كتّاب

أسطورة المقابر…


أسطورة المقابر
” نشرت بأهرام الحضارة 1/12/1502″
لم نكن نتصور ونحن في مطلع المراهقة من عمرنا في مدينتنا الصغيرة الباجور فى قلب الدلتا ـ منتصف الستينيات من القرن الماضي ـ أن يسعدنا الزمان بذلك المنظرالفريد، لسيدة قمحية اللون ثرية التكوين متوسطة القامة عارية تماما ـ كما ولدتها أمها ـ تهبط بأقصي سرعة من المقابر التي تشبه التل، في حالة فزع وصراخ هستيري، وبعد جريها علي هذا المنظر وقتا يسمح للمارة بأن يفيقوا من صدمة المفاجأة، صاح أحدهم: «حلق يا جدع.. الحق ياجدع» وأدركها بعض الفلاحين العابرين، وخلع أحدهم جلبابه البلدي وسترها به،
وكان المشهد الفريد مثار تندر الناس لأيام عديدة بعدها، ولأنني شغوف بشعبنا وتكوينه وتراثه الثقافي فقد سألت، وأجابتني أختي الكبري بأنه قد جرت عادة النساء المتزوجات، اللاتي حرمن من الإنجاب، أن يملأن إبريقا من الفخار الأسود من ماء ترعة الباجورية، المتفرعة من النيل طبعا، ويتسللن الي المقابر وفي أحد أركانها يخلعن ملابسهن ويتحممن بالماء كله، ثم يهبطن وقد استقر في أذهانهن أنهن حتما سيحبلن وينجبن البنين والبنات.
طبعا هذه هي العادة كما تحدث منذ الأزل، ولكن لماذا المقابر، والاستحمام، وماء النيل، والإبريق الأسود؟، وهكذا رحت أسعي لكي ألملم أطراف الأسطورة.. وإليكم خلاصة ماتوصلت إليه:
تذكر أسطورة إيزيس وأوزوريس، كيف أن الإله الشرير ست استدرج أخاه الطيب أوزوريس، وقتله وقطعه أربعين قطعة وألقاها بنهر النيل، حيث حملت المياه الأربعين شلوا من أشلاء أوزوريس ودفعت بكل منها إلي الأربعين إقليما ـ هي أقاليم مصر وقتها ـ وربما من هنا يندر أن توجد مدينة لا يوجد بها مقام مقدس لسيدي الأربعين، فقد أصبح أوزوريس هو نفسه سيدي الأربعين أو سيد الأربعين إقليما ـ إلا عضوه الذكري الذي ابتلعته إحدي أسماك «القرموط». المهم أن إيزيس المخلصة، سعت لجمع أشلاء زوجها وإقامة أضرحة له في جميع أنحاء البلاد،
وأثناء ذلك تحممت من ماء النيل، فحملت في ابنها «حورس» الذي تمكن من الانتقام لأبيه المقتول، وعاش أوزوريس بعدها في وجدان شعبه إلها للخصب وساكنا للمقابر، وقاضي قضاة العالم السفلي ورئيس محكمة الموتي. نعود إلي أن وجود عضو أوزوريس الذكري في مياه النيل قد حولها إلي ماء للحياة والخصوبة، ولعلنا نعلم أن هناك علاقة وثيقة بين مصطلحات الزراعة ومصطلحات التناسل، فالأرض الخصبة كفترة الخصوبة لدي النساء، وزوجاتنا حرث لنا، والبذرة هي النطفة، وهكذا.
ومن هنا، ولأن أوزوريس إله معبود للخصب وساكن للمقابر، كان علي من ترغب في الإنجاب أن تأخذ من ماء النيل التي أخصبها، في إبريق من الفخار الأسود، وتذهب إلي المقابر وتخلع ملابسها كاملة، وتقوم بصب الماء علي جسمها من «بزبوز» الإبريق ـ كدلالة رمزية ـ فيما يشبه عملية المضاجعة الكاملة لأوزوريس إله الخصب،
أما إبريق الفخار الأسود، فالحقيقة أنه وإن كان لدينا لونان للأباريق الفخارية، أسود وأحمر، فإن الأحمر لم يظهر إلا في الدولة الفرعونية الحديثة، حيث عرف المصري القديم فتحات الخروج للدخان في أفران الفخار، والتي راحت تلقي بالكربون والسناج المتخلف من عملية حرق الفخار إلي خارج الأفران كمداخن قمائن الطوب الحالية فيظهر الفخار أحمر رائقا ـ أما في الدولة القديمة فلم يكن المصري يعرف فتحات الخروج فكان السناج والهباب يترسب ويظل في مسام الفخار فيعطيه لونه الأسود، والمعروف كما تؤكد النصوص الباقية أن أسطورة إيزيس وأوزوريس ظهرت مع بدايات الدولة القديمة واستقرت تماما في ظل الأسرة الخامسة.
أما لماذا هبطت صاحبتنا بتلك الحالة من المقابر، فقد كان هناك أحد الشباب البلهاء، يقضي ليله كله متجولا وزاعقا في شوارع البلدة حتي إذا ما أذن الفجر، يصعد إلي المقابر فإذا بها ويدلف زاحفا إلي إحدي المقابر المفتوحة والمهجورة فينام حتي الظهيرة، فيزحف خارجا، وهكذا.
وبينما السيدة تستحم ـ يحيط بها هذا الجو من الأسطورة والخرافة ـ تلمح من يخرج من المقبرة أمامها زاحفا يعلوه التراب والعنكبوت فلا تبدو ملامحه، حتي طار صوابها، فهبطت علي هذه الصورة.
ومنذ شهر فقط، وبينما كنا نصعد إلي المقابر لقراءة الفاتحة علي أرواح الأحبة الذين رحلوا، وجدت عجوزا تعترض طريقنا قائلة: انتظروا قليلا يابهوات.
فانتظرنا دقائق حتي ظهرت سيدة تحبك طرحتها وتمسح الماء عن وجهها، وترمي السلام علينا ووجهها إلي الأرض حياء وخجلا.
ويؤكد الكثيرون أن هذه الطقوس مازالت فاعلة وأن كثيراً من النساء قد حملن وأنجبن بعد القيام بهذا الطقس الفريد، ومازالت حضارتنا العميقة والثرية تعيش فينا مهما تبدلت العصور وتغيرت الأزمان


يمكنك دعم الموقع من هنا
مؤسسة ندى لحماية الفتيات

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى