توعية وتثقيف

جولة فى تاريخ البشرية (١٤)…


جولة فى تاريخ البشرية (١٤)

عندما تأخذ جولة فى مدينة ما، لا يكون هدفك أن تقوم بمسح شامل لها أو إحصاء دقيق لمبانيها وسكانها. بل أنت تستكشف نصباً هنا ومتحفاً هناك، ويسترعى إنتباهك بعض الناس ولا تلاحظ البعض الآخر. وفى أفضل الأحوال ستكوْن إنطباعاً عن تلك المدينة يعكس طبيعتها وطابعها. هكذا جولتنا فى تاريخ البشرية – ننتقى فيها بعض الأحداث دون غيرها لنستخلص منها سمات عامة ودروس مفيده، ولا نرمى إلى تقديم سرد كامل متكامل للموضوع، فتلك وظيفة الكتب التعليميه (textbooks). تحدثنا فى الحلقات السابقة عن تطور البشرية من منظور إقتصادي (١) وتكنولوجي (٢) ثم إجتماعي (٣) ثم لغوى (٤-٥). بعد ذلك تطرقنا إلى الحديث عن تطور الديانات (٦-٨) والفنون والأدب (٩-١٣). وفى هذه الحلقة نبدأ الحديث عن تطور العلم والمعرفه.

فى عصر التجوال وجمع الثمار كان العلم يتجسد فى الشامان، فقد كان الناس يعتقدون أن الكون تُسَيّره كائنات ميتافيزيقية (عفاريت وجنيات)، والشامان كان هو “العالِم” بأمور تلك الكائنات وطُرُق الإتصال بها وإسترضائها. وفى عصر الزراعة والرعي ظهرت الديانات المنظمة، وإستُبدلت العفاريت بآلهة، وحل الكاهن محل الشامان. وإبتكر مؤسسو تلك الديانات طقوساً وتعاليم لا يستطيع الإنسان العادى فهمها. (راجع سفر ‘لاويين’ على سبيل المثال.) فصار الكاهن يحتاج إلى فترة دراسة يحفظ خلالها تلك النصوص وتفسيرها، ويكتسب بعد ذلك لقب ‘عالِم’ لأنه يعلم ما لا نعلمه أنت وأنا (*).

مع ظهور تكنولوجيات البناء وصناعة السفن والتحنيط وغيرها، نشأت معارف مهنية لازمة لممارسة تلك الأعمال. وكانت تلك المعارف هي البذور التى نبتت منها شجرة العلوم الدنيويه. عثرنا فى الآثار المصرية القديمة، مثلاً، على إرهاصات لعلوم الهندسة (geometry) والحساب والفلك والكيمياء. والراجح أن ما كان لديهم كان أعظم بكثير مما عثرنا عليه، وإلا لما إستطاعوا أن ينجزوا ما أنجزوه (**). لكن المفهوم المعاصر للعلم لم يتشكل إلا فى العصر الإغريقي، عندما بلور الفلاسفة اليونانيون مفاهيم البرهان والتجربة والإستنباط، وهي أُسس المنهج العلمي كما نعرفه اليوم. كلنا نعرف نظريات إقليدس (Euclid) وفيثاغورث (Pythagoras) وأرشميدس (Archimedes)، وهي تمارين ذهنية أساسها التجربة والمنطق والبرهان، ولاتحتاج إلى عفاريت ولا جنيات ولا إرادة سماويه.

جاءت الديانات الإبراهيمية بكتب “أُنزِلت من السماء”، وإحتوت تلك الكتب على “كل ما يلزم معرفته”. وجنح الأصوليون إلى التأكيد على أن العكس أيضاً صحيح، بمعنى أن ما لم يجيئ فى تلك الكتب هو بالضرورة ضرر لا لزوم له. على أساس هذا الإعتقاد أفتى رجال الدين أن مهمة العلم تنحصر فى تفسير النصوص لإستكشاف الإرادة الإلهية. أطلق المؤرخون على ذلك الزمان (بإستحقاق) “عصور الظلام”، وسادت الظلمات فى أوربا نحو ١٠٠٠ سنة ولم تنقشع حتى عصر النهضه وظهور كوبرنيكوس (Copernicus) وجوردانو برونو (Giordano Bruno) فى القرن ١٥ ثم جاليليو فى القرن ١٦.

أما فى العالم العربي فهي لم تنقشع بعد، لكن كانت هناك فترة إنفتاح تركت أثاراً هامة فى تاريخ العالم، وأصبحت تسمى “العصر الذهبى للإسلام”. بدأت تلك الفترة بولاية الخليفة العباسي المأمون وتألقت فى الأندلس فى عهد عبد الرحمن الثالث. نتيجة للإمتداد الإسلامي المذهل فى سرعته ومداه تراكمت ثروات هائلة فى مراكز مثل بغداد وقرطبه. وسادت لغة واحدة مشتركة فى جزء كبير من العالم يمتد من الهند إلى أسبانيا. شكلت تلك العوامل تربة خصبة لنمو العلوم الدنيوية إلى جانب علوم الدين. وإتخذ ذلك مسارين، أولهما كان التنقيب عن الإنجازات الإغريقية فى الفلسفة والعلوم وترجمتها وتنقيحها؛ والثانى كان الربط بين الإنجازات العلمية المتناثرة فى مختلف أنحاء الإمبراطورية الإسلامية. على سبيل المثال – كان الهنود قد إبتكروا النظام العشرى (decimal) لكتابة الأعداد، وكذلك مفهوم الصفر اللازم لتشغيل تلك المنظومة (***). أخذ العلماء الفرس هذا الإبتكار، ثم تطوروا من ذلك إلى المعادلات الرياضية. وبفضل اللغة المشتركة إنتشرت تلك الإنجازات فى سائر أنحاء الإمبراطورية الإسلامية (*4).

تألقت فى العصر الذهبى أسماء نعرفها جيداً مثل الخوارزمى الذى أسس علم الجبر، وأطلق علماء الرياضيات إسمه على التسلسل المنطقي للعمليات الرياضية (algorithm)، وإبن سينا الذى برع فى الطب والفلسفة، وإبن الهيثم الذى أرسى مبادئ علم البصريات، وإبن خلدون الذى أسس علم الإجتماع وعلم التاريخ الحديث، وإبن رشد الذى أضاف إلى الفلسفة وعلق على أعمال أرسطو وأفلاطون (*5). عنما بدأت الظلمات تنقشع عن أوربا برزت قيمة أولئك العلماء العرب والمستعربين. فقد أصبحوا حلقة الوصل بين العصر الكلاسيكى (الإغريقى الرومانى) وعصر النهضة. وإنبرى مترجمون من اليهود والأسبان إلى ترجمة أعمالهم إلى اللاتينية، وأعطوا بذلك نافذة للعلماء الأوربيين لينظروا منها إلى تراث أجدادهم، وفى أحيان أخرى يستوعبون إنجازات العلماء المسلمين أنفسهم. (*6)

وضع حدثان كونيان نهاية للعصر الذهبي – أولهما تدمير بغداد على أيدى جحافل المغول والثانى هو خروج أسبانيا من المحور العربى-الإسلامى وعودتها إلى أوربا. إنتكس العلم فى المشرق، وزادت وطأة النكسة فى العصر العثمانى الذى كان يناهض العلم والتقدم (*7). جاء بعد ذلك إكتشاف وإستيطان الأمريكتين ، وإستعمار أفريقيا وأجزاء شاسعة من آسيا، وتراكم ثروات هائلة فى أوربا ساهمت فى قيام نهضة صناعية عظيمة كان للعلم دور أساسي فيها.

تطور العلوم موضوع طويل ومتشعب مازلنا فى بدايته، وسنحاول إلتقاط خيوطه فى الحلقة القادمه.
____________________________
*) من حسن حظ الكهنة أن الآلهة كانت دائماً تملى إرادتها وتعاليمها بلغة غامضة تحتاج إلى تفسير.
**) الحضارة المصرية القديمة بلا شك مدعاة للفخر. لكنهم كانوا بشراً يخطئون. على سبيل المثال – كان أطباؤهم يعالجون المرضى بروث البهائم ودم السحالى وما شابه ذلك، وهي وصفات لا تنفع، وأضرارها كثيره.
***) عندما تكتب عدداً مثل ٢٠٢١، فأنت تقول إنه يحتوى على ٢ من الآلاف، ولاشيئ (صفر) من المئات، و ٢ من العشرات، و ١ من الآحاد. بدون فكرة الصفر لا تعمل هذه المنظومه. قبل ذلك كانت تستعمل الأعداد الرومانية، حيث كان يُرمز للآحاد وللعشرات وللمئات …إلخ بحروف مختلفه. على سبيل المثال – العدد ٤٧٣٨ كان يُكتب هكذا: MMMMDCCXXXVIII . ولم تُسَهّل المنظومة العربية كتابة الأعداد فحسب، بل سهّلت أيضاً عمليات الجمع والطرح والضرب والقسمة.
*4) قد تبدو هذه الإنجازات بسيطة من المنظور المعاصر، لكنها كانت هائلة فى تأثيرها على تطور العلوم عموماً.
*5) كان حجم المعرفة البشرية فى مجملها لا يزال محدوداً وفى مقدور شخص واحد إستيعابه. لذا كان كل من هذه العقول الفذة من النوع الذى نسميه پوليماث (polymath)، أي متعدد المعارف. فكان إبن سينا، مثلاً، عالماً فى الفلسفة والطب والرياضيات والكيمياء والدين.
*6) أعطى الأوربيون للعلماء المسلمين أسماء يسهل عليهم نطقها: ‘الخوارزمى’ أصبح Algorithmi، و’إبن الهيثم’ Alhazen، و’إبن سينا’ Avicenna، و’إبن رشد’ Averroes، وهكذا.
*7) رفض العثمانيون دخول الطباعة إلى إمبراطوريتهم لمدة ٣ قرون.

يمكنك دعم الموقع من هنا
مؤسسة ندى لحماية الفتيات

Farid Matta فريد متا

كاتب ادبي

‫4 تعليقات

  1. ٣ قرون تدور المطبعه في أوروبا لتنتج المعرفة و العلم و التقدم والاستنارة ونحن في العالم العربي والإسلامي محرومون من هذه النهضة لأن القدر كتب علينا أن نكون تحت حكم عثماني رجعي متخلف!

  2. كلام حلو كالعادة، وللأسف لم يسجل (كتابة) الكهنة أهل العلم من المصريين القدماء علمهم وإنجازاتهم ، حفاظا على وضعهم المتميز كان الكاهن يعلم تلميذه المختار في السر.

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى