كتّاب

” حينما الموسيقى .. صوتُ السماء! “…


” حينما الموسيقى .. صوتُ السماء! ”
مقال في مُنتهى العمق والرُقي بالمشاعر الإنسانية عن الموسيقى وتأثيرها، بقلم أستاذتي الجميلة فاطمة ناعوت❤️

“أنصتوا! أصيخوا السمعَ: إن الملائكةَ تُغنّي”. هذه واحدةٌ من ترانيم الميلاد الأربع وعشرين التي أبهجت أرواحَنا أولَ أمس على “مسرح النيل”، بوسط البلد بشدو “كورال كنيسة سان جوزيف الكاثوليك”، بقيادة المايسترا الجميلة “ماجدلوين ميشيل”. لا شيء أجمل من الموسيقى، ولا شيء أرقى من صوت الإنسان حين يناجي الله. الموسيقى هي صوتُ الملائكة تُغّني وهي تسكبُ الفرحَ على الأرض كلَّ صباح لكي نتنفس. صدّقوا الموسيقى واذهبوا إليها؛ فهي الدليلُ على أننا نتنفس. كان الأبُ المثقف “بطرس دانيال” جالسًا إلى البيانو أمام النوتة الموسيقية، يعزفُ النغمَ الرفيع وينطقُ البِّشرُ من وجهه. وهو كذلك الموزّع الموسيقي لبعض المقطوعات التي صاحبتِ الترانيم الجميلة في الحفل السنويّ الثري الذي تعوّدنا حضوره نهاية العام، لكي نودِّعَ عامًا كهلًا يتوكأُ على عصاه ويتأهبُ للمُضي في غياهب كهف الزمان، ونستعدُّ لاستقبال عامٍ فتّيٍ جديد، ندعو اللهَ أن يكون واعدًا بالسلام والمحبة والأمن والرغد للوطن العزيز مصرَ، وللعالم بأسره.
ليس أجملَ من مشهد رجل دين يعزفُ الموسيقى! لا تصدّقوا الصورةَ الذهنية لرجل الدين المتجهّم المُعادي للحياة! فتلك صورةٌ مصطنعةٌ زائفةٌ، وغير منطقية. فكلّما اقتربَ الإنسانُ من الله، ازداد فرحًا وبشاشةً واحترامًا للجمال والفن؛ لأن اللهَ تعالى واهبُ الفرح وواهبُ الجمال، وهو الفنانُ الأعظم الذي تجلّى في خلق الإنسان، والطبيعة لانهائيةِ التنوّع والسحر.
وهكذا أبناء مصر المسيحيين، في لحظات العُسر تعلو الصلوات في الكنائس تدعو الله أن يده لينقذ البلدَ الأمين الذي ذُكر في الإنجيل: “مباركٌ شعبي مصر”، مثلما كرّمه القرآن: “ادخلوا مصرَ إن شاءَ اللهُ آمنين.” وفي لحظاتِ الفرح يدعون أبناء الوطن لكنائسهم لكي نكون: “فرحًا مع الفرحين” بعيد الميلاد المجيد. نُزيّن معًَا أشجار الكريسماس الخضراء بالنجوم ونُدف الجليد والأجراس الملونة، وندعو الله أن يجعل العام القادم عام فرح وسلام.
على مدى الأعوام الطوال، منذ عام ١٩٨٩، يقومُ الأبُ “بطرس دانيال”، مدير المركز المصري الكاثوليكي للسينما، بتدريب أطفال وصبية من طلاب المدارس الموهوبين والمتخرجين، يُدرّبهم على العزف، وتدرّبهم القائدة “ماجدولين ميشيل” على الغناء الأوبرالي، مرتين في الأسبوع طوال العام، حتى تكوّن كورال “سان جوزيف” الاحترافيّ، الذي تفخرُ به مصرُ وتنافسُ أرقى كورالات إيطاليا. تعلّم الأبُ “دانيال” الموسيقى الأوبرالية في إيطاليا على يد كبار الموسيقيين، ثم عاد إلى وطنه حاملا شعلة أرقى الفنون وأعلاها: الموسيقى. والحقُّ أن عجزَ اللغة، كل لغة، عن التبيان، يتبدّى حين تحاولُ الكلماتُ رسم قطعة من الموسيقى! بوسع الكلمات وصف جميع الفنون إلا الموسيقى. بوسع الأديب أن يصف: قطعة نحتية أو لوحة تشكيلية أو بناية معمارية، وتظل الكلماتُ أداةَ رسم: الشعر والمسرح، لكنها تعجزُ أمام الموسيقى. كيف نرسمُ “النغمةَ” بالكلمات؟ كيف نصفُ صوت الكروان أو خرير الماء أو حفيف الشجر، أو صوت طفلة تُرنّم؟ لهذا اخترع الموسيقيون لغةً خاصة برموز لا يفكُّ شفرتها إلا الموسيقيون: “النوتة الموسيقية”. وهنا لا أملك إلا لغتي القاصرة لرسم حفل الكريسماس الذي تقدمه لنا كنيسة “سان جوزيف” سنويًّا في السبت الأخير قبل عيد الميلاد. تشهد مصرُ هذا الكونشرتو الضخم ويحرص على حضوره مثقفو مصر من السياسة والفنانين والأدباء والإعلاميين، ونحن موقنون أننا على وعد بنهل طاقة وجودية دافقة، وغسيل روحي عميق، يذهب بهمومنا التي راكمتها الأيامُ فوق أرواحنا على مدار العام، الذي يوشك أن يرحل، مُفسحًا الطريق لعام جديد نأمل أن يكون أجمل من سلفِه. الأبُ “دانيال” جالسًا إلى البيانو، المايسترا “ماجدولين” وعصا القيادة في يدها تواجه الكورال الذي تراوحت أعماره من السنوات الأربع إلى الخمس والستين عامًا. قدّم الحفلَ الأبُ الجميل “ممدوح شهاب” على نحو مبهج خفيف الظل، بذكر عنوان المقطوعة ومؤلفها كلماتٍ وموسيقى وتوزيعًا، ولمحة تاريخية عنها إن كانت من التراث العالمي أم حديثة، وأسماء المغنين الصولو والعازفين. ثم ينهمرُ شلالُ العذوبة يُغرق الحضورَ في صمت يشبه صمتَ خشوع الصلاة، لكي نغترفَ أكبر قدر من الطاقة السماوية التي تقارب حال الحلول الصوفي في روح الله. أربع وعشرون ترنيمة بالفرنسية والإنجليزية والإيطالية مع مزج خيوط من العربية سلّمنا إليها أرواحنا لنبرأ من الحزَن. كنا ننصتُ ونحن نسترجع طفولتنا وذكرياتنا في المدرسة مع احتفالات رأس السنة، وأغاني الميلاد، وانتظارنا زيارة بابا نويل بالهدايا والأمل في تحقيق أحلامنا الصغيرة. الُله يحبّنا ويعلمنا درسَ الحب لكي نحب الآخرين. ما أحوجنا إلى التشبّث بدرس الحب الذي لا يسقط أبدًا. المجدُ لله في الأعالي وعلى الأرض السلام وبالناس المسرّة. ميري كريسماس وشكرًا على كل هذا الجمال.

***
Fatima Naoot-فاطمة ناعوت
#عيد_الميلاد_المجيد


يمكنك دعم الموقع من هنا
مؤسسة ندى لحماية الفتيات

Abanoub Fawzy ابانوب فوزي

شاعر ـ كاتب قبطي

‫2 تعليقات

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى