كتّاب

أزمة حفظ القرآن….


أزمة حفظ القرآن.
———

احتفل المئات في تعز بإنجاز حفظ القرآن. أثار الحفل موجة جدل واسعة. العلمانيون، بطبيعتهم غير ديموقراطيين، أبدوا انزعاجهم بكل وضوح. الإسلاميون، وهم بالطبيعة غير ديموقراطيين أيضاً، انتظروا غضب العلمانيين ليتقافزوا من كل مكان. الشيء وظله، الصورة ومقلوبها.

بالنسبة للفريق الأول: كاد كل شيء أن يكون على ما يُرام لولا ما حدث. أما الفريق الثاني فيردد: ما من نور في الطريق سوى ذلك المشهد.
الحقيقة أن تعز طالعة للتو من حرب سحقت كل شارع ومؤسسة فيها،من المشافي إلى المساجد، ومن خزانات المياه إلى فصول المدارس. نسيتم؟ يندر أن تجد بيتاً في المدينة لم ينله من الحرب ألم أو فجيعة. المدن الخارجة من الحرب تكون جائعة إلى أمرين: الفن والتعاطف. تقول البيانات المتوفرة إن 70% من أبناء أبناء الحرب [من ولدوا لآباء ولدوا أثناء الحرب] في ألمانيا زاروا أطباء نفسيين. ما يعني أن صدمة القنابل انتقلت إلى الأبناء الذين لم يشهدوا الحرب.

ازدهرت الكنيسة بعد الحرب، ذلك أن الناجين التجأوا إليها بعد أن حرمتهم الحرب الإحساس بالأمن وثقتهم بالعدالة. حصلت الكنيسة الألمانية على وضع مثالي داخل الدولة والمجتمع الألماني على السواء، فترعرعت في وضع مثالي. إذ تحصل سنوياً على 10 مليار يورو من رواتب الموظفين تحت بند “ضريبة الكنيسة”. أما قيمة ممتلكاتها فقد تجاوزت 200 مليار يورو،إذ تملك 25 % من مستشفيات ألمانيا، و23% من رياض الأطفال في عموم البلاد، وتستثمر في الجعة والخمور على نحو واسع. تلك مكاسب ما بعد الحرب، المكاسب التي جنتها بفعل ما تركته الحرب في الناس من خوف واهتزاز في اليقين.

الآن، وألمانيا تستقر على نحو غير مسبوق، سجلت الكنيسة أكبر عملية هجرة في تاريخها، فقد غادرها في العام الماضي فقط قرابة نصف مليون شخص. قالت دراسة نشرت قبل عامين إن المجتمعات المفككة والهشة، حيث المجاعات والحروب، تكون أكثر سعياً إلى “الإله” من مجتمعات تديرها دولة قوية ومستقرة. يتشبث الناس بالله كلما ضعفت الحكومة المركزية [هكذا تقول الدراسة].

في المدن الخارجة من الحروب سيبحث الناس أول الأمر عن الله وكتبه، عن آخر دالة للأمن. في الفيلم العبقري “كتاب إيلاي” تنهار الحضارة كليّاً، وتختفي الكتب، وفي مقدمتها الإنجيل، ويسود الخوف كل الأرض. إيلاي “دنزل واشنطون” يعثر على الكتاب، ويتبع “الهاتف/ الوحي” الذي يقول له اذهب به إلى ذلك المكان. يعبر الحرائق والمتاهات على قدميه، حاملاً النسخة الأخيرة من الإنجيل كي يوصلها إلى مستقرها، وبذلك يضمن للبشرية أمنها. على جانب رحلته يتقاتل من بقي البشر بحثاً عن النسخة الأخيرة من الإنجيل، تلك التي ستحمي ما بقي العالم، وستمنح مالكها القوة الأعظم دون سائر الناس.

ستعني الحرب انهيار النظام الأخلاقي العام وحلول القوة مطرح العدل. يخرج الناس من الحرب متشككين في كل هو أرضي، فان، دنيوي. في الحرب يصبح الإنسان ذئباً لأخيه الإنسان، بتعبير هوبز. حتى الأقوياء والمنتصرين تفقدهم الحرب إحساسهم بالأمن، وبقوتهم. ففي العام 1945، مع انتهاء الحرب العالمية الثانية، كان ستالين يفعل أمراً محيراً للعالم. فقد أرسل كبار رجل دولته ليشهدوا حفلاً كنسياً مهيباً في موسكو جرى فيه تعيين بطريرك للكنيسة الأرثوذوكسية. فتحت الدولة الباب لرجال الدين من كل دول الشرق كي يشهدوا ذلك الحدث، وقرعت الأجراس عالياً هناك حيث قيل إن الله تأبيد للطغيان. لم تنته المفاجأة الستالينية هنا، بل إن الرجل طلب من البطريرك إليكس السفر إلى دول البلقان ليحدثهم عن المسيح وعن قوة روسيا. انتصر ستالين في الحرب، ولكنها أرهقته وأخافته، ففعل ما فعله الشبان في تعز. من يعرف اسم الكاتب الذي قال “لا يوجد ملحدون في الخنادق؟”.
تمرض الحرب المجتمعات، وتدفعهم إلى الله لبعض الوقت. الحقيقة أن هذه الظاهرة بحثت على نحو غير واسع تحت عنوان “أثر الحرب على التدين”.

وتبدو الاستخلاصات متقاربة، سواء تلك الدراسات التي أجريت على مجتمعات ما بعد الحروب الكبرى، أو الدراسات الأحدث. أجرى الباحث جوزيف هاينرش دراسة على 1700 شخص من ثلاث دول خاضت تجربة الحرب الأهلية [سيراليون، أوغندا، طاجيكستان]. في دراسته استطاع أن يلاحظ علاقة واضحة بين درجة التدين ونسبة التعرض لأثر الحرب: الأشخاص الذين كانوا أكثر عرضة لتأثيرات الحرب صاروا أكثر تديناً من أولئك الذين تعرضوا لها بدرجة أقل. لم تلاحظ الدراسة فرقاً بين المسلمين والمسيحيين في درجة الاستجابة “الدينية” للحرب [هاينرش،2019]. الحقيقة أن هاينرش ذهب أبعد من ذلك، فهو يقترح فكرة تقول إن الحروب حافظت على الأديان بالطريقة تلك، إذ أن المجتمعات تخرج من الحرب إلى الله. تديّن ما بعد الحرب يستمر لفترة طويلة، قد تأخذ سنوات، ويأخذ شكله الاعتيادي: الطقوسية، السلوك الشخصي،والعبادات. تنتمي طقوس حفظ القرآن إلى تلك الظاهرة.

ربما لم تشهد مدينة يمنية الحرب كما شهدتها تعز، ليس فقط من حيث الدرجة وإنما الزمن. ففي مدينة تعز أخذت حرب الشوارع أعواماً،سمحت لنفسها بأن تتخمّر في ذاكرة الناس على مهل، وكان تحرير دوّار يعد نصراً جسيماً.

من المتوقع أن تنتعش الظواهر الفنية أيضاً. ذلك ما شاهده مدير أوبرا برلين الحالي وهو يتحدث عن زمن ما بعد الحرب: انتعشت الأوبرا في الخمسينات،خرج الألمان من الحرب جياعاً إلى الفن. يعرف دارس التاريخ أن الأدب والدين هما العجينة نفسها تقريباً [من يعرف صاحب هذه الفرضية]،يتنافسان حول الشيء نفسه، وييبعان حقيقتين مختلفتين: الحقيقة الفنّية، الحقيقة التاريخية. فبينما نعرف جيداً كيف ماتت الزبّاء [انتحرت بالسم]، لكن مقتل الحُسين تحيطه ألف حقيقة تاريخية. هُنا يتقدم الأدب خطوة على الدين، ويضع يده في يد الناس. فعندما سأل حكواتي رجلاً من مريديه عمّا يقوله المُحدث للناس، وكان قد سرق منه زبائنه، قال المريد: يقص عليهم عن غرق فرعون ونجاة بني إسرائيل. فقال الحكواتي: لدي باقي الحكاية، وأضاف إلى قصة فرعون الجزء الأكثر عبقرية: سيرة عوج بن عنق، وهو رجل لم يخضع لفرعون وكان إن غضب على قرية تبول وأغرقها.
المجتمعات وهي طالعة من الحرب تبحث عن الفن، كما تبحث عن الله. تجد في الثاني أماناً، وفي الأول تأويلاً. شخصياً لاحظت انتعاشاً كبيراً لسوق قراءة الرواية في اليمن في السنوات الأخيرة من الحرب، وإذا كان خمسمائة شخص قد حفظوا القرآن فإن أضعافهم كتبوا الرواية أو يحاولون كتابتها. ذلك أثر الحرب، وإذا كان ولا بد من النزاع فليكن حول الحرب لا أثرها.

في تقديري فإن المثير في مشهد حفّاظ القرآن هو صورة الحرب في الخلفية،وأثرها طويل المدى. وإذا نجح الحوثي في معارك حجة واستعاد البحر [يستخدم الآن باليستي عالي الدقة، مسيرات قاذفة، أجهزة تشويش،صواريخ موجهة، زوارق حربية، ومئات الأنساق البشرية .. الكثير مما في حوزة الجيش الإيراني من عتاد] فإن المعارك ستعود إلى مدينة تعز من جديد.

لا يزال النقاش العام حول القضايا الخطرة يجري على طريقة مشجعي كرة القدم، وفي أحيان أخرى كثأر. سيحفظ قوم القرآن، سيحترف آخرون الموسيقى، وعدد سيكتب الشعر والرواية، وكما حدث في ألمانيا: ستزدهر الكنيسة والأوبرا معاً. ذلك هو أثر الحرب Impact of war، كما يقول العلم.

م.غ.

يمكنك دعم الموقع من هنا
مؤسسة ندى لحماية الفتيات

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى