توعية وتثقيف

الدراسة فى الإتحاد السوڤييتى – ٥…


الدراسة فى الإتحاد السوڤييتى – ٥

كانت بعثتنا إلى روسيا تتكون من ٣٠ طالب (كلهم ذكور.) سافر بالفعل ٢٧، أغلبهم من المئة الأوائل فى إمتحان الثانوية العامة (*). كنتُ واحداً من ثلاثة فقط أُرسلوا للدراسة خارج موسكو. حزنت على فراق أصحابي، لكن “عسى أن تكرهوا شيئاً و هو خير لكم،” فقد كانت المدينة التى أرسلونى إليها، ليننجراد، أجمل مدينة فى الإتحاد السوڤييتى و من أجمل المدن فى العالم، و كان فيها أفضل المتاحف و المسارح والمعالم التاريخية والمعمار، فضلاً عن الطبيعة الخلابة فى تلك الأنحاء.

ذكرتُ مسبقاً كيف بدت لنا موسكو كئيبة فى أول شتاء. إضرب ذلك فى ٢ لتتصور كيف بدت لى فى البداية ليننجراد. فى الشتاء كان الفجر لا يبزغ قبل العاشرة صباحاً، ثم يعود الظلام فى الواحدة بعد الظهر. أي أننى كنت أذهب إلى المعهد فى الظلام و أعود منه فى الظلام كل يوم. أحياناً كنت أرى النور عندما كان الجدول يحتوى على محاضرة عن فلسفة هيجل (التى كنتُ أنا معفياً من دراستها،) فأمشى إلى ميدان ليڤ تولستوي لأستمتع ببضعة قطع من الزلابية (‘pyshki’ باللغة الروسية) مع كوب من اللبن الساخن فى محل صغير هناك (**).

مقابل ذلك كان الصيف بهيجاً. كانت الشمس لا تغيب فى الصيف إلا ساعتين أو ثلاثة، تظل اثناءها السماء مضيئة، فكنا نلعب الكرة فى فناء بيت الطلبة فى منتصف الليل، و العشاق يتمشون على كورنيش نهر النيڤا و فى الحدائق الإمبراطورية الخلابة فى الثانية صباحاً. ويسمى ذلك الوقت عندهم ‘الليالى البيضاء.’

هناك عدد قليل من المدن أسميهم ‘المدن الإمبراطورية’، وهي مدن بنيت بهدف إبراز عظمة الإمبراطوريات التى كانت هي عواصمها. من تلك المدن پاريس و ڤيينا و روما و واشنطن. ومنها كذلك سان بيتربورج (التى سماها الشيوعيون ليننجراد، ثم عادت إلى إسمها القديم بعد إنتهاء حكمهم.)

تشغل ليننجراد فى الوجدان الروسي مكانة خاصة. فهي المدينة البطلة التى صمدت للحصار الألماني ١٠٠٠ يوم و لم تسقط. حاصرها الألمان من جميع الجهات، و لم يكن هناك إليها مدخل ولا منها مخرج. لكن بحيرة لادوجا فى شمال المدينة كانت تتجمد فى الشتاء فتعطى الروس فرصة محدودة لإدخال بعض الإمدادات للمدافعين عن المدينة و إجلاء الأطفال و الجرحى بالقيادة على الجليد تحت القصف المستمر.

لن أستفيض هنا فى وصف البشاعات التى تعرضت لها ليننجراد و روسيا فى تلك الحرب. لم يكن ذلك الصراع متكافئاً. ألمانيا كانت تمثل قمة الحضارة الغربية، و كانت قد نجحت فى إخضاع أوربا كلها، من فرنسا غربا إلى أوكرانيا شرقاً، وتشغيلها فى خدمة الماكينة العسكرية الألمانية الجبارة (***). فى الناحية الأخرى كان الإتحاد السوڤييتى منهكاً مستنزفاً بعد حرب أهلية ضروس، و بعد هجرة كل الكادرات الماهرة من الطبقات المتوسطة و العليا. كان للإتحاد السوڤييتى حلفاء (على الورق،) لكنهم ظلوا يتأخرون عمداً عن الإشتراك فى القتال حتى تبين لهم أن الروس سينتصرون بدونهم على أي حال (****). عند ذلك دخلوا لضمان نصيبهم من الذبيحة.

أعاد أهل ليننجراد بناءها كما كانت تماماً – و حتى الآن لا ترى فى سان پيتربورج أية إعلانات أو أضواء ملونة مبتذلة. و إذا كانت هناك أبراج سكنية، فكلها فى الضواحى و الأطراف التى لا تراها من وسط المدينة التاريخي.

آن لى أن أعود إلى موضوعي الأصلي و هو الدراسة فى الإتحاد السوڤييتى. لكن هذه الحلقة قد طالت، و يتعين علينا أن نرجئ ذلك الحديث إلى فرصة قادمة.
___________________________
*) كان هناك إثنان أو ثلاثة لا أحد يعرف كيف أُختيروا. لكن ذلك لم يكن يهمنا وقتها ولا الآن.
**) منذ بضعة سنوات أخذت حفيداتى ليروا الأماكن التى تعلم فيها جدهم و جدتهم. كانت المدينة قد إمتلأت بالمطاعم الفاخرة، لكن ما علق بأذهانهن كان هو ال pyshki. يبدو أن الجينات و الوراثة لهم تأثير.
***) تفانت قوميات معينة فى خدمة الألمان و تعذيب الروس. و هذا من أهم أسباب العداوات و الحروب التى لا تخمد فى شرق أورپا.
****) إستمرت الحرب ٦٨ شهراً، وكان إنزال نورماندى قبل النهاية بحوالى ٧ شهور فقط.

يمكنك دعم الموقع من هنا
مؤسسة ندى لحماية الفتيات

Farid Matta فريد متا

كاتب ادبي

‫13 تعليقات

  1. موسكو لم تقل عن لينينغراد في المتاحف والمسارح والطبيعة الخلابة .. لكن بالطبع لينينجراد تكسب في المعمار لانها كانت عاصمة بيتر المتاثر غربيا

  2. Thanks a lot for the knowledge
    What we know about life in Russia is very little for different reasons
    Your description of the longer days of summer and the short winter days reminds me of my two years in Stockholm it was magical

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى