كتّاب

فى ذكرى مولده:…


فى ذكرى مولده:
سيد درويش مؤسس الغناء المصرى الحديث
يعرف المصريين القدماء الموسيقى والغناء مند فجر الحضاة المصرية القديمة، وتذخر جدران المقابر والمعابد بمناظر فرق الغناء والعزف والرقص، كالعازفات الثلاث وعازف الهارب الضرير وعازف الناى وغيرها، وقد اهتمت جدران المقابر على وجه الخصوص برسم وحفر مناظر الرقص والغناء والموسيقى تعبيرا عن حب المصريين فى حياتهم لتلك المشاهد ورغبتهم فى اصطحابها معهم فى عالم الخلود والبقاء، وقد استمرت تلك المشاهد فى زمن البطالمة الذين حرصوا على بقاء كل الرموز والتقاليد الفرعونية فى دولتهم بل ان احد الملوك البطالمة وهو بطليموس الثانى عشر كان فخورا بلقبه “الزمار”، وظل شغف المصريين بالغناء فى عصر الرومان الذى اعقب دولة البطالمة، وبعد دخول المسيحية مصر انتقلت نمادج مختلفة من الألحان والموسيقى وآلاتها لتستقر فى قداسات الكنائس وترانيمها، وتنتقل بعد ذلك الى تلاوة القرآن الكريم على المقامات الموسيقية ثم إلى الإنشاد الدينى، وحلقات ذكر الصوفية وزفاتهم مصحوبة بالبيارق والزمور والطبول الصاجات، فضلا عن استمرارها فى الفلكلور وحياة الناس الطبيعية فى مواويل الصعيد والدلتا، الحمراء والخضراء، وفنون الواو والكانات وأغانى العمل والمناسبات الاجتماعية المختلفة، واغانى هدهدة الأطفال، ونداءات الباعة المتجولين، وفى زمن المماليك والعثمانيين كانت هناك أغانى القصور ذات المقامات التركية والفارسية، وما دخلها من موشحات اندلسية، وترك لنا الجزء الخاص بالموسيقى والغناء من كتاب وصف مصر الدى وضعته الحملة الفرنسية (1798-1801) وصفا كاملا عن فنون الغناء والموسيقى فى مصر
وفى عصر محمد على (1805 – 1848 ) الذى كان يرغب فى تأسيس جيش عسكرى حديث على النمط الفرنسى واستقدم لهذا التأسيس “الكولونيل سيف” أحد ضباط نابليون بونابرت، وكانت فرقة الموسيقى العسكرية واحده من الفرق المهمة فى ذلك الجيش الذى اعتاد أن يقوم بكل أعماله بمصاحبة الموسيقى ومن هنا فقد بدأت الموسيقى الحديثة فى مصر بإنشاء مدرسة الموسيقى 1924، لتخريج العازفين فى فرق الموسيقى العسكرية، ونظرا للعجلة التى كانت مطلوبة للاسراع بتكوين تلك الفرق فقد طلب محمد على من اعوانه البحث عن من يجيدوا العزف على مختلف الآلات من صغار السن وادخالهم تلك المدرسة، وبالفعل خرجت تلك المدرسة الكثير من العازفين المهرة المصريين الذين عرفوا بطريقة علمية حديثة السلم الموسيقى وكتابة النوتة الموسيقية، وياتفاقية لندن سنة 1840، التى تآمرت فيها بريطانيا مع تركيا لوقف لوقف فتوحات محمد على والقضاء على توسعاته وتخفيض عدد افراد جيشه تخفيضا هائلا، فسرح محمد على معظم جنوده كما سرحت كل الفرق الفرق الموسيقية العسكرية التى جمعت فى تعليمها وعملها بين الأساليب الأوربية الحديثة والأساليب الشرقية المصرية، وراح هؤلاء يبحثون عن سبل أكل العيش بتكوين فرق المقاهى والسوامر والغناء فى الأفراح والقصور وعلى يد هؤلاء وتلاميدهم تكون الرعيل الأول من الملحنين والمغنين المصريين، ومنهم: الشيخ عبد الرحيم المسلوب ويوسف المنيلاوى وخليل محرم ومحمد الشلشلمونى وكريم الخياط ومحمود الخضرى والشيخ درويش الحريرى ومحمد عثمان ووالشيخ سلامة حجازى وابراهيم القبانى، وعلى القصبجى وعبده الحامولى، ومن النساء: ساكنة بك وألمظ،
المهم أن هؤلاء الفنانين هم الدين أسسوا للمدرسة الوطنية فى الغناء والموسيقى، ومع هذا فحتى كاد ان ينصرم من القرن العشرين خماسيته الأولى لم يكن هؤلاء الفنانين العظام يعرفون الأغنية – بمعناها وموضوعها الدى عرفناه فيما بعد –وإنما كان كل مايعرفه هؤلاء الفنانين العظام هى الأدوار وموشحات ينتمى بعضها للعصور الوسطى وبعضها مما ألفه ولحنه هؤلاء الرواد، ومن أدوار محمد عثمان: أصل الغرام نظرة، ولكن ساعد غياب مفهوم ومعنى الملكية الفكرية وعدم وجود آلات التسجيل، على أن تسرى تلك الأدوار والموشحات عبر الأثير يتلقفها كل مؤدى ومطرب وفنان تبعا لمهارته وقدرته وسميعته، وقد ساعد على هدا أشكال من المرونة فى الحانها تسمح للمؤدى أن يطلق لقدراته العنان فى التطويل والتطريب واستخدام العُرب الصوتية، بطريقة تختلف اختلافا هائلا عن غيره من المطربين، وكان من تلك الأدوار والموشحات: كادنى الهوى وصبحت عليل،وظبى من الترك له خيولنا مسلمة،وعشنا وشفنا سنين ومين عاش، والله يصون دولة حسنك على الدوام من غير زوال، وياما انت واحشنى وروحى فيك، وأصل الغرام نظرة يا شبكتى يا عينى،
ولم تكن أغراض هدا النوع من الغناء تتجاوز الغزل العفيف والوصف العفيف أيضا للمحبوب – الدى كان كثيرا ما يوضع فى صيغة المذكر – فضلا عن الشكوى من صد الحبيب وهجرانه،
ولكن مع نهاية العقد الثانى من القرن كانت مصر تتأهب لمجتمع جديد وثقافة حديثة ونظام سياسى حديث كان لابد أن يواكبها “غناء حديث” وضعت الأقدار تأسيسه وبلورته على عاتق الفنان العبقرى سيد درويش (1892 – 1923)، الدى عاش صدر شبابه وهو يؤدى الأدوار والموشحات التقليدية التى سبقت الاشارة اليها، حتى كانت ثورة 1919، التى أشعلت طموح المصريين وتضحياتهم لمواجهة الاستعمار وبعث تاريخهم المجيد وبناء دولتهم الحديثة، ومثلت هده الأغراض التاريخية الطاقة التى الهمت سيد درويش موضوعات اغانيه الحديثة، فهو يغنى لزعيم الثورة: مصرنا وطنا سعدها املنا كلنا جميعا للوطن ضحية، ويابلح زغلول، ويغنى للوطن: سالمة ياسلامة روحنا وجينا بالسلامة، وللتاريخ: أنا المصرى كريم العنصرين بنيت المجد بين الأهرمين، ويغنى لنهضة المرأة: بنت البلد يا ولد محلا قيافتها، ودا وقتك دا يومك يا بنت اليوم، ويغنى للوحدة الوطنية: إيه نصارة ومسلمين قال ايه ويهود دى العبارة اصل واحد م الجدود، ويغنى للجيش: أحسن جيوش فى الامم جيوشنا وقت الشدايد تعالى شفنا ساعة مانلمح جيش الاعادى نهجم ولا اى شئ يحوشنا، وإحنا الجنود زى الاسود نموت ولا نبيعش الوطن، ويغنى لوحدة وادى النيل: يا مصيبة وجالى من بدرى زى الصاروخ ف ودانى، مافى حاجة اسمه مصرى ولا حاجه اسمه سودانى، نهر النيل راسه ف ناحية رجليه فى الناحية التانى، يلحنها بالايقاع الافريقى الدى يخلو من الربع تون، ويغنى للصناعة المصرية: خسارة قرشك وحياة ولادك ع اللى ماهوشي من خير بلادك، دا ابن بلدك مايبلفكشى، ماتعدموشى ولا يعدمكشى، وينتقد المجتمع: علشان مانعلا ونعلا لازم نطاطى نطاطى، ويغنى للشيالين والعربجية والموظفين والسقايين والمراكبية والجرسونات والبوستجية، ولا ينس الحب والعواطف الجياشة فيغنى: انا عشقت، وانا هويت، وخفيف الروح بيتعاجب، ثم يتحفنا برائعته الخالدة: بلادى بلادى لك حبى وفؤادى، نعم كانت هناك عبقريات تقف خلف تلك الكلمات الملهمة كيونس القاضى وبديع خيرى وبيرم التونسى، ولكن تظل عبقرية سيد درويش هى التى صاغت من هدا كله “الغناء المصرى الحديث”

يمكنك دعم الموقع من هنا
مؤسسة ندى لحماية الفتيات

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى