا وركلا وزغدا، لأى سبب، ولأننى صديق مجدى وضيفه، وإكرام الضيف واجب، فيبدوا أننى قد وجدت أن من حقى أن اتمتع بكل ما يتمتع به صديقى من حقوق، فكثيرا ما كنت أطلب من “سامى” طلبات وبعضها غير معقول لمجرد أن أنهال عليه صفعا وركلا وتلطيشا كصديقى تماما.
وراحت الأيام وجاءت، وتفرقت بنا الأسباب، وباعدت بيننا السبل، وتركت بنى سويف وجئت إلى القاهرة لأكمل تعليمى وأشتغل وأتزوج، وساعدت وسائل التواصل الحديثة ليهتدى إلى صديقى مجدى ويدعونى إلى زيارته فى الشنطور، لحضور فرح قريبة لهم،
فأذهب لأفاجئ بأن سامى الصغير المتمرد الشقى، قد أصبح “الأب ميخائيل” قسيسا وقورا مهيبا ستينيا، يظلل الشيب لحيته الهائلة.. ويقبل الناس يده لينالوا البركة، وبطبيعة الحال أسلم انا علي أبونا محترما وموقرا
وعندما أخلو به اضحك وأقول له: فاكر يا سامى لما كنت باضربك وانت صغير، فيبتسم إبتسامة شديدة الصفاء..ويقول: ياريتنا كنا فضلنا صغيرين يادكتور ..
كل سنة ومجدى والأب ميخائيل وكل أهلنا شركاء الوطن بألف خير ومحبة
يسعد أوقاتكم

يمكنك دعم الموقع من هنا
مؤسسة ندى لحماية الفتيات

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى