توعية وتثقيف

جولة فى تاريخ البشريه (١٨)…


جولة فى تاريخ البشريه (١٨)

“‘عزيزه’ ولدت ولد … (*)” ولم يعكر المناسبة السعيدة سوى مشكلة صغيرة – جاء الولد لا يشبه أباه بل يشبه الشاب الذى يقيم فى الشقة المجاوره. فسرت عجائز الحي هذه الواقعة بإن ‘عزيزه’ “توَحّمَت (craved)” على الجار أثناء حملها، (وهو ذنب أهون من التفسيرات الأخرى الممكنه.) لم تبتكر العجائز نظرية التوحم (craving)، فقد جاء ذكرها فى التوراة فى قصة يعقوب ولابان. تقول القصة أن يعقوب عندما أراد أن ينفصل عن خاله لابان، إقترح أن تكون الغنم الرقطاء فى المستقبل من نصيبه، بينما يستبقى خاله الغنم ذات اللون الواحد. وافق لابان بلا تردد لأنه كان يعرف أن الغنم نادراً ما تولد رقطاء. لكن يعقوب كان يعرف سراً لا يعرفه خاله، فصار يضع أمام النعاج أثناء التكاثر فرعاً عليه خطوط بيضاء وسوداء، فتوحّمت (craved) النعاج وأنجبت غنماً معظمها رقطاء. (**) (***).

القصتان طريفتان بلا شك. لكن للأسف لا تستند أيتهما على أساس علمي. فعلم الوراثة ليس فيه آلية تسمح بتغيير الجينوم عن طريق النظر . صحيح أن العوامل الخارجية يمكن أن تؤثر على تفعيل هذا الجين أو ذاك (epigenetics). لكن الجين يجب أن يكون موجوداً أصلاً حتى يمكن تفعيله أو كبته. … لكن دعنا نبدأ من البدايه.

قبل ١٠ آلاف سنه على الأقل عرف الناس أنهم إذا زوجوا كلباً وكلبةً يتسمان بالوداعة، فإن أغلب نسلهم سيكونون على نفس القدر من الوداعة أو أكثر. وهكذا تمكن البشر بالمثابرة والإنتقاء من إنتاج أنواع من الحيوانات والنباتات ذات أشكال وطباع مرغوبه. (أبقار مدرة للبن بوفره، خيول سريعه، حمير مطيعه، …إلخ.) وكان الراهب التشيكى جريجور مِنْدِل (Mendel) هو أول من أجرى دراسة منظمة موثقة لظاهرة الوراثة، وإستنبط من ملاحظاته عدداً من القوانين التى أثبتت البيولوجيا الحديثة صحتها فيما بعد. لكن دراساته كانت مقصورة على التجربة وملاحظة النتائج، لأن آليات الوراثة لم تكن معروفة فى زمنه.

لم نفهم آليات التوارث إلا بعد أن إكتشف واطسون و كريك طبيعة الحمض النووي (DNA) سنة ١٩٥٣ (*4). من المغرى أن نستفيض فى الحديث عن الحمض النووى وتركيبه الحلزونى ومليارات حروف الشفرة التى يحتويها فهو موضوع شيق ومهم، لكنى سأقاوم الإغراء لأن القارئ المهتم يستطيع أن يجد تلك المعلومات بنفسه. بعض الأساسيات التى لا مفر من ذكرها ملخصة (بتبسيط شديد) فى الملحوظه (*5).

فى لحظة التخصيب إلتقت كروموسومات الأم (عزيزة) بكروموسومات والد الطفل، وإرتبط كل كروموسوم بقرينه (حرفياً، بمعنى أن كروموسوم رقم ١٧ (مثلاً) من الأم إرتبط بكروموسوم ١٧ من الأب وهكذا،) ونتج عن هذا التزاوج جينوم الجنين. أصبح لدى الطفل الآن نسختان من كل جين. أيهما ستحدد لون عينيه؟ هل هو الجين الذى جاء من عزيزة ذات العيون الخضراء؟ أم الجين الذى جاء من الأب ذى العيون العسليه؟ أحياناً تكون الإجابة على هذا السؤال محض صدفه (chance)، وأحيانا تميل جينات معينة إلى التغلب؛ (جين البشره السمراء، مثلاً.) المهم – بمجرد إتمام عملية التخصيب وتكَوّن أول خلايا الجنين، كان جينوم الطفل قد تحدد تماماً ونهائياً ودخلت نسخة منه فى كل خلية من خلايا الجنين. وأي قدر من التوحم (craving) لن يغير ذلك.

كونت البيولوجيا الحديثة صورة تفصيلية ودقيقة لعملية توارث الصفات والخصال. وأنتجت تحاليل دقيقة قادرة على إثبات أو نفى البنوة وتشخيص الأمراض والتعرف على مجرم من شعرة تركها على ضحيته، وغير ذلك (*7). وقد نشأت شركات لتحليل المادة الوراثية بتكلفة معقوله (*8)، تستطيع أن تخبرك ما إذا كانت لديك قابلية وراثية لأمراض معينه، وما هي المناطق التى جاء منها أسلافك، وما إذا كان هناك أشخاص لا تعرفهم ينتمون إليك بصلة قرابه (إذا كانوا فى القاعدة البيانية.)

بالتوازى مع علم الجينوم (Genomics) نشأ علم البروتيوم (Proteomics)، وهو يختص بدراسة البروتينات التى تدخل فى تركيب الخلية – كيف تتكون، وكيف تعمل، وما وظائفها. من الطريف أن الماكينات البروتينية فى الخلية تتخذ أشكالها بإستخدام خاصية حب الماء (hydrophilicity) أو النفور من الماء (hydrophobicity) (*9). أى أنها لا تتكون إلا إذا كانت محاطة بالماء. وفى ذلك مدلول قوي على أن الحياة نشأت أصلاً فى وسط مائى. كذلك نشأ علم البيولوجيا التركيبيه (Synthetic Biology)، وهو يختص ببناء الجينات والبروتينات من مكوناتها الأوليه. ويستطيع القارئ أن يتخيل المدى الذى يمكن أن تصل إليه هذه التقنيه.

ذكرت فى مقالة سابقة (١٥) أننا نستعمل فى حياتنا اليومية منظومة حسابية أساسها ١٠ (base-10). وهذه ليست المنظومة الوحيدة الممكنه، ولا هي بالضرورة الأفضل – الحاسب الإلكترونى، مثلاً، يستعمل منظومة أساسها ٢ (base-2). أما شفرة المادة الوراثية فتستعمل منظومة أساسها ٤ (base-4). وقد ظهر مؤخراً علم جديد يرمى إلى إستخدام الشفرة والمادة الوراثية فى نوع من الحاسبات له قدرات خاصة. لكن هذا العلم ما زال فى بدايته.

نختم بهذا جولتنا الخاطفة فى تاريخ العلوم على الرغم من أننا لم نتحدث عن الطب ولا الكيمياء ولا علوم البيئة. لكن العلوم، على أهميتها، ليست كل شيئ.
_________________________
*) هذه بداية ليمريك (limerick) كانت شائعة فى الصعيد: “عزيزه ولدت ولد / سمته عبد الصمد / مشته عالمشايه … إلخ ”
**) سفر التكوين ٣٧:٣٠.
***) بلغ الإيمان بهذه الخرافة أن النساء الحوامل إمتنعن عن زيارة حديقة الحيوان خوفاً من أن ينتابهن التوحم (craving) على القرود. لكن لم يكن هناك ما يمنع إناث القرود من التوحم (craving) على البشر، وربما كان ذلك سبب هبوط مستوى الجمال بين القرود.
*4) عالم البيولوجيا الأمريكى James Watson ، وعالم الفيزياء الإنجليزى Francis Crick. فى الحقيقة كان الحمض النووى معروفاً قبلهما، لكنهما وضعا الخطوط النهائية للنظريه.
*5) الجينوم هو مجمل المادة الوراثية فى الكائن الحي. وهو يتكون من ٢٣ كروموسوم،. كل كروموسوم يحتوى على حوالي ١٠٠٠ جين فى المتوسط. أغلب الجينات مهمتها بناء “البنية التحتية” للحياه، مثل خلايا الجسم والماكينات البروتينية اللازمة لتغذيتها والدفاع عنها … إلخ، (وهذه لا تختلف من شخص لآخر). أقلية من الجينات (حوالى ٢٠٠٠ جين) تؤثر على الصفات الفردية، مثل لون البشرة ة ولون العينين والشعر … إلخ. كل خلية فى الكائن الحي (*6) تحتوى على نسختين من كل كروموسم – نسخة موروثه من الأم ونسخه من الأب.
*6) لكي تكون فكرة عن عدد الخلايا فى جسمك تخيل أنك ملأت صالة بيتك بالأرز من الحائط للحائط، ومن الأرض للسقف. عدد حبات الأرز التى ستحتاجها لذلك هو تقريباً عدد الخلايا فى عقلة إصبعك.
*7) يسمى التحليل PCR، وهو نفس التحليل الذى يُستخدم حالياً على نطاق واسع لتشخيص كوڤيد-١٩.
*8) أشهر هذه الشركات شركة 23andMe التى أسستها زوجة سرجيي برين (Sergey Brin) أحد مؤسسى جوجل.
*9) تنطوى السلسلة البروتينية بحيث تكون جزيئاتها المحبة للماء فى خارجها، والجزيئات النافرة من الماء فى الداخل. وتستخدم البروتينات هذه الطريقة البسيطة لتتخذ أشكالاً بالغة التعقيد.

يمكنك دعم الموقع من هنا
مؤسسة ندى لحماية الفتيات

Farid Matta فريد متا

كاتب ادبي

‫13 تعليقات

  1. مقال رائع و ثمين و مشوق ..
    اسمحلي أن اصحح معلومه بسيطه وهي إن عدد الكروموسومات في الإنسان العادي هي ٤٦ و ليس ٢٣ ..
    تحياتي وتقديري لحضرتك ولمجهودك الرائع في تبسيط العلوم

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى