كتّاب

“هو صحيح الهوى غلاب”…


“هو صحيح الهوى غلاب”
تغريدة البجع لبيرم وأم كلثوم وزكريا أحمد
ولد بيرم التونسى بحى السيالة فى الأسكندرية “23 مارس 1893” لأب يمتلك محلا للبقالة، أدخله الكتاب وسرعان ما مات وبيرم فى الثانية عشرة من عمره، فتقلب بين عدد من المهن، فشل فيها كلها، غير أنه إلى جانب إجادته القراءة والكتابة شغف حبا بقراءة الأساطير والملاحم المصرية والعربية وامتلك قدرة هائلة على كتابة الزجل، وعندما فرض المجلس البلدى للاسكندرية على الناس ضرائب باهظة، كتب بيرم قصيدته “المجلس البلدى” التى ذاع صيتها وترجمت للغات الجاليات الأجنبية فى الأسكندرية كلها، جعلت بيرم يمتهن كتابة قصائد الزجل وإصدار المجلات الزجلية كالمسلة، وامتلك بيرم حسا وطنيا متوهجا دفعه للنقد اللاذع للمجتمع وظواهره، ونال الملك فؤاد الذى رآه المصريون ملكا غير شرعيا نصيب وافر من نقد بيرم اللاذع، والتقى بيرم بلدياته سيد درويش فى ظل توهج ثورة 1919 ليكتب له مسرحية شهرزاد وفيها أغنية: ” أنا المصرى كريم العنصرين/بنيت المجد بين الاهرمين” و “أحسن جيوش فى الأمم جيوشنا” كما يلتقى بسيد اللحن الشيخ الشاب زكريا أحمد، غير أنه فى سنة 1920 شبب بيرم بالملكة نازلى وزيجتها من أحمد فؤاد فنفاة خارج البلاد، وبين تونس وسوريا وفرنسا وغيرها، عانى بيرم من التشرد والضياع والبطالة والجوع، ومع هذا فلم تمنع الظروف بيرم وهو فى باريس من أن يرسل أزجاله لتنشر فى مصر بأسماء مستعارة، أو يلتقى بعض الساسة فيوسطهم لالتماس العفو عنه بعد أن يكتب لهم الرجاوات والشفاعات لجمع شمله بأولاده الذين تركهم فى مصر صغارا، ويرسل 1930م رائعته “ليه يا بنفسج بتبهج وانت زهر حزين” ليغنيها صالح عبد الحى من تلحين الواعد رياض السنباطى ويرسل من باريس لزكريا احمد “حتجن ياريت يا اخوانا مرحتش لندن ولا باريس” فيلحنها ويغنيها، كما تغنى له بديعة مصابنى ومنيرة المهدية.
أما الشيخ زكريا احمد فقد ولد 6 يناير 1896 لوالد قارئ للقرآن ومنشد للتواشيح، التحق بالكتاب وحفظ القرآن الكريم ثم التحق بالأزهر لدراسة العلوم الشرعية والعربية وبرع فيها فغلب عليه لقب “الشيخ زكريا” غير أن الموسيقى والغناء قد شغفه حبا، فتعلم العزف على العود عند كبار الحفظة والمعلمين وقتها “الشيخ درويش الحريرى، وعبد الرحيم المسلوب، والتحق ببطانة الشبخ على محمود مغنيا ومنشدا وبدأ التلحين سنة 1919، وفى هذا العام تعرف على بيرم التونسي وارتبطت روحيها برباط وثيق وفى نفس العام التقى زكريا بأم كلثوم فى طماى الزهايرة وشجعها على الرحيل للقاهرة التى تنتظر صوتها الفريد
المهم –لا أريد أن أطيل عليكم- ثقلت على بيرم الغربة عن التراب والأهل والناس الذين أحبهم، فنزل سنة 1938 خلسة من المركب التى رست فى بور سعيد متواريا خلف شعره الأشقر وعينه الزرقاء، وراح يتخفى فى بيوت من يثق فيهم من أصدقاءه ومنهم زكريا احمد بالطبع، وبوساطات وشفاعات من مثقفين نبلاء أصدر النقراشى العظيم وزير الداخلية أمره بتجاهل وجود بيرم وكان معجبا به
ولم تكد تمر شهور حتى طلبت أم كلثوم من زكريا أن تتعرف على بيرم الذى أقام الدنيا وشغل الناس، وفرض وجوده على الإذاعة والمسرح رغم نفيه الإجباري، وفى خلال شهور كانت أول الأغانى التى جمعت ثلاثتهم “بيرم وزكريا وأم كلثوم” أغنية “أنا وأنت” ثم “كل الأحبة اتنين” ونجحت الأغنيتين فشجعتهم على عمل أول الأغانى الطويلة التى يزيد وقت غنائها مع التطريب والتلييل عن ساعة أغنية “أنا فى انتظارك خليت ناري فى ضلوعى وحطيت ايدى على خدى”، وأدركت الرائعة أم كلثوم أن بيرم وزكريا روح واحدة فى جسدين، فكان مايكتبه بيرم يلحنه زكريا بلا تفكير، وراحت الروائع تتوالى: الآهات، حبيبي يسعد أوقاته، الأولة فى الغرام، أهل الهوى ياليل، الأمل لولاه عليا، حلم.. ومعظم أغانى فيلمي سلامة وفاطمة 1947 وبعدها اشتركت مصر فى جمعية حقوق الأداء العلنى للغناء التى تقرر للفنانين حقا ماديا عما يذاع من أعمالهم، وهكذا أصبح لأم كلثوم حقا سنويا مقررا عن جميع مايذاع من أغانيها كل عام، وهنا راح زكريا أحمد لأم كلثوم ليسألها أليس لي حقا مقررا فيما لحنته لك من أغانى، فرفضت أم كلثوم وقالت له طالما تعاقدنا على قيمة اللحن ودفعت لك ما اتفقنا عليه، تكون صلتك باللحن قد انتهت، فرفض زكريا وقرر أن يرفع الأمر إلى القضاء، وقد قرأت بنفسي الإنذار على يد محضر الذى وجهه زكريا لام كلثوم، وفيه يقول زكريا: أن دواوين الشعر والزجل تملأ المكتبات والأرصفة لا يسمع بها أحد حتى يقوم الملحن بتلحينها فتذاع وتعرف وتشتهر، وحاول زكريا إقناع بيرم بالتضامن معه فى القضية، ولكن أم كلثوم رجته ألا يفعل، وراحت القضية تسعى بين أروقة المحاكم، وطلب المشورة والرأى من باريس، عام وعام وأعوام ، ولما كتب لها بيرم أغانى الحب كده وشمس الأصيل عهدت بها للسنباطى
وفى يناير 1960، وبعد نحو ثلاثة عشر سنة فى المحاكم وفى إحدى الجلسات التى حضرتها أم كلثوم وزكريا، ناداهم القاضى “السميع” ليقفا أمامه ويقول لها: أما آن الأوان لهذه الخصومة أن تنتهى وقد وحشتنى ووحش الناس روائعكم التى عشقناها، فترقرقت الدموع فى عينيهما وتبادلا أمام القاضى العظيم عبارت العتاب والمجاملة وتصافيا، وانطلقا من المحكمة إلى فيلا أم كلثوم وأرسلا فى طلب ثالثهما بيرم التونسي، ولم تكد تمر أسابيع حتى أعلنت الصحف عن أن أم كلثوم ستغنى فى حفلتها القادمة رائعة عودة الثلاثى العظيم أم كلثوم وبيرم وزكريا، أغنية “هو صحيح الهوى غلاب.. ما اعرفش أنا” وغنتها أم كلثوم فى موسم 1960.. ومرت بعدها شهور لتفاجأ أم كلثوم فى عصر يوم الأربعاء 4 يناير 1961، وقد وضعت اللمسات النهائية لحفلتها غدا الخميس فى سينما قصر النيل، بخبر وفاة بيرم بعد مرض قصير، وكأى بنت بلد “جدعة” أسرعت إلى بيته فى السيدة زينب لتلقى على رفيق الجهد والفن نظرة الوداع وتسأل أولاده عما إذا كانوا فى حاجة إلى أى شئ، وعادت لتكتب إعلانا بتأجيل حفلة الغد، فدخل عليها رامى ليعزيها، ويعبر لها عن حزنة على موت بيرم المفاجئ، فأعطته إعلان تأجيل الحفلة ليراجعه قبل أن ترسل به إلى الإذاعة، فقرأ: “تنعى أم كلثوم بيرم العظيم وتعلن عن تأجيل حفلتها ومن يريد استرداد قيمة تذكرته فليستردها من نفس الشباك”.. قرأ رامى الإعلان وقال لها: يا أم كلثوم لا تؤجلى الحفلة لأن بيرم نفسه كان لطول معاناته ونفيه لا يؤجل لحظات السعادة التى تسنح له، وأن أعظم تكريم لبيرم أن تغنى من كلماته، واقتنعت الست بكلام رامى
وفى مساء الليلة التالية رجعت أم كلثوم من عزاء بيرم لترتدى ملابس الحفلة ويعود الناس ومحبى بيرم من عزاءه للمسرح وتغنى أم كلثوم وصلتيها الأولى والثانية – كانت حتى ذلك الوقت تغنى ثلاث وصلات- تختار هى الأولى والثانية من نفس المقام كما تقتضى طقوس السلطنة، وتترك للجمهور اختيار الوصلة الثالثة والأخيرة بعد حوار ضاحك مع الجمهور، غنت أم كلثوم وصلتيها وفى الوصلة الثالثة وقفت لتخاطب الجمهور: كنت أسألكم فى وصلتى الثالثة عما تحبون سماعه من أغنياتى، أما وقد عدت منذ قليل من عزاء بيرم ككثير منكم فإنكم بلا شك ستحبون أن أغنى لكم واحدة من روائعه، فصفق الناس، وراحت أم كلثوم تتحدث عن صديقها العظيم وكيف تعلقت بشعره وهى بعد فتاة صغيرة وراحت تتابع مأساته ونفية وتعجب بأعماله التى تغنى بها كثير من مطربينا حتى عاد من المنفى والتقيا، وكتب لها كذا .. وكذا .. وتتحدث عن كثير من مواقفهما معا وقيمته المتفردة وأسلوبه شديد الثراء والبساطة والعذوبة.. سأغنى لكم آخر ما كتبه لي بيرم سأغنى: “هو صحيح الهوى غلاب”، وراحت أم كلثوم تغنى وهى تبكى والناس فى حيرة بين البكاء وآهات الاعجاب والتصفيق للصدق والشجن، وروح بيرم تحلق فوق الرؤوس، وغنت أم كلثوم كما لم تغن من قبل
ولم تكن أم كلثوم تعرف أنه بعد أربعين يوما سيلحق زكريا أحمد، برفيقه بيرم التونسي إلى دار الخلود، وتنطوى صفحة من أجمل صفحات الفن والموسيقى والغناء المصرى العظيم
يسعد أوقاتكم

يمكنك دعم الموقع من هنا
مؤسسة ندى لحماية الفتيات

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى