مجتمع الميم

الشَعر كأداة تطويع – My Kali


بقلم: جنى نخال
Hold Still by Hayv Kahraman – العمل الفني: هيف كهرمان
هذا المقال من ملف ‘شعري يا شعري’ – هيكل العدد هنا

وفاحم وارد يقبل ممشاه      إذا اختال مسبلاً غدره
أقبل كالليل في مفارقه       منحدراً لا يرام منحدره
حتى تناهى إلى مواطئه     يلثم من كل موطىء عفره
ابن الرومي

من المستبعَد أن تتساءل قارئة هذه الأبيات، إن كان الشاعر يقصد بها شعر سيقان الموصوفة أو عانتها مثلاً. فشعر النساء، في المجال العام، هو شعر الرأس. كل ما تعدّى ذلك، غير موجود، أو غير معترف بوجوده. وهو كذلك لأنّه- أي شعر الجسم- أصبح، نتيجةً لسيطرة الفكر الأبوي، أحد أشكال التصنيف، والتهذيب والسيطرة وبالتالي تطويع الأجساد. بداية من ثنائية المرأة والرجل، حتى تعريف الجمال أو غيابه، وليس أخيراً جنسانية الفرد أو تبتّله\ا، يستخدم النظام الأبوي الشعر- شكله، لونه، نعومته\تجعيدته، وجوده أو غيابه، موقعه في الجسم- للتأكّد من موقع الفرد الطبقي .وانصياعه\ا لتصنيف النوع الاجتماعي الذي فرضه

نتناول من خلال هذا النص عملية سيطرة النظام الأبوي على الأجسام من خلال الشعر. نركّز على مثالين: أجسام الشعوب المخطوفة من القارة الأفريقية والتي استعبدها الرجل الأبيض ليستعمِر القارة الجديدة ففرض مفاهيمه على .أجسامها، وأجسام النساء في محاولة مستمرّة لخلق “الأنوثة” والحفاظ عليها 

من خلال قراءتنا للشَعر كمادة تأديب للجسد، نراه في وجوده وغيابه، في شكله ولونه وموقعه، تفعيل آخر للجسم كمساحة للإخضاع. لذا، نطرح في هذا النص سؤالين:
-ما هي قيمة الشَعر ومعانيه عند الشعوب الأفريقية المُستعمَرة، وبالتالي كيف كان قص هذه الشعور شكلاً من أشكال استعبادها؟ – كيف يُنتِج مفهوم الأنوثة وعملية خلق “الأنثى” أداة للسيطرة على أجساد النساء من جهة، وإظهارها أجساداً ناقصة من جهة أخرى؟ أحاول الإجابة على هذين السؤالين من خلال استخدام مفهوم السلطة\القوة لدى فوكو، ومن خلال استشفاف العنف الذي. يصدر عن ميكانيزمات السيطرة والهيمنة والتطويع

من وجهة نظرة فوكو، تتعامل السلطة مع الأجساد على أنّها مساحات للتأديب وفرض الانضباط. بعد أن اضطرّت (بعض) الأنظمة لإلغاء الممارسات العلنية للتعذيب والقصاص، وجّهت طاقتها لإنتاج الجسد الطيّع، ذلك الذي يخضع لها دون أدوات العنف الظاهرة، أي أن تكون السلطة على الأجسام في هذا الإطار، كما في حالة البانوبتيكون1، موجودة لكن” دون الاحتكاك التقليدي الذي يولّد مقاومة”2. يبدو جلياً، من الطريقة التي تتعاطى بها السلطة مع أجساد النساء والشعوب المستعمرة، سعي السلطة لخلق الجسد الإنضباطي من خلال الشعر. من الملفت للنظر في كيفية تصنيف المنطق الذكوري للشعر الذي يغطّي الجسم، هو كيف يتمّ التصنيف على مرحلتين: 
.كيف يجب أن يبدو الشعر، أي ما يجب أن يكون لونه، وطوله وشكله، حجمه، ونسيجه –
.المكان الذي يجب أن ينمو الشعر فيه أو لا –

وفي مرحلة تصنيف شكل الشعر ولونه، يوضع الشعر الأوروبي في مصاف الشكل الأفضل، إن من ناحية اللون أو النعومة\التجعيدة، بينما تحتلّ الشعور السوداء ذات التجعيدة، المستويات الأدنى. وتظهر أحد أقوى أشكال التصنيف منذ بداية استعباد شعوب القارة الأفريقية من قبل الرجل الأبيض حتى اليوم. فقد عَمَد المستعمرون البيض إلى قص شعر المُستَعبَدات\ين، من القارة الأفريقية خاصةً، كشكل من أشكال الإهانة من جهة، لما كان للشعر من قيمة لدى العديد من القبائل، ولبتر علاقتهن\م بتاريخهن\م وثقافتهن\م وهويتهن\م وتجريدهن\م من الإنسانية من جهة أخرى؛ كما كان للعديد من القبائل الأفريقية الإيمان بأن التواصل مع الآلهة يحصل عبر الشعر، وبذا، يكون المستعمِرون قد دمّروا أحد
3أكثر أعضاء الجسد الأفريقي حملاً لقيمٍ ودلالات أساسية عند الفرد والجماعة.
كما تحجّج المستعمِرون بال”نظافة” لقص شعور المستعمَرات\ين، وهي أداة أخرى لطالما استخدمها التفوّق الأبيض)
4(.للدلالة على فقدان الشعوب المستعَمرة للنظافة، مقابل امتلاكهم هم لها

تقول أليساندرا لِمّا بأن للشعر في العديد من المجتمعات القدرة على التعبير، من خلال حمله للقوى\المعاني الطوطمية وعلاقته بمفهوم الجمال، أو لعبه دوراً خلال طقوس العبور العديدة. وقد ارتبط فقدان الشعر عند النساء والرجال، بقلق الإخصاء وفقدان مقومات الجمال.5 وعندما عاد الشعر إلى النمو في البلاد الجديدة، لم يكون المستَعبَدون يملكون الأمشاط ولا الزيوت ولا القدرة على العناية بشعورهن\م من جديد، فاضطروا إمّا لإخفائه تحت لفائف القماش، أو استخدام ما كان مُتاحاً من سمنِ وشحم وأدوات تمشيط صوف الخراف6. ولسوء هذه المواد 7والأدوات، فقدت العديد من النساء شعورهن ممّا دفعهنّ لتغطيتها.

Hold Still by Hayv Kahraman, 2010

ثم أصبح شكل الشعر و”خشونته”\نعومته\تجعيدته جزءاً من أدوات تصنيف المستعبَدات\ين إلى درجات، يكون الأقرب منها إلى الشكل الأوروبي للشعر أغلى وأقرب إلى السيد\ة، ويتحمّل الأبعد منها حمولاً أكبر وأعمالاً شاقةً أكثر8. كذا، كان الأوروبيون البيض في القارة الجديدة يُسمّون شعور الأفارقة الأمريكيات\ين “صوفاً”، في تشبيه منهم له بشعر الحيوانات9. وبالتالي، أصبح الشعر الأكثر قرباً إلى الشعر الأوروبي مرغوباً من الأفريقيات الأميركيات، لأنه يسمح لهن بالارتقاء الاجتماعي، وبالتالي أصبح هذا الشعر شيئاً فشيئاً، دالاً على المستوى الاجتماعي وقرب النساء من الحرية. 

لكن مقابل قص الشعور وتنميطها وجعلها أداة استعباد أخرى، عمَد المُستعبَدات\ون إلى تجديل شعورهن\م لترسم خرائط الهرب من الاستعباد من جهة، وتلافي الطرق الخطيرة، كما استُخدِمَت لإخفاء الحبوب وقطع الذهب من أجل 10رحلة الهرب.

وفي أواخر القرن الثامن عشر في لويزيانا، صدر “قانون تيون Tignon Law”، الذي أجبر النساء المُستعبَدات على تغطية شعورهن. أتى ذلك نتيجة تأثير الشعور المجدّلة والمنمّقة للنساء المستعبدات، بحيث بدأت ب”لفت الأنظار”، ممّا شكّل “خطراً على موقع النساء البيضاء، وسمح للنساء المُستعبَدات بتهديد النظام الإجتماعي القائم”11. جاء القانون لتغطية الشعور، في دلالة على محاولة السيطرة على جنسانية الأجساد المستعبدة، ومنعها من الارتقاء لمستوى تلك البيضاء. لكن بعد فرض غطاء الشعر -“تيون” Tignon- أصبحت الأفريقيات الأميركيات تزينّن الغطاء، ممّا جعله ملفتاً للنظر هو أيضاً12. فبدلاً من أن تصبح أغطية الشعر إهانة للنساء وتطويعاً لشعورها -كما كان يُراد لها أن تكون من خلال هذه القانون- صارت مدعاة فخرٍ وتباهي وانتماء، بحيث راحت النساء تستعملن الأقمشة الملونة 13وتزيّننها بربطات وتصاميم وأحجار جعلتهن محطّ أنظار مرّة أخرى.

مازالت النظرة الدونية للشعر المجعّد ومحاولات تطويع من تحمله مستمرّة. فحتى زمن قريب جداً، في جنوب أفريقيا، وتحت نظام الآبرتهايد الاستعماري الأبيض، كان الزواج بين الأفراد من الأعراق المختلفة ممنوعاً. هذا لم يمنع الناس من إنشاء علاقات فيما بينهن\م، إلّا أن النظام لم يستطع تصنيف بنات وأولاد هؤلاء الأفراد، أي منهن\م بيض، وأي سود. يخبرني رجل جنوب أفريقي أسود، بنظام اخترعه الأبارتهايد، يتضمّن عدّة اختبارات لتصنيف بنات وأبناء العلاقات “المختلطة”، أحدها كان يتعلّق بالشعر. “إن وضعت قلماّ في شعرك، وسقط القلم على الأرض، تكونين بيضاء. إن علق في شعرك، فأنت سوداء.” تسبّبت تجعيدات شعور شعوب العالم الثالث بخوفٍ غريبٍ عند المستعمِر، ممّا أنتج أساليب قاسية دموية لإخفاء الشعر المجعّد…عبر تشذيبه إن أمكن، أو حلقه نهائياً إن لم يكن ذلك ممكناّ. 

من جهة أخرى، وفي إطار “تعليم” النساء الإنضباط وجعلهن “أجساداً طيّعة”، لا تتعلّم النساء منذ الصغر كيف تتحرّكن وتتصرّفن فحسب14، بل كيف تكون شعورهن وكيف لا يجب أن تكون. وتشكّل “الأنوثة” أحد الأدوات المستخدَمة لتصنيف التصرفات من جهة، وشمل الشعر ووجوده أو غيابه من جهة أخرى.

يشكّل الشعر جزءاً من عملية خلق النوع الاجتماعي، بمعنى أن ثنائية النساء والرجال ترتبط ارتباطاً وثيقاً بمدى تغطية الجسم بالشعر. ممّا يعني بأن النظام البطريركي، ومن خلال الشعر، يفرّق بين النساء والرجال، وبالتالي فهو يجعل من النساء اللواتي تتمتّع أجسامهنّ بكمية أكبر من الشعر أو بتوزّع مختلف للشعر(كشعر أقل على الرأس، أو\و أكثر على الوجه مثلاً)، أقّل “أنثوية”، ومن الرجال الذين لا يغطّي الشعر أجسامهم، أقلّ رجولية. وهو بالتالي يثبّت إذذاك ثنائية بارادايم الأنوثة والذكورة، ويفرّقهما عن بعض بطريقة غير واقعية. وبالتالي، فإن أجسام العابرات\ين والكويريات والنساء المختلفات واللواتي يخترن عدم إخضاع أجسادهنّ لهذه الثنائية، مرفوضات، لأنّ النظام لا يستطيع تقبّل ما يخرج عن هاتين الفئتين. وفي ذلك، تتشكّل الأجساد المطيعة، لا بتصّرفاتها وحركتها وجنسانيتها فقط، بل بشكلها أيضاً، بمدة تغطية الشعر لها، وشكل هذا الشعر الذي يغطّيها ونوعه ولونه. ومن الضروري أن نذكر هنا بأن التأديب هنا يأتي بشكل أكبر وأقسى وأكثر حزماً على أجساد النساء والكويريات والعابرات، منه على أجساد الرجال المغايرين، ممّا يعني بأن النظام يسعى لتطويع أجساد النساء والكويريات\ين والعابرات\ين بشكل أكبر من أجساد المغايرين من الرجال.15 من هذا المنظور، بإمكاننا أن نرى كيف تكون الأُنوثة (والذكورة أيضاً) شكلاً فعّالاً من أشكال السيطرة الاجتماعية.16 فجسم النساء والكويريات\ين والشعوب المستعمَرة بالذات هو مساحة هذه العلاقة ومكان تطبيقها. أجسامنا “نَصّ” يُقرأ، وتجري قراءته على أنّه “مفرط” الجنسانية، اعتماداً على القراءة الفوكودية. وهذا الإفراط، أي غياب الانضباط الذي يعاني منه هذا الجسد، هو أحد أشكال جعله “آخراً”. من هنا، يجب تأديبه وتشذيبه والسيطرة عليه، لمعاقبته على جنسانيته، والتقليل منها.

في هذا الإطار، لا يأتي شكل الشعر ووجوده أو غيابه إذاً، نتيجة خيارات شخصية وفردية، بل نتيجة عملية “بناء الجسد الأنثوي المثالي”.17 يقول لاكان بأن الجسم ثانوي وليس أولياً، بمعنى أن الجسم لا يكون بل يُبنى. ويُكمِل ليقول بأن هذا البناء، هذه الأناتومي، ليست قدراً، بل هي خطاب؛ تماماً مثلما يكون النوع الاجتماعي تركيباُ اجتماعياُ، فأجسادنا كذلك ايضاً. ممّا يعني بأنها تُبنى، إمّا من قِبل النظام المهيمن أو من قِبلنا. وبما أن النظام المهيمن هو الأقوى اليوم، فهو ينجح في كل مرحلة وعند كل تقاطع، من تشكيل أجساد الأفراد والجماعات والشعوب وتعريفها، وبالتالي، جعل هذا البناء يبدو…أولياً.

وفي العودة إلى فوكو ومفهوم البانوبتيكون، يُعاد إنتاج البانوبتيكون إجتماعياً عبر تحوّل النساء\الكويريات\ين فيما بينهنّ\م إلى برج مراقبة للأخرى، تراقب من خلالها جسدها وحجمه وشكله، والشعر الذي يغطّيه، وتضغط عليها للتخلص منه أو تشجذيبه، في تقبّل للتحديق الذكوري male gaze وجعله جزءاً داخلياً من مقاربة النساء\الكويريات\ين لأجسادهن.

في هذا الإطار، من المهم أن نرى بأن ما يحتاج لتغيير، الأجساد التي يجب “تحسينها”، هي أجسادٌ ناقصة، فيها عيبٌ خُلُقي يجب إخفاؤه بشكل مستمر، ومراقبة ظهوره بهدف الحفاظ على “أنوثته”. بذلك تكون “عملية” الأنوثة ثقلاً إضافياً على النساء، وبالأخص على اللواتي لا يملكن القدرة الاقتصادية، أو الوقت أو أي من أشكال الترف والامتيازات التي تتطلبّها هذه العملية. 

لا يعني غياب الممارسات العلنية للتعذيب والعنف تجاه الأفراد اللواتي والذين لا يخضعون لقيم الأبوية المتعلقة بالجسد بأنهنّ\م حرّات بأجسادهن\م وممارساتهن\م، بل يضطررن\ون لمواجهة قصاص من نوع آخر. وليست النظرة الدونية لشعورنا المجعّدة، أو تلك التي تغطّي أجزاءً لا يجب تغطيتها من أجسامنا، سوى أحد أشكال هذا القصاص.

في ظل النظام الأبوي، يكون الجسد ملكاً عاماً -خاصة جسد المستعمَرات\ين والنساء الكويريات\ين- أي هو ملكية المجتمع، يملك الأخير القدرة على تحديد كيف يبدو، يتحكّم به، يسيطر أو يهيمن عليه، ويرفضه حين يقرّر الجسد عدم اتباع معاييره. الشعر شخصي، حميم أو عام. للشعر أيضاً تركيبة سياسية، لا لأنّنا نريده كذلك، بل لأن الاستعمار والبطريركية جعلتاه كذلك.



Source link

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى