كتّاب

من العزلة إلى النكسة…


من العزلة إلى النكسة
—–

حين علم علي بن أبي طالب بأن عائشة وجيشها قد بلغا البصرة دعا إلى النفير العام في المدينة المنورة فاستجاب له أربعة من كبار الصحابة، ويقال ثلاثة: أبو الهيثم بن التيهان، أبو قتادة الأنصاري، وزياد بن حنظلة. اختلف المؤرخون في اسم الشخص الرابع. وفي المجمل حشد جيشاً قدّره الطبري في تاريخه بسبعمائة مقاتل، وعند ابن كثير في البداية والنهاية نحواً من تسعمائة [1]. هذه الصدمة المبكّرة ستفقد عليّاً الإحساس بالأمن وستدفعه إلى أحضان قطاع الطرق وتجعل منه أول زعيم يصل إلى السلطة على أكتاف المتمرّدين. تكرر هذا الخذلان مع علي مرّة أخرى بعد معركة صفّين حين دعا إلى الخروج بعد فشل عملية التحكيم غير أن أحداً لم يستجب له. وبعيد مقتله زحف جيش معاوية إلى العراق وعجز الحسن بن علي عن حشد ما يكفي من المقاتلة، قبل أن ينشق قائد جيشه، عبيد الله بن العبّاس، ويأخذ معه بضعة آلاف ليلتحق بجيش معاوية. وعبيدالله هو ابن عمّ النبي، وأحد كبار الهاشميين. بقي للحسن فلولٌ مبعثرة من الرجال الذين وعدوا أباه بالذهاب إلى الشام. كان الحسن أقل الهاشميين تشبّثاً بالحق الإلهي، وقد ضرب موعداً طويلاً مع الدنيا فمنحته ما يؤنسه من النساء والمال والجاه. دفعته الحقائق الأرضية إلى الاستسلام أمام جيش معاوية، والعودة بغنيمته الفردية إلى المدينة.

بالعودة إلى الحديث عن خروج علي من المدينة، يدنو الحسن من والده ويعاتبه “أمرتك يوم قُتل -يقصد عثمان- أَلا تبايَع حَتَّى يأتيك وفود أهل الأمصار والعرب وبيعة كل مصر”. كان الحسن أكثر قدرة على تخيل المآلات الكارثية لمغامرات الطالبيين كما سنوضح فيما بعد.

عجز عليّ عن تخيّل شكل المعضلة التي تورط فيها، فالدولة التي صارت إمبراطورية مترامية الأطراف لا يمكن أن تؤخذ في مداهمة ليلية بسيوف بضعة آلاف من المتمرّدين. كما أن تجاهل إرادة شعوب وأمم تلك الدولة العملاقة وإلغاء حقهم السياسي بالكامل بحجة أن “الأمر أمرُ أهل الْمَدينة” [2] ، كما حاجج عليّ، أفقرَ سلطته إلى المشروعية السياسية. الحاكم – وهو هنا علي- ليس نبيّاً مؤيداً من السماء، بل رجلاً من السياسة، والسياسة عملية جماعية تقوم على التوافقات والرضا. كان عليّ يخلط بين نفسه والنبي، ويرى لنفسه من واجب الطاعة والقداسة ما كان للنبي ذاته. لم يكن عليّ يملك النباهة الكاملة لفهم تلك المعادلات، وحين حذره ابن عبّاس من مغبّة الذهاب في ما عزم عليه راح يردّ قائلاً إنه لن يتخلى عن السيف. ومما عقد طريقه أكثر هو السيف نفسه، ذلك أنه كان قد هجره لربع قرن من السنوات، لم يقد فيها معركة ولم يشترك في مبارزة واحدة.

الحاكم الجديد لبلاد مترامية الأطراف، تجاوزت مساحتها ستة ملايين كيلومتراً مربّعاً، يلغي في طرفة عين الحق السياسي لسائر الأمم والشعوب التي صارت جزءاً من الدولة/ الإمبراطورية، متجاهلاً رأي أهل اليمن والشام ومصر وغيرها. ثمّ هو يفكر بالذهاب إلى الشام بجيش لا يبلغ الألف رجل، قبل أن يغيّر وجهته إلى العراق. تبدو رواية ابن كثير حول نقاش الأب والإبن أكثر ثراء ودلالة. عليّ يلتفت إلى ولده وينهره قائلاً “أما مبايعتي قبل مجئ بيعة الأمصار فكرهت أن يضيع هذا الأمر”. إن الأمر أمر المدينة، قال عليّ، ثم يختم نقاشه مع ابنه قائلاً “فإذا لم أنظر فيما يلزمني في هذا الأمر ويعنيني، فمن ينظر فيه؟”[3].

مسألتان تلفتان الانتباه هُنا: حاكم جديد يصل إلى السلطة لأول مرّة، يفسّر استعجاله طلب البيعة بينما البلاد غارقة في الهرج والمرج بخوفه من أن يضيع الأمر. مؤكداً: أنه اقتحم السلطة لأنها مسألة تلزمه وتعنيه. كان بالمدينة آنذاك عشرون ألفاً من صحابة رسول الله[4] ، وليس فيهم من أحد يرى السلطة تعنيه سوى علي بن أبي طالب. يؤكد ذلك ما حدث لاحقاً من عزوف كبار الصحابة عن مصاحبته إلى معاركه التي عزم عليها. كان الحسن يرى المآلات، قال لوالده”تقتل غداً بمضيعة لا ناصر لك فيها”[5] ، ورأى الأب تفاهة في ما يقوله الولد “لا تزال تحنّ عليّ حنين الجارية”.

وهو يترك المدينة خلف ظهره، أو وهي تدير له ظهرها، اتخذ قرارين خطرين للغاية، على مرحلتين: المرحلة الأولى تعيين قثم بن العبّاس والياً على مكة، وتمّام بن العبّاس والياً على المدينة. فقد علي الثقة بنواتي الإمبراطورية الإسلامية فوضع عليهما ولدي عمّه، وهما غلامان ممن ولدوا بعد الهجرة، وكانا يفتقران إلى كل ما يحتاجانه لحكم قلب الإمبراطورية، عدا أنهما ابنا عم الحاكم. صدمت المدينة عليّاً كما صدمته مكة، ووجد نفسه وحيداً، يحمل على كاهله مشروعية ناقصة، وبيعة تسلّمها من اللصوص. في الطريق نزل بالربذة[6] إلى الشرق من المدينة المنورة، وجاء إليه الناس من بني أسد وطيء ومناطق أخرى. غادرها وذهب شمالاً، صار يملك جيشاً من بضعة آلاف ونزل في ذي قار جنوبي العراق [7]. من هناك دشّن مراسلاته مع أحد كبار الصحابة المبجّلين، وكان يمثّل تحدياً استراتجيّاً لما له من وزن أخلاقي ومعرفي داخل المجتمع الـمُسلم، فضلاً عن خبرته السياسية والعسكرية. اسمه أبو موسى الأشعري وسبق له أن حكم البصرة في زمن عُمر، ثم صار حاكماً للكوفة منذ أيام عثمان. عليّ يريد الكوفة بعد أن نزلت عائشة بجيشها في البصرة، يعرف أن له بها أنصاراً ولكن حاكم البلاد الأشعري غير راض عن تحركات عليّ العسكرية. وقف محمد بن أبي بكر ومحمد بن جعفر أمام أبي موسى يحملان خطاباً من علي فلم يجدا جواباً يفيدهما في شيء. وفي المساء أناس من مناصريهم على أبي موسى يعوضون عليه الطاعة لعلي، فقال “كان هذا بالأمس”. ربما كان يقصد: قبل أن يقرّر عليّ خوض الحروب. أغضب هذا القول الولدين اللذين أرسلهما علي فشتماه كما يروي ابن كثير. كان أحدهما ربيب علي والآخر ابن أخيه، وسنعرف فيما بعد كيف ضلل الفتيان عليّاً في مواطن أخرى وتسببا في خسارته لمصر.

غضب أبو موسى ونهر الرجلين قائلاً “والله إن بيعة عثمان لفي عنقي وعنق صاحبكما، فإن لم يكن بد من قتال فلا نقاتل أحداً حتى نفرغ من قتلة عثمان حيث كانوا ومن كانوا”[8]. فهم عليّ ما يرمي إليه أبو موسى الأشعري بقوله “حيث كانوا ومن كانوا”. حين تلقى الجواب التفت إلى مالك الأشتر وقال له “أنت صاحبنا في أبي موسى والمعترض في كل شيء اذهب أنت وابن عباس فأصلح ما أفسدت” كما في الكامل في التاريخ[9] . المعترَض في كل شيء، أو المعرّض في كل شيء في رواية ابن كثير[10] كان شوكة الميزان في جيش علي، والعصا في دولاب أي تسوية سياسية. مثل أبي موسى الأشعري وقف آخرون، فلا يمكن مشاهدة زعيم التمرّد الأشتر قائداً لجيش الخلافة، من وجهة نظر فقهية على الأقل. فالمقتول ظلماً، بصرف النظر عن كونه خليفة، ذهب دمُه هدراً، وعليّ يرفض أن يُقاد به أحد. المواجهة مع أبي موسى الأشعري لم تكن باليسيرة، وما كان ممكناً تجاوزه. في الكرّة الأخرى أرسل عليّ ابنه الحسن صحبة عمّار بن ياسر. ذاعت قصة التحاق عمّار بالمتمرّدين الذين ثاروا على الخليفة. ما إن وصل الرجلان الكوفة حتى دنا منهما رجلٌ يقال له مسروق الأجدع، كما يروي ابن كثير، وسأل عماراً “علام قتلتم عثمان؟” فقال عمّار: على شتْمِ أعراضنا وضرب أبشارنا، فقال الأجداع: والله ما عاقبتم بمثل ما عوقبتم به. ولما رآهما أبو موسى الأشعري قال لعمّار “يا أبا اليقظان أعدوت على أمير المؤمنين عثمان قتلته؟” فقال عمّار: لم أفعل، ولم يسؤني ذلك” [11]. لا شك في أن عليّاً كان محاطة بقادة التمرّد الذين قتلوا عثمان أو تمالؤا على قتله. أو بلغة عمّار بن ياسر: من لم يسؤهم قتلُه.حدثت موقعة الجمل، أراد علي أن يحرج خصميه اللدودين، فسأل طلحة: ألم تبايعني؟ فقال الرجل: نعم، والسيف على عنقي[12] . كان ذلك سيف الأشتر ورجاله، ممن نصبوا عليّاً ملكاً.

في المرحلة الثانية، وبعد فراغه من معركة الجمل، اتخذ قراراً أخطر من سابقه: معاقبة المدينة ومكّة. لقد أعلن نقل عاصمة الإمبراطورية الإسلامية إلى الكوفة، وهي مكان في التقدير الإسلامي آنذاك بلا هوية. ليس للكوفة سابق تاريخ مع الرسول، وكانت هذه الحقيقة كافية لتخوف الناس من جعلها عاصمة. أفصح عن ذلك التخوف عبد الله بن سلام، الإمام الحَبر كما يسميه الذهبي، حين اعترض عليّاً وقال له “لئن خرجت منها لا يعود إليها سلطان المسلمين أبدا” [13] . المتشنّجون الذين ركبوا إلى جوار علي ودفعوه إلى الحرب سبّوا عبدالله بن سلام، يقول ابن كثير.

أسس عمر بن الخطاب وقائده سعد بن أبي وقّاص الكوفة لتكون معسكراً استراتيجياً على الحدود الشرقية للدولة الجديدة. في المراسلات التي دارت بين عمر وسعد كان الأول حريصاً على أن لا تصبح عُمراناً، وأن لا تتجاوز وظيفتها كمنطقة عسكرية، وأمره بأن يلتزم بالقاعدة الذهبية: إن العرب لا يصلح لها إلا ما يصلح للإبل من البلدان[14] . لم يسمح عُمر بأن تبنى فيها منازل من الطين إلا بعد أن أبلغه القائد أن حريقاً التهم بيوت القصب، فحدد الخليفة عدد البيوت المسموح ببنائها: ثلاثين. بالنسبة للمؤسس: لا بد أن تحتفظ بصفتها كمعسكر. والكوفة تعني، في أبرز معانيها، المكان الذي ينزل فيه الجند ويجتمعون. لم بتن في الكوفة بيوت من الآجر سوى في الحقبة الأموية. ما الذي جعل عليّاً يتخذ هذا القرار المزلزل، متخليّا عن مدينة الرسول، ومتجاوزاً مكة التي وصفها القرآن بأم القرى؟ للمدينتين حضورهما الديني المهيب في الجزيرة، قبل وبعد الإسلام، وفيهما يعيش العقل الإسلامي. في المدينة، كما يحاجج الإمام مالك دائماً، دُفن عشرة آلاف من أصحاب النبي. ما الذي فعله علي؟ جرياً وراء الحكم أخذ الدولة إلى وكر التمرّد. ثمة أدلّة تاريخية كثيرة على أن أهل الكوفة خذلوا عليّاً بعد صفّين، ثم خذلوا الحسن في عام الجماعة، وتخلوا عن الحُسين سنة ٦١هـ، وتركوا زيد بن علي بن الحسين وأسلموه حين اشتد القتال[15]. يذهب عبدالقاهر البغدادي بعيداً في وصفه لأهل الكوفة، قائلاً إن روافضها موصوفون بالغدر والبخل، وأنهما عرفا بهاتين الصفتين حتى إنه ليقال أبخل من كوفي وأغدر من كوفي[16].

في عشرينيات القرن الهجري الأول توزّع الجند على أرض الكوفة بحسب بلدانهم، وتوزعت حوالي ١٢ قبيلة يمنية على ١٢ مطرح، وكانوا أغلبية. كل قبيلة أقامت لها مسجداً، وكانوا رجالاً بلا نساء[17]. وعندما انتقل الحكم من عمر إلى عثمان صارت الكوفة إلى بؤرة توتر. فهي أرض المقاتلة، وستصير أرضاً للفوضى، ومنها ستخرج موجات العصيان والتمرّد من الخوارج وحتى القرامطة، وغيرهم. إنها، بامتياز، أرض النمر.

حين التقى عليّ وعائشة، ودارت رحى الحرب بينهما، أدرك عليّ ورطته. فهو وإن تسمى بأمير المؤمنين إلا أنه، مقارنة بسابقيه، يحظى بأدنى قدر من الإجماع، وعلى كاهله دم خليفته. ولولا المقاتلون الذين هبوا لنجدته من الكوفة لما كان قادراً على إدارة الحرب، إذ تشير مصادر تاريخية كثيرة – سنية وشيعية- إلى تمكّن خصومه من حشد عدد أكبر من المقاتلين. ثمّة من يضع عدد جنوده بحدود العشرين ألفاً، وكان قد غادر المدينة بما دون الألف. كانوا حشداً من القبائل، المتمرّدين، الكوفيين، السبئيين، ومتدينين غلاة الطبع سينشقون عنه بعد أقل من عامين ليخلقوا الظاهرة التي عرفت بالخوارج. كان عليّ ينظر إلى ذلك الخليط الهجين من الناس ويناديهم “أنتم أعواني على الحق، بكم أضرب الـمُدبر”[18]. وكان الـمُدبر، في تقدير علي، هو دائماً خصم مسلم أدبر عن الحق، والحق في التعريف الهاشمي نظير السلطة. انحصرت معركة الرجل، كما تصفها كتب شيعته، في حرب الجهات الثلاث: الناكثين، القاسطين، المارقين. أي: أولئك الذين لم يقبلوا ادعاءه للخلافة، ويرون أنه من العار أن يعلن نفسه رئيساً بينما كبار القوم، من الفقهاء وعتاولة الصحابة وزوجات النبي، وزعماء العشائر، لا زالوا يتدارسون مسألة دم الخليفة.

عند نقطة معينة توقفت معركة الجمل، فأصيب المقاتلون الكوفيون بإحباط، وتشكلت بذرة تمرّد داخل جيش علي، وأخذت تتسع. عاتبه مناصروه لأنه لم يسمح له بسبي عائشة ومن معها، ولأنه لم يمض في المعركة حتى الأخير. كانت حرباً ضنّت عليهم بالفيء، المحرك الأعظم لمقاتلة الكوفة. اعتمد عليّ في حشده للناس على خطاب الحق، بالمعنيين الديني والأخلاقي، فانضم إليه المقاتلون وقد تيقّنوا أن قائدهم قد وضع أهدر دم خصومه وأموالهم. عقب انتهاء المعركة أوقف عليّ عملية السلب، ومنع سبي القتلى. إذ ذاك احتج عليه المقاتلة قائلين “كيف تحل لنا دماؤهم ولا تحل لنا أموالهم؟”[19].

تعقدت الأزمة مع رجاله حين ذهب أبعد من ذلك وراح يبشّر بعضهم بالنّار بعد أن تمكنوا من قتل خصومه[20]. نشأت موجة شك في أتون معركة الجمل وما بعدها، وكانت دوافعها أخلاقية. إذ تلاعب عليّ بالمسألة الأخلاقية دافعاً رجاله إلى الاعتقاد بأن الخصوم شرّ محض، وهي المعضلة التي لن يتمكن من حلّها حين يعرض عليه معاوية الصلح في صفّين، بعد الجمل بعام واحد. فقد كان قبول عليّ للصلح ضربة قاضية لمصداقيته عجز رجاله، المتدينون منهم على وجه الخصوص، عن استيعابها وهضمها أخلاقيّاً. وإن كانت المسألة لا تعدو كونها صراعاً حول السياسة فلماذا الحرب إذن، حاججه الحفّاظ والفقهاء وحتى المتمردون. ومن قبل، في الجمل، كان يوزّع النار على رجاله الذين ينجحون في قتل خصومه. شيئاً فشيئاً لاحظ الجنود أن الأمور ليست شديدة الوضوح في عقل قائدهم، أو أنه لا يدري ما يريد. وهي الرؤية التي ستكتمل مع انتقال السلطة إلى الحسن. فقد اعتمد خطاب قتلة عثمان على تجريم محاباة الحاكم لأسرته في مسألتي المال والنفوذ السياسي، الخطيئة نفسها التي أتى عليها عليّ مبكّراً، وأكملها بنقل السلطة الكاملة لولده. أمرٌ لم يجرؤ عثمان حتى على التفكير فيه.

كان عليّ يعلم تمام العلم أنه لا يملك جيشاً وإنما يركب ظهر النمر. ولكي لا تنفجر القنبلة في منزله فقد أخذ جيشه وذهب لقتال معاوية، ٣٧ للهجرة، مؤملاً أن تمنحه تلك الحرب ما ضنّت به معركة الجمل: السلب للرجال، والعرش له. آلت صفّين إلى هزيمة كبيرة لمشروع علي بن أبي طالب المتمثل في بسط نفوذه على الشام. فحتى تلك اللحظة كان عليّ ينعت نفسه بأمير المؤمنين، وكان معاوية يقدّم نفسه بوصفه والياً على الشام بقرار من خليفة شرعي، وهو الآن ولي دم القتيل. أن تنتهي معركة صفّين إلى صيغة سلام أو هدنة لهو نصر بالنسبة للرجل الذي كانت طموحاته حتى تلك الساعة دفع جيش علي إلى الكوفة ومنعه من اقتحام الشام. وبالنسبة لعلي فتلك كانت هزيمة نكراء، إذ تأكد لأول مرّة أنه سيكون خليفة على نصف البلاد أو أقل من نصفها، وذلك هو الكابوس الذي كان يخشاه.

في طريق عودته يضطرب الجيش، يتشاتم الجند[21] ، يتقاتلون، ثم يحدث شيء خطير. انشق حوالي اثنا عشر ألف مقاتل من جيش علي وذهبوا إلى حروراء، بالقرب من الكوفة، وسيطلق عليهم الحروروية أو الخوارج. رفضوا النتيجة التي آلت إليها الحرب، وأدركوا بحسهم الخاص إن دولة معاوية في طريقها إلى الاستقرار وأن عليّاً أضعف من أن يعيد الحق إلى نصابه، وفقاً لتعريفهم لمسألة الحق.

عرف الخوارج منذ اليوم الأول بالإرهاب والتطرف، لكن الحقيقة أنهم كانوا الجيش الذي قاتل به علي في الجمل وصفّين، ولأجلهم نقل العاصمة إلى الكوفة. كان عليّ هو المؤسس العملي لجيش الخوارج، دربهم على القتال، منح أفعالهم المشروعية الأخلاقية، ضرب بهم يمنة ويسرة، نعتهم بأفضل النعوت، وانتمى إليهم. وعندما صارت مملكته أصغر من تُقسهم على فريقين، بني هاشم والمرتزقة، تخلوا عنه. أزمة جديدة تحيط بالرجل الذي ترك مدينته راكضاً وراء الحكم، وإزاءها ألقى خطابه الشهير متوسلاً بقاء المقاتلة الخوارج إلى جواره، داعياً إياهم إلى العودة مجدداً لمحاربة الشام بعد فشل عملية التحكيم، قال لهم “لا نمنعكم الفيء ما دامت أياديكم إلى أيادينا”[22].

كان علي يعلم نوايا رجاله: الفيء. لا بد وأنه كان يتذكّر الجدل الذي أثاروه في واقعة الجمل: كيف تحلّ لنا دماؤهم ولا تحلّ لنا أموالهم. آنذاك لم يكن لديه من حل أخلاقي للمعضلة التي خلقتها الحرب. الآن، والحرب تضيّف عليه الخناق، أعلنها بشكل صريح: أحل لكم الفيء ما دامت أياديكم إلى أيادينا، كما يروي الطبري في تاريخه. أرسل الوسطاء ووعدهم بحرب جديدة ضد معاوية، وأنه سيكون بمقدورهم أن يمارسوا هوايتهم في السلب والنهب، غير أنهم رفضوا عروضه الأخيرة. ما كان يصلح للناس بعد صفّين ليس هو ما كان يناسبهم قبلها. لقد فقدوا ثقتهم بقيادته وحتى بإسلامه، وقبل أن تضع الحرب أوزارها كانت جماعة من جنده قد حكمت بكفره بما أنزل الله.

يروي ابن الأثير في الكامل أن عليّاً، وهو عائد من صفّين، التقى عبد الله بن وديعة الأنصاري فدنا منه وسلم عليه وسايره فقال له ما سمعت الناس يقولون في أمرنا؟ قال الأنصاري: منهم المعجب به ومنهم الكاره له. فسأله علي: قول ذوي الرأي؟ أجابه الأنصاري “يقولون إن علياً كان له جمع عظيم ففرقه، وكان له حصن حصين فهدمه”[23].

أخبره عبدالله بن وديعة ربما بما كان غائباً عنه من ذهنية العرب، قال له لو أنك قاتلت بمن بقي معك حتى تنتصر أو تهلك لكان ذلك هو الحزم. عاد من صفّين لا منتصراً ولا هالكاً، وقدّر رجاله ذلك بالذل، أو: الحصن المهدم، كما هي كلمات بن وديعة الأنصاري. تفهم العرب الحرب على طريقتها، وما فعله في صفّين لم يكن ضمن رؤية العرب للحرب لا أخلاقياً، إذ حاول النجاة قبل أن يكسب شيئاً، ولا عسكريّاً، فها هي النتيجة تعقّد كل شيء. غير أن ما سيزيد الأمر سوءاً هو تبرير علي بن أبي طالب لقبوله التحكيم “لقد هممت بالإقدام على القوم فنظرت إلى هذين قد ابتدراني – يعني الحسن والحسين- ونظرت إلى هذين استقدماني – يعني عبد الله بن جعفر ومحمد بن علي- فعلمت أن هذين إن هلكا انقطع نسل رسول الله صلى الله عليه وسلم من هذه الأمة، وكرهت ذلك وأشفقت على هذين أن يهلكا”[23]. خشي عليّ على أولاده وأولاد أخيه، وأمر بإيقاف الحرب. على الجانب الآخر كان معاوية يلتقي بكبار رجاله ويبلغهم نيته الدخول في عملية سلام مع خصمه كي لا يجد الروم والفرس فرصة للانقضاض على الشام والعراق. للرجلين دوافع مختلفة للسلام، ولا بد أن شعبي الرجلين كان على دراية بالطريقة التي يفكر بها القائدان. على الأقل هذا ما تفصح عنه كلمات بن وديعة الأنصاري وهو ينقل رأي العامة إلى أميرهم.

حدثت حرب النهروان بين علي والمنشقين من جيشه، الخوارج. استطاع أن ينزل بهم هزيمة نكراء وهم الذين نصبوه ملكاً، حالوا دون هزيمته أمام جيش عائشة، ومنعوه من الجيش القادم من الشام. كان معاوية خصماً سياسيّاً، وإن حاول عليّ تلوين صراعه مع معاوية بالصبغة الدينية، غير أن معركته مع الخوارج كان شأناً آخر، فقد وضعه الأخيرون في درجة المارق عن الدين. سيرد عليهم، هو ومن بقي معه، أيضاً بإخراجهم من الدين. الحرب التي وقعت بين الطرفين في حروراء كانت ضارية انتهت بفناء معسكر الخوارج، فقد كانت حرباً دينية خالصة.

—–
من كتاب: على مقام الصبا، طريق أبي الحسن من العزلة إلى النكسة
مروان الغفوري
—–

مصادر وهوامش:
1. ابن كثير، البداية والنهاية، الجزء السابع ص. ٢٦١
2. الطبري، تاريخ الرسل والملوك، الجزء الرابع، ص. ٤٥٦
3. ابن كثير، البداية والنهاية، الجزء السابع ص. ٢٦٢
4. الجاحظ، كتاب العثمانية. ص. ١٠-١١
5. الطبري، تاريخ الرسل والملوك، الجزء الرابع، ص. ٤٥٦
6. الرَّبذة مدينة تاريخية أثرية، تقع في شرق المدينة المنورة وتبعد عنها قرابة ١٧٠ كم. وهي إحدى محطات القوافل على درب زبيدة الممتد من العراق إلى مكة المكرمة.(المصدر: ويكيبيديا )
7. ابن كثير، البداية والنهاية، الجزء السابع ص. ٢٦٣
8. المصدر السابق. وهو أيضاً عند ابن الأثير، الكامل في التاريخ، الجزء الثالث، ص. ٢٢٧
9. المصدر السابق.
10. ابن كثير، البداية والنهاية، الجزء السابع ص. ٢٦٣
11. المرجع السابق. وهي عند الثقفي في الغارات، الجزء الثاني ص: ٩٢٣. وعند ابن الأثير في الكامل في التاريخ، ٢/٣٨ وغيرهم.
12. ابن قتيبة الدينوري، الإمامة والسياسة، الجزء الأول، ص: ٩٥. كذلك: ابن الأثير، الكامل في التاريخ، الجزء الثالث، ص: ٢٣٩. كما عند: ابن كثير، البداية والنهاية، الجزء السابع، ص: ٢٦٨.
13. ابن كثير، البداية والنهاية، الجزء السابع ص. ٢٦١
14. الطبري، تاريخ الطبري، الجزء الثالث، ص. ١٤٤-١٥٠
15. محمد إبراهيم الفيومي، الفرق الإسلامية وحق الأمّة السياسي. القاهرة. دار الشروق. ١٩٩٨. ص. ١٠٤-١٠٥
16. عبدالقاهر البغدادي، الفرق بين الفرق ص. ٣٧.
17. الطبري، تاريخ الطبري، الجزء الثالث، ص. ١٤٤-١٥٠
18. ابن الأثير، الكامل في التاريخ، الجزء الثاني، ص. ٢٤٠
19. ابن كثير، البداية والنهاية، الجزء السابع، ص٢٤٤. كذلك: الطبري، تاريخ الطبري، الجزء الخامس، ص٢٢٣.
20. ذكر أحمد بن حنبل في كتاب فضائل الصحابة (٢/ ٧٣٦ – ٧٣٧) : جاء قاتل الزبير يستأذن، فجاء الغلام فقال هذا قاتل الزبير، فقال عليّ: ليدخل قاتل الزبير النار. و جاء قاتل طلحة يستأذن فقال الغلام: هذا قاتل طلحة يستأذن، فقال عليّ: ليدخل قاتل طلحة النار.
21. ابن الأثير، الكامل في التاريخ، الجزء الثالث، ص. ٣٢٢
22. الطبري، تاريخ الطبري، الجزء الخامس، ص.٦٤
23. ابن الأثير، الكامل في التاريخ، الجزء الثالث، ص. ٣٢٣
24. ابن الأثير، الكامل في التاريخ، الجزء الثالث، ص. ٣٢٣- ٣٢٤. كذلك عند ابن مزاحم المنقري في وقعة صفّين، ص. ٥٣٠. وعند الطبري في تاريخ الرسل والملوك، الجزء الخامس، ص. ٦١

يمكنك دعم الموقع من هنا
مؤسسة ندى لحماية الفتيات

‫25 تعليقات

  1. علي وبَغيُ معاوية (2)

    وعمار كان ميزان حقٍ في تلك الحروب، وقد روى الحاكم النيسابوري في مستدركه أن حذيفة بن اليمان سُئِل: ما سمعت من رسول الله (ص) في الفتنة قال حذيفة : قال رسول الله (ص) : “دوروا مع كتاب الله حيث ما دار” فقلنا : فإذا إختلف الناس فمع من نكون، فقال : “أنظروا الفئة التى فيها إبن سمية فإلزموها فإنه يدور مع كتاب الله”، قال : قلت : ومن إبن سمية قال : أو ما تعرفه قلت : بينه لي قال عمار بن ياسر : سمعت رسول الله (ص) : يقول لعمار : “يا أبا اليقظان لن تموت حتى تقتلك الفئة الباغية”.

    وحديث الفئة الباغية نقله معظم المحدثين بأسانيد صحيحة، وأخرجه البخاري بالصيغة التالية: “ويح‏ ‏عمار ‏ ‏تقتله الفئة ‏الباغية ‏يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار” وفي رواية أخرى أوردها البخاري “…يدعوهم إلى الله ويدعونه إلى النار”.

    ونلاحظ خطورة المسألة هنا إذ أنها مرتبطة بالبغي والدعوة إلى النار، والقرآن نهى عن البغي في عدة مواضع كما في قوله تعالى:”إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ”، وهو من المُحرّمات كما هو حال الفواحش لقوله تعالى:”قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ…”

    لذلك فإن الأقلية من الصحابة الذين اعتزلوا تلك المعركة قد يصح فيهم وصفُ علي فيمن اعتزل القتال وامتنع عن نُصرته :”أولئك قومٌ خذلوا الحق، ولم ينصروا الباطل”، وغنيٌ عن القول أن من نَصَرَ الحق أصح موقفاً ممن خذله، وإن لم ينصر الباطل.

    و ينبغي التنبيه هنا إلى أن خذلان هؤلاء للحق قد يصُبُّ في نهاية الأمر لمصلحة الباطل، إذ كثيراً ما يتسبب أصحاب المواقف الرمادية بتخاذل الناس عن نُصرة الحق ويسوغ لهم السكوت عن الباطل، ويُعجِبُني هنا قول سلمان الفارسي: “لو كُنتَ في أقصى تسعة أبيات؛ كنتَ مع إحدى الطائفتين!” [مصنف ابن أبي شيبة 38416]

    وقد استغل الإعلام الأموي موقف هؤلاء المعتزلين للتشكيك في شرعية علي، وما زال الكثير ممن يتناولون أحداث تلك الفترة -بمن فيهم مُفكرين كبار- ينخدعون بالموقف الرمادي لهؤلاء، ويقدمونه على أنه الموقف الأصح والاجتهاد الأصوب. ولا عَجَبَ بعدئذٍ أن يكون هؤلاء أنفسهم من أصحاب المواقف الرمادية، ولا عَجَبَ أن أمتنا ما زالت ترزحُ تحت نير الاستبداد والظُلم.

    ويجدر التنويه هنا إلى ندم بعض الصحابة الذين اعتزلوا تلك الحرب -بِحجة التورع عن سفك دماء المسلمين- على تخاذلهم وتقصيرهم في نُصرة علي الذي كان يحمل لواء الحق ويمثل مبادئ الإسلام في تلك المعركة المصيرية، وقد روي عن سعد بن أبي وقاص قوله عندما ذُكِرَ لهُ أن عليّاً ذمَّ اعتزاله، فقال سعد: والله إنه لرأيٌ رأيته، وأخطأَ رأيي، إن علي بن أبي طالب أُعطي ثلاثاً لأن أكون أُعطيت إحداهنّ أحبُّ إلي من الدنيا وما فيها، ثم أخذَ سعد يُعددُ مناقب علي، وكأنه يشير بذلك إلى أن رجلاً بمكانة علي وفضله في الإسلام ما كان ينبغي له أن يتخلف عن نصرته.

    وقد أبدى عبد الله بن عمر نَدَمهُ الشديد حين حضره الموت على تفريطه في قتال الفئة الباغية مع علي، وروي عنه قوله: ما آمنُ على شيءٍ إلا أني لم أُقاتل مع علي بن أبي طالب الفئة الباغية. [أُسد الغابة في معرفة الصحابة لابن الأثير 883]

    وقال الشعبي: ما ماتَ مسروق حتى تاب إلى الله عن تخلّفه عن القتال مع علي. [الاستيعاب في معرفة الأصحاب لابن عبد البر 535]

    قُلت: أُنظر كيف وصف ندمه على ذلك فقال “حتى تاب إلى الله عن تخلّفه عن القتال مع علي” وكأنّ التخلف عن نُصرة علي ذنبٌ يوجِبُ الاستغفار والتوبة، وقد أصابَ فيما قال وصَدَق.

    من سلسلة “الرد الصريح على النصب القبيح”

    ✍🏻 نور الدين سعد الرفاعي

  2. علي وبَغيُ معاوية (1)

    قال الناصبي : “خاض الحرب الأهلية الثانية ضد مسلمي الشام هذه المرّة، بعد حربه مع مسلمي الحجاز.”

    وهذا ردي عليه:

    ثم تُتابع هَذرك فتقول أن علياً خاض حربه الأهلية الثانية ضد مسلمي الشام. ولا تذكر أن معاوية بخروجه وبغيه قد تسبب بتلك الحرب، إذ ليس من العدل أن نُحمّل علياً مسؤولية الآلاف ممن قُتلوا في معاركه ضد من تمرد على السلطة الشرعية طلباً للمُلك، إنما يتحملها من خرج عليه باغياً بغير وجه حق، ورفض الاستجابة لكل مساعي علي الدبلوماسية لإنهاء الفتنة. والواجبُ بعد ذلك كان يُحتّم على علي أن يخوض المعارك لإنقاذ الدولة من التفكك والخلافة الراشدة من الانهيار وإلا لكان مُقصراً، فلا تُحمّله مسؤولية ما وقع إلا إذا كُنتَ ستُحمِلُ أبا بكر مسؤولية عشرات الألوف ممن قُتِل في ما سُمي بحروب الردة، بمن فيهم المئات من الصحابة حفظة القرآن حتى خُشي على القرآن أن يضيع باستشهاد حفظته.

    لقد حاول علي بشتى الطرق الدبلوماسية أن يُثني معاوية عن غَيّه وبغيه وخروجه على جماعة المسلمين وتهديد وحدتهم، وامتدت المراسلات الشهيرة بينه وبين معاوية شهوراً طويلة، حتى سَئِمَ جيشُ علي من انتظار المسير إلى معاوية، واستبطأ أصحابه إذنه لهم في القتال وظنّ بعضهم أنه يهابُ لقاء أهل الشام، فقال لهم:
    “أمّا قولكم أكُلُّ ذلك كراهيةَ الموت فوالله ما أُبالي أدخلتُ إلى الموتِ أو خرج الموتُ إلي. وأما قولكم شكاً في أهل الشام فوالله ما دفعتُ الحرب يوماً إلا وأنا أطمعُ أن تلحقَ بي طائفةٌ فتهتدي بي وتعشو إلى ضوئي. وذلك أحبُّ إلىّ من أن أقتلها على ضَلالها وإن كانت تبوءُ بآثامها”. [نهج البلاغة 104]

    وعندما أشار عليه أصحابه بأن يتهيأ لحرب أهل الشام بعد أن أرسل إليهم جريراً بن عبد الله البَجَلي يدعوهم إلى البيعة والجماعة، أبدى لهم علي توجسه من أن يكون في ذلك إفسادٌ للحل الدبلوماسي الذي كان يأملُ فيه، فقال: “إنّ استعدادي لحرب أهل الشام وجريرٌ عندهم إغلاقٌ للشام، وصرفٌ لأهله عن خيرٍ إن أرادوه (أي أن حشده للجيوش وسيره باتجاه الشام وجريرٌ عندهم إغلاقٌ لأبواب السِلم إن أرادوا أن يجنحوا له) ، ولكن قد وَقَتُّ لِجرير وقتاً لا يُقيمُ بعده إلا مخدوعاً أو عاصياً (أي أنه حدد لجرير مهلةً معينة لإنجاز مهمته)، والرأيُ عندي مع الأناة (أي التأني)، فَأروِدُوا (أي سيروا بِرفق) ولا أكرهُ لكم الإعداد (أي تجهيز السلاح ونحوه دونَ المسير)”. [نهج البلاغة 1/94 ]

    وقد استخدم علي الدبلوماسية حتى اللحظة الأخيرة قبل نشوب المعركة إذ أرسل كتاباً لمعاوية كان مما جاء فيه :”ألا وإني أدعوكم لكتاب الله وسنة نبيه، وحقن دماء هذه الأمة، فإن قبلتم أصبتم رُشدكم واهتديتم لِحَظكم، وإن أبيتم إلا الفُرقة وشق عصا هذه الأمة فلن تزدادوا من الله إلا بعداً، ولن يزداد الرب عليكم إلا سخطاً”، فرد عليه معاوية متحدياً ببيت من الشعر :”أما بعد فإنه: ليس بيني وبين قيسٍ عتاب *** غير طعن الكلى وضرب الهام”.

    أمام هذا الرد الذي تنضح منه العصبية القبلية الجاهلية لم يبقَ أمام علي سوى استخدام القوة، ليس فقط حفاظاً على وحدة الدولة، ولكن لأن علي كان يمثل فلسفة مغايرة للحكم تقوم على مبادئ الإسلام في إقامة العدل والمساواة والأخذ بالشورى، أما معاوية فقد أراد إقامة ملك دنيوي جبري متسلط يستند على عصبية قبلية لا تعبأ لا بالعدل ولا بالشورى. وسكوتُ علي عن مثل هذا الانحراف الخطير الذي جسّدهُ مشروعُ معاوية كان سيُمثّلُ تفريطاً وتخليّاً عن مبادئ الإسلام في الحُكم. لذلك روي عن علي قوله قبل المسير إلى صفين: “ولقد ضربتُ أنف هذا الأمر وعينيه، وقلّبت ظهره وبطنه، فلم أرَ لي إلا القتال أو الكفر”.[جاء في شرح نهج البلاغة: وقوله أو الكفر من باب المبالغة، وإنما هو القتال أو الفِسق، لِأنَّ النهي عن المنكر واجبٌ على الإمام، ولا يجوزُ له الإقرار عليه، فإن تَرَكَهُ فَسَق، ووجبَ عزلُه عن الإمامة فسَمّى الفِسقَ كُفراً تغليظاً وتشديداً في الزجر عنه]. ولذلك كانت معركة الإمام علي على وجهٍ من الوجوه امتداداً لمعركة النبي محمد مع قريش المتمردة بروحها القبلية على مبادئ الإسلام.

    لقد وقف معظم الصحابة الأوائل إلى جانب علي في تلك المعركة المصيرية، إذ قاتل ما بين ثلاثمائة إلى ثمانمائة من الصحابة الرضوانيين (أي الذين بايعوا النبي (ص) تحت الشجرة في الحديبية ونزل فيهم قوله تعالى:”لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ”) على تفاوتٍ في تقدير أعدادهم بحسب الروايات، وفيهم معظم من تبقى من البدريين (تقدرهم بعض الروايات بمئتين) وقد كانوا النواة الصلبة للإسلام، كل هؤلاء الصحابة استماتوا في القتال إلى جانب الإمام الشرعي الممثل للمبادئ الإسلامية في الحكم وكادوا أن يحققوا النصر. وقد كان من أهم الصحابة الذين حاربوا بحماسٍ إلى جانب الإمام علي الصحابي الجليل عمار بن ياسر، وكان يرتجز في صفين: نحن ضربناكم على تنزيله واليوم نضربكم على تأويله، ضرباً يُزيل الهامَ عن مقيله ويُذهِلُ الخليل عن خليله، أو يُرجِع الحقّ إلى سبيله.

    من سلسلة “الرد الصريح على النصب القبيح”

    ✍🏻 نور الدين سعد الرفاعي

  3. علي ومعركة صفين (1)

    أراد الناصبي أن يوهم القُرّاء أن علياً خسر معاركه لافتقاره للخبرة العسكرية والكاريزمة القيادية -بزعمه-، رغم أن علي قد انتصر بشكلٍ حاسم في معركتي الجمل والنهروان وكاد أن يحسم المعركة في صفين لولا خُدعة رفع المصاحف التي أنقذت معاوية من الهزيمة الشاملة.

    تحدثنا عن مَسلك علي في معركة الجمل وقدرته على حسم المعركة في أقلِ من يوم بمزيجٍ من العمل الدبلوماسي قبل نشوب القتال والبراعة العسكرية في الميدان، رغم خطورة التحالف الذي واجهه وكان على رأسه قيادات كبيرة كطلحة والزبير وأم المؤمنين عائشة.

    ولقد أدار علي معركة صفين أيضاً بكفاءة واقتدار، بدءاً من إيضاح الهدف والغاية من مسيره للقاء معاوية، مروراً بتوصياته وتعليماته لجنوده وقادته سواءً على صعيد الالتزام الأخلاقي والانضباط العسكري وصولاً إلى خطة المعركة على صعيد التكتيك والاستراتيجيا. وكاد علي أن يحقق النصر الحاسم في هذه المعركة رغم دهاء خصومه وقتالهم في أرضٍ يعرفونها جيداً، قريبةً من مراكز إمدادهم المشحونة بجيشٍ اكتسب خبرته من مواجهة الروم في عهد عمر وعثمان.

    أرسل علي طلائع جيشه أمامه في طريقه إلى صفين وأوصى قائلاً : “إيّاك أن تبدأ القوم بقتال إلّا أن يبدؤوكَ حتى تلقاهم فتدعوهم وتسمع منهم، ولا يحملك بغضُهم على قتالهم قبل دعائهم والإعذار إليهم مرّة بعد مرّة” “ولا تدنُ منهم دنو من يريد أن يُنشب الحرب، ولا تباعَد منهم تباعُد من يهاب البأس”. [الكامل في التاريخ لابن الأثير 3/279]

    ثم أوصى علي جيشه قبل لقاء العدو بصفين فقال:
    “لا تقاتلوهم حتى يبدأوكم، فإنكم بحمد الله على حُجة وترككم إياهم حتى يبدأوكم حُجة اخرى لكم عليهم. فإذا كانت الهزيمة بإذن الله فلا تقتلوا مُدبراً ولا تُجهزوا على جريح ولا تكشفوا عورة ولا تمثلوا بقتيل، ولا تهيجوا امرأة بأذى”.

    ومن تعليماته لجنوده على صعيد تكتيكات القتال:
    “قدّموا الدّارع وأخروا الحاسر وعضوا على الأضراس فإنه أنبى للسيوف عن الهام، والتووا في أطراف الرماح فإنه أصون للأسنة، وغضوا الأبصار فإنه أربطُ للجأش وأسكنُ للقلب، وأميتوا الأصوات فإنه أطردُ للفشل وأولى بالوقار، راياتكم لا تميلوها ولا تزيلوها ولا تجعلوها إلا بأيدي شجعانكم”.

    ثم رسم لهم علي خطة المعركة واستراتيجيتها “..وعليكم بهذا السواد الأعظم (يقصد جمهور أهل الشام) والرواق المطنّب (يقصد رواق معاوية) فاضربوا ثَبَجه فإن الشيطان كامنٌ في كِسرِهِ، قد قدَّم للوثبة يداً وأخَّر للنكوص رجلاً. فصَمْداً صَمْداً حتى ينجلي لكم عمود الحق..” [نهج البلاغة 1/115]

    ويبدو من ذلك أن علي أراد أن يوجه ثقله العسكري إلى قلب جيش معاوية حيث مركز القيادة، كي يحسم المعركة بشكلٍ سريع كما فعل في البصرة حين أمر جنوده بِعَقْرِ الجمل. ولقد دعا علي معاوية مِراراً إلى المبارزة كي يحقن الدماء ويحسم المواجهة بأقل الخسائر، إلا أن معاوية كان يتهرّب دوماً من مواجهته، خوفاً من سيف علي الذي ما بارز أحداً إلا صرعه.

    وقد شارك علي جنوده في ساحات الوغى وقذف بنفسه في الأخطار بشجاعةٍ نادرة، وروي أنه كان يخرج فيضرب بالسيف حتى ينحني، ثم يجيء فيقول : معذرة إلى الله وإليكم، والله لقد هممت أن أقلعه ولكن يحجزني عنه أني سمعت رسول الله (ص) يقول : “لا سيف إلا ذو الفقار ولا فتى إلا علي” . فيأخذه فيصلحه ثم يرجع به. [البداية والنهاية لابن كثير ]

    من سلسلة “الرد الصريح على النصب القبيح”

    ✍🏻 نور الدين سعد الرفاعي

  4. مسير علي إلى البصرة (1)

    بإمكاننا أن نعُدّ خروج طلحة وعائشة والزبير واستيلائهم على البصرة تمرداً قرشياً على خلافة علي، خصوصاً مع الدعم الذي تلقاه هذا التمرد من زعماء بني أمية وولاتهم كمروان بن الحكم ويعلى بن أمية وعبد الله بن عامر.

    يروي عبد الله بن العباس أنه دخل على أمير المؤمنين علي بذي قار وهم في طريقهم إلى البصرة فوجده يخصف نعله، فسأله علي: ما قيمة هذا النعل. فأجاب ابن عباس: لا قيمة لها. فقال علي:”والله لَهِىَ أحبُّ إليّ من إمرتكم إلا أن أُقيم حقّاً أو أدفع باطلاً”.
    ثم خرج وخطب بجيشه فكان فيما قال:”…فلأَنقُبَنَّ الباطل حتى يخرُج الحقُّ من جَنبه. مالي ولقريش والله لقد قاتلتهم كافرين ولأُقاتلنهم مفتونين. وإني لصاحبهم بالأمس كما أنا صاحبهم اليوم…” [نهج البلاغة 80]

    كان علي يدرك خطورة هذا التمرد القُرشي إن تركه يتسع حتى يُخرِج العراق وربما ما وراء العراق عن سُلطة الخلافة، خصوصاً أن على رأسه قيادات كبيرة ولها وزنها وتأثيرها، وقد قال في خطبته حين نهوضه إلى الجمل يشكو ذلك:”..وإني بُليت بأربعة: أدهى الناس وأسخاهم طلحة، وأشجع الناس الزبير، وأطوع الناس في الناس عائشة، وأسرع الناس إلى فتنة يعلى بن مُنية، والله ما أنكروا علي شيئاً مُنكراً ولا استأثرت بمال، ولا ملتُ بهوى، وإنهم ليطلبون حقاً تركوه، ودماً سفكوه (يشير إلى تحريضهم على عثمان ومشاركة طلحة في حصاره)…”[الاستيعاب في معرفة الأصحاب لابن عبد البر 360].
    ولذلك بادر علي بالخروج من الحجاز إلى البصرة كي يردع القوم عن التمادي في تمردهم، ولكنه حاول في نفس الوقت أن يتجنب المواجهة معهم قدر المستطاع كي لا يتسع خرق الفتنة، ويبدو انه كان يأمل بالتفاوض معهم وحل الأمر بشكل دبلوماسي دون عملٍ عسكري.

    روي أنّ الحسن بن علي عاتب أباه حين همّ بالخروج إلى البصرة، فقال: “يا أبتِ أشرتُ عليكَ حين قُتِل عثمان وراح الناس إليك وغدوا، وسألوك أن تقوم بهذا الأمر ألا تقبله حتى تأتيك طاعة جميع الناس في الآفاق، وأشرتُ عليك حين بلغك خروج الزبير وطلحة بعائشة إلى البصرة أن ترجع إلى المدينة فتقيم في بيتك، وأشرتُ عليك حين حوصر عثمان أن تخرج من المدينة، فإن قُتِل قُتِل وأنت غائب، فلم تَقبَل رأيي في شيء من ذلك”.
    فقال له علي: “أما انتظاري طاعة جميع الناس من جميع الآفاق، فإن البَيعة لا تكون إلا لمن حضر الحَرَمين من المهاجرين والأنصار، فإذا رَضُوا وسَلّموا وجب على جميع الناس الرضا والتسليم، وأما رجوعي إلى بيتي والجلوس فيه، فإن رجوعي لو رجعت كان غَدراً بالأُمّة، ولم آمن أن تقع الفُرقة وتتصدع عصا هذه الأُمّة، وأما خروجي حين حوصِرَ عثمان فكيف أمكنني ذلك؟! وقد كان الناس أحاطوا بي كما أحاطوا بعثمان، فاكفُفْ يا بُنيّ عما أنا أعلم به منك”. [الأخبار الطوال لأبي حنيفة الدينوري 146]
    وفي رواية أنه قال: أما قولك أني أخرج قبل مقتل عثمان فلقد أُحيط بنا كما أُحيط به، وأما مبايعتي قبل مجيء بيعة الأمصار فكرهتُ أن يضيعَ هذا الأمر، وأما أن أجلس وقد ذهب هؤلاء إلى ما ذهبوا إليه. فتريدني أن أكون كالضبع التي يحاط بها، ويقال: ليست ها هنا، حتى يُحَلّ عرقوبها فتخرج، فإذا لم أنظر فيما يلزمني من هذا الأمر ويعنيني، فمن ينظر فيه؟ [البداية والنهاية لابن كثير 1133]

    وروي أنه لما عزم علي على السير من الربذة قام إليه ابن لرفاعة بن رافع، فقال: يا أمير المؤمنين أي شيء تريد؟ وأين تذهب بنا؟ فقال: أما الذي نريد وننوي فالإصلاح، إن قبلوا منا وأجابونا إليه، قال: فإن لم يجيبوا إليه؟ قال: ندعهم بغدرهم ونعطيهم الحق ونصبر. قال: فإن لم يرضوا؟ قال: ندعهم ما تركونا، قال: فإن لم يتركونا؟ قال: امتنعنا منهم، قال: فنعم إذاً. فقام إليه الحجاج بن غزية الأنصاري فقال: لأرضينك بالفعل كما أرضيتني بالقول، والله لينصرنّي الله كما سمانا أنصارا. [البداية والنهاية لابن كثير 1133]

    من سلسلة “الرد الصريح على النصب القبيح”

    ✍🏻 نور الدين سعد الرفاعي

  5. علي ومعركة الجمل (3)

    وأرسل علي محمد بن أبي بكر يتفقد أخته عائشة، فقال: يقول لك أمير المؤمنين هل أصابك شيء؟ قالت: ما أصابني إلا سهمٌ لم يضرني، فجاء علي حتى وقف عليها، فضرب الهودج بقضيب، وقال: يا حميراء، رسول الله أمركَ بهذا؟ ألم يأمرك أن تقري في بيتك؟ والله ما أنصفكِ الذين أخرجوكِ إذ صانوا عقائلهم وأبرزوكِ، وأمر أخاها فأنزلها في دار صفية بنت الحارث بن طلحة العبدي. [مروج الذهب للمسعودي 2/286]

    وروى عبد الله بن أحمد بإسناده عن المديني، أن عمار بن ياسر قال لعائشة لما فرغوا من الجمل: ما أبعد هذا المسير من العهد الذي عُهِدَ إليكم (يشير إلى قوله تعالى في أزواج النبي: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} ). فقالت: أبو اليقظان؟ قال: نعم. قالت: والله إنك – ما علمت – لقوالٌ بالحق. قال: الحمد لله الذي قضى لي على لسانك. [تاريخ الأمم والملوك للطبري 834]

    وخرجت عائشة من البصرة، وقد بعث معها علي أخاها عبد الرحمن بن أبي بكر وثلاثين رجلاً وعشرين امرأة من ذوات الدين ألبسهن العمائم وقلدهن السيوف، وقال لهن: لا تُعلِمنَ عائشة أنكن نسوة وتلثَّمنَ كأنكن رجال، وكُنَّ اللاتي تلين خدمتها وحملها، فلما أتت المدينة قيل لها: كيف رأيتِ مسيرك؟ قالت: كُنتُ بخير والله، لقد أعطى علي بن أبي طالب فأَكثر، ولكنه بعث معي رجالاً أنكرتهم، فعرفها النسوة أمرهن، فسجدت وقالت: ما ازددتَ والله يا بن أبي طالب إلا كَرماً، وودتُ أني لم أخرج وإن أصابتني كيت وكيت من أمورٍ ذَكرَتها [شاقة]، وإنما قيل لي: تخرجين فتصلحين بين الناس، فكان ما كان. [مروج الذهب للمسعودي 2/289]

    ونَدِمَت عائشة أشدّ الندم على خروجها وكانت كلما تذكرت يوم الجمل بكت، وروي أنها قالت:”وددتُ أني كنتُ ثكلتُ عشرةً مثل الحارث بن هشام، وأني لم أسِر مسيري مع ابن الزبير”. [المستدرك على الصحيحين – رواية 4670]

    وكانت عائشة تقول: ما أنا وطلحة والزبير وبيعة من بويع وحرب من حورب، يا ليتني قررتُ في بيتي، ولكنها بليةٌ جاءت بمقدار.
    وكانت تقرأ “وَقَرۡنَ فِی بُیُوتِكُنَّ” فتبكي حتى تبلّ خمارها. [أنساب الأشراف للبلاذري 3/60]

    وروى ابن عساكر بإسناده عن جميع بن عمير: أنّ أمه وخالته دخلتا على عائشة، فقالتا: يا أم المؤمنين أخبرينا عن علي، قالت: أيّ شيء تسألن عن رجلٍ وضع يده من رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم موضعاً فسالت نفسه في يده فمسح بها وجهه واختلفوا في دفنه، فقال: انّ أحبّ البقاع إلى الله مكان قبض فيه نبيه، قالت: فلِمَ خرجتِ عليه؟ قالت: أمرٌ قضى و لوددت أن أفديه بما على الأرض.

    روي عن أبي ثابت مولى أبي ذر، قال: كنتُ مع علي -رضي الله عنه- يوم الجمل، فلما رأيتُ عائشة واقفة دخلني بعضُ ما يدخل الناس، فكشفَ الله عني ذلك صلاة الظهر، فقاتلتُ مع أمير المؤمنين، فلما فرغَ ذهبتُ إلى المدينة، فأتيتُ أم سلمة، فقلت: إنّي والله ما جئت أسألُ طعاماً ولا شراباً ولكني مولى لأبي ذر، فقالت: مرحباً فقصصتُ عليها قِصتي، فقالت: أين كنت حين طارت القلوبُ مطائرها؟ قلتُ: إلى حيثُ كشف الله ذلك عني عند زوال الشمس، قالت: أحسنت، سمعتُ رسول الله (ﷺ) يقول:”عليٌّ مع القرآن، والقرآنُ مع علي لن يتفرقا حتى يردا علي الحوض”. [المستدرك على الصحيحين – رواية 4687]

    لقد كان خروج طلحة وعائشة والزبير وتمردهم على الخليفة الشرعي علي بن أبي طالب عملاً كارثياً بكل المقاييس. إنهم لم يبلغوا شيئاً من أخذ الثأر لعثمان، بل لم يزيدوا عن أن وسعوا نطاق الفتنة وأفسدوا على علي مشروعه بإعادة إصلاح الخلافة، ومهدوا بفعلهم ذلك دون أن يشعروا لمشروع خصمه معاوية، الذي أراد أن يدفن الخلافة الراشدة ويقيم مكانها مُلكاً دنيوياً جبرياً عضوضاً استمرت آثاره السلبية على الأمة إلى يومنا هذا.

    من سلسلة “الرد الصريح على النصب القبيح”

    ✍🏻 نور الدين سعد الرفاعي

  6. الدكتور عبدالمجيد محمد الغيلي في كتابه بعنوان نقد القراءه الحديثه لتاريخ الصحابه مقالات الغفوري نموذجا
    فضح خزعبلاتك وطريق تدليسك وزورك ورد عليك بطرق علميه وبين للقراء طرق خداعك والكذب علي الامام البخاري ومسلم والطبري والامام ابن تميه وابن حجر وغيرهم الكثير في ما نقلته عنهم افتريت عليهم به بستدالك بكلامهم وتحريفه او اجتزاء منه ما يتناسب مع مقالاتك افترائاتك

  7. اكذب ثم اكذب حتي تصدق نفسك المريضه التى تحس بحاله نقص وتكملها بكذبك وتدليسك وتأتي بمصادر غير حقيقه لتوهم القراء انك تنقل الحقيقه وهي ليست كذالك إنما هذا مرض بداخلك تعاني من كبت وحاله نقص في شخصيتك
    نسال الله لك الشفاء من ما ابتلاك به حسبك الله ونعم الوكيل

  8. بيعة علي (2)

    روى الطبري بإسناده أن المهاجرين والأنصار وفيهم طلحة والزبير اجتمعوا بعد مقتل عثمان فأتوا علياً فقالوا: يا أبا الحسن، هلم نبايعك. فقال: لا حاجة لي في أمركم، أنا معكم فمن اخترتم فقد رضيت به فاختاروا، فقالوا: والله ما نختار غيرك. واختلفوا إليه مراراً بعدما قُتِل عثمان، ثم أتوه في آخر ذلك، فقالوا له: إنه لا يصلح الناس إلا بإمرة، وقد طال الأمر. فقال لهم: إنكم قد اختلفتم إلي وأتيتم، وإني قائلٌ لكم قولاً إن قبلتموه قَبِلتُ أمركم، وإلا فلا حاجة لي فيه. قالوا: ما قُلتَ من شيءٍ قبلناه إن شاء الله. فجاء فصعد المنبر، فاجتمع الناس إليه، فقال: إني قد كُنتُ كارهاً لأمركم، فأبيتم إلا أن أكون عليكم، ألا وإن ليس لي أمرٌ دونكم، إلّا أنّ مفاتيح مالكم معي، ألا وإنه ليس لي أن آخُذَ منها درهماً دونكم، رضيتم؟ قالوا: نعم، قال: اللهم اشهد عليهم، ثم بايَعهم على ذلك.

    كان علي واضحاً منذ البداية بأنه سيكون صارماً في تحري العدل بسياسته المالية التي لا تحابي أحداً، حتى وإن تسبب ذلك له بالمتاعب والصعوبات.

    وقد روي عنه قوله: “ألا إنّ كل قطيعةٍ أقطعها عثمان، وكلّ ما أعطاه من مال الله، فهو مردودٌ في بيت المال، فإنّ الحقّ لا يُبطله شيء، ولو وجدتُه قد تزوّج به وفُرّق في البلدان لرددته. فإنّ العدل في سعة. ومن ضاق عليه الحق فالجور عليه أضيق”. [نهج البلاغة الخطبة 15 -1]

    وأعلن علي بأنه لن يتهاون في إقامة العدل وإنصاف المظلومين فقال: “وأيمُ الله لأنصفنّ المظلوم من ظالمه ولأقودنّ الظالم بخُزامته حتى أُورده منهلَ الحق وإن كان كارهاً” [نهج البلاغة الخطبة 136 -2]

    إنّ إحساس علي بالمسؤولية وحرصه على مصالح المسلمين وخوفه من أن تستمر الفوضى وتتسع اضطره إلى قبول البيعة، بعد أن أقام على رفضها ثلاثة أيام وقيل بل أكثر. وكان من الوارد أن تصير الأمور إلى ما هو أسوأ كأن يقفز أحد أدعياء بني أمية (مثل مروان أو معاوية) فينتزع السلطة لو أن علياً لم يقبل بيعة الناس له. وقد روي عن علي أنه قال: “والله ما تقدمتُ عليها (أي الخلافة) إلا خوفاً من أن ينزوَ على الأمر تيسٌ من بني أمية، فيلعب بكتاب الله عز وجل”. [أنساب الأشراف للبلاذري 3/353]

    وقد وصف علي بيعته وإقبال الناس عليها، فقال:”فتداكّوا عليَّ تداكَّ الإبل الهيم (أي العطشى) يوم وِردِها (أي تزاحموا عليه ليبايعوه رغبةً فيه) قد أرسلها راعيها وخُلِعت مثانيها (جمع المثناة وهي حبلٌ من صوف أو شعر يعقل به البعير) حتى ظننتُ أنهم قاتليَّ أو قاتلُ بعضٍ لدي. وبلغ من سرور الناس ببيعتهم إياي أن ابتهج بها الصغير وهدجَ إليها الكبير وتحامَلَ نحوها العليل، وحَسَرت إليها الكِعاب”. [نهج البلاغة 2/222]

    “فبايعتكم على كتاب الله وسنة نبيه، ودعوتُ الناس إلى بيعتي، فمن بايعني طائعاً قبلته، ومن أبى تركته، فكان أول من بايعني طلحة والزبير، فقالا: نبايعك على أنّا شركاؤك في الأمر فقلت: لا، ولكنكما شركائي في القوة، وعوناي في العجز، فبايعاني على هذا الأمر، ولو أبيا لم أُكرِههما، كما لم أُكره غيرهما…” [مستدرك نهج البلاغة 141]

    ولم يُجبر علي أحداً على مبايعته، إذ ترك سعد بن أبي وقاص وعبد الله بن عمر وأسامة بن زيد وقد امتنعوا عن بيعته واعتزلوه فلم يُكرههم على شيء. وقال في وصفهم:”أولئك قعدوا عن الحق، ولم ينصروا الباطل”.

    وقد تحدث خُفاف بن عبد الله الطائي لمعاوية عن بيعة الناس لعليٍ فقال: “ثم تهافتَ الناس على علي بالبيعة تهافُت الفراش، حتى ضاعت النعل وسقط الرِداء، ووطئ الشيخ، ولم يَذكُر عثمان ولم يُذكَر له، ثم تهيأ للمسير وخفّ معه المهاجرون والأنصار، وكره القتال معه ثلاثة نفر: سعد بن مالك، وعبد الله بن عمر، ومحمد بن مسلمة. فلم يستكره أحداً، واستغنى بمن خفّ معه عمن ثقل…فسار إلى البصرة فهي في كَفِّه، ثم قدم إلى الكوفة، فحُمل إليه الصبي، ودَبّت إليه العجوز، وخرجت إليه العروس فرحاً به، وشوقاً إليه، فتركته وليس همه إلا الشام “. فذُعِرَ معاوية من قوله. [وقعة صفين لنصر بن مزاحم 65]

    وبايعت كافة أقطار المسلمين علياً بن أبي طالب باستثناء الشام التي كان فيها معاوية، والذي أعلن حربه على الإمام علي منذ اللحظة الأولى متذرعاً بقميص عثمان طمعاً في الإمارة والمُلك.

    روي عن محمد بن سيرين قوله: “ما علمتُ أن علياً اتُهِمَ في قتل عثمان حتى بويع، فلما بويع اتهمه الناس” [مصنف ابن أبي شيبة 31230]

    من سلسلة “الرد الصريح على النصب القبيح”

    ✍🏻 نور الدين سعد الرفاعي

  9. علي والعراق (2)

    لقد لعب العراق دوراً رئيسياً في ذلك الصِراع الطاحن الذي دار بين الخلافة الراشدة والمُلك العضوض، وكاد وقوف العراق إلى جانب علي أن يحسم المعركة لصالح الخلافة الراشدة لولا خدعة المصاحف التي لجأ لها معاوية وعمرو بن العاص لتجنُب الهزيمة التي كانت وشيكة.

    وعلى الرغم من قيام مُلكِ بني أمية آخر الأمر، إلّا أن جذوة الثورة التي تركها علي في أرض العراق أقضت مضاجع بني أمية وجعلتهم في حالة قلقٍ دائم. إذ بقي هذا الإقليمُ ،الذي يضطرم بنار الثورة على جَوْر بني أمية ويحنُّ إلى عدل علي الذي أضاعه، مصدرَ متاعب دائمة لحكام بني أمية وجلاوزتهم فكان له بذلك دور محوري في زوال ظلمهم آخر الأمر. وهكذا تمكن علي بالمثال الذي ضربه والإرث الذي تركه من هزِّ عرش بني أمية وهو مرتاحٌ في قبره حتى دالت دولتهم وانقرضت.

    وتحقق ما كان قد توقعه علي -فيما روي عنه- من زوال مُلكِ بني أمية بعد قيامه: “..حتى يظُنَّ الظّانُّ أن الدنيا معقولةٌ على بني أمية تمنحهم درَّها وتوردهم صفوها. ولا يُرفَع عن هذه الأمة سوطها ولا سيفها. وكذب الظّانُّ لذلك، بل هي مُجَّةٌ من لذيذ العيش يتطعمونها بُرهةً ثم يلفظونها جُملةً”. [نهج البلاغة 1/155]

    أما من الناحية الحضارية فمن الواضح أن الحركة العلمية التي ابتدأها الإمام علي في العراق قد تصاعدت وامتد زخمها حتى نضجت ثمراتها في بداية العصر العباسي، وهو الذي كان يقول “سلوني قبل أن تفقدوني” ويشير إلى صدره قائلاً “إن هاهنا لعلماً جماً لو وجدت له حَمَلَة”. وهو الذي أوحى إلى أبي الأسود الدؤلي -وكان قد جعله على خراج البصرة- أن يؤسس علوم اللغة العربية بدايةً من النحو والصرف.

    لقد وجد علي في أرض العراق تربة خصبة نبتت فيها بذور الحكمة التي استقاها من مشكاة النبوة فأثمرت علوماً ومعارف أضاءت سماء العالم الإسلامي، وتحقق بذلك معنى الحديث المنسوب للنبي (ص): “أنا مدينة العلم وعليٌّ بابها”. [رواه الطبراني والحاكم النيسابوري والترمذي وغيرهم]

    وليست مصادفة أن غالبية مذاهب الفقه وعلم الكلام والتصوف قد نشأت في العراق، وأن الحركة العلمية في الحضارة الإسلامية قد بلغت ذروتها في العراق.

    يتحدث العقاد عن دور علي المحوري في تأسيس الفقه وعلم الكلام، فيقول:” ويصح أن يُقال: إن علياً، رضي الله عنه، أبو علم الكلام في الإسلام، لأن المتكلمين أقاموا مذاهبهم على أساسه كما قال ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة.” ثم ذكر أمثلة على المتكلمين والفقهاء الذين تأثروا بعلي، وختم حديثه ذلك بقوله:”وقيل لابن عباس: أين علمك من علم ابن عمك؟ فقال: كنسبة قطرة من المطر إلى البحر المحيط”.

    من سلسلة “الرد الصريح على النصب القبيح”

    ✍🏻 نور الدين سعد الرفاعي

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى