كتّاب

محمد حامد أبو الركب…


محمد حامد أبو الركب
الباجور منوفية، منذ نحو ستين عاما، وفى قطعة الأرض الفضاء الملحقة بمنزلنا والتى يمتلكها أبى، ونسميها الجنينة – وهى ليست من الجنينة فى شئ – بنت فيها “ستى” غرفة للفرن وعششا كثيرة للطيور والحيوان، وفى ركن منها أكوام القش والحطب ووقود الفرن، وكانت تشكل بالنسبة لنا عالما فسيحا من السعادة، فنعمل فيها عشة من القش، ونطارد السحالى والفئران، ونستيقظ قبل شروق الشمس لعلنا نعثر على بعض البيض لدجاج أفلت من رقابة “ستى” الصارمة،
المهم فى وسط الجنينة ترتفع نخلتين سامقتين متجاورتن مثمرتين يفصل بينهما سنتيمترات لا تتجاوز نصف المتر، سمتهما أمى باسمى أخى الكبير وأختى “نخلة صلاح ونخلة محاسن” كنت أتسلقهما واضعا قدمى على إحداها والأخرى على الثانية وأشرع فى الصعود حتى أصل إلى بلحها الكهرمانى الشهى أو أعشاش العصافير بين جريدها.. وأنزل وقد أمتلأت جيوبي بالبلح وافراخ العصافير
المهم .. يبدو أن شقيق ستى فى صبيحة أحد أيام الصيف قد طلب منها السماح له بصعود النخلتين ببلطته وتقضيب جريدها لحاجته إليه فى تعريش مقعدا بناه فوق سطح داره، فسمحت له مرحبا، وراح الرجل يصعد النخلتين كما أفعل، حتى وصل إلى جريدهما، وراح يعمل فيه ببلطته، وراح الجريد يتساقط واحدة بعد أخرى، وفجأة اختل توازنه وسقط على الأرض من هذا الارتفاع الشاهق، وراح يصرخ بأعلى صوته فأسرعت إليه ستى وأمى ليجدا ساقيه وقد كسرتا من قصبتيه كسرا واضحا، وراحت ستى تسنده على صدرها وتربت على رأسه وجبهته لتهدئ من روعه، بينما تسرع أمى بإعداد كوب من السكر، والبحث عن زجاجة الكولونيا، وصراخ الرجل لا ينقطع، وسرعان ما اجتمع عليه بعض المارة وبعض أقاربه، وكان من الواضح للجميع ضرورة نقل الرجل إلى المستشفي لتجبيس رجليه، وكانت المشكلة العويصة كيف يمكن نقل الرجل إلى المستشفى التى تبعد نحو كيلومترين عن منزلنا، وليس هناك من وسائل متاحة للمواصلات إلا وسيلتين هما الدراجة أو الحمار.. ولكن بدا من المستحيل نقل الرجل بساقيه المكسورتين وهما تتدليان على جانبى الدراجة أو الحمار، وبينما يتناقش الرجال حول مالعمل؟ نظر أحد ابناء أخيه عبرالشارع ومن خلال قضبان النافذة المفتوحة لمح النعش القابع داخل “المضيفة” التى أمام بيتنا، وقال: لن يصلح لنقله مرتاحا إلا هذا النعش، واتفق الجميع على ان هذه أنسب الوسائل لنقل الرجل، وأسرع بعضهم وأتى بالنعش وأسرعت امى بفرشه ببطانية ومخدة، ووضعوا الرجل فى النعش المكشوف طبعا، وحملوه على أكتافهم وساروا به فى الطريق إلى المستشفى، وتقدم الموكب الصغير والذى أخذ يتزايد ويتسع بفضل انضمام الناس له والذين راحوا يسيرون خلفه لمعرفتهم بمن يحمله وليقينهم بأنه قريبهم، وراح الجالسون على المقاهى يقفون احتراما للجنازة، كما تقتضي آداب مرور الجنازات فى بلادنا، ويرفعون سبابتهم نحو السماء ناطقين بالشهادتين، ويخيم على الشارع جو من الشجن والوقار، ويبدوا أن بعض الناس لايعرف من بالنعش، .. ربما لاحظ بعضهم أن الجنازة تسير عكس اتجاه السير للمقابر وهو اتجاه المستشفى، فراحوا يسألون بصوت عال: هو مين اللى مات ياجماعة؟؟ فيخرج الرجل رأسه من النعش ليلتفت اليهم ويجيبهم ضاحكا وبصوت مرتفع: إللى مات: محمد حامد أبو الركب… فيغرق الميت والناس والمشيعون فى الضحك
….. يسعد أوقاتكم

يمكنك دعم الموقع من هنا
مؤسسة ندى لحماية الفتيات

تعليق واحد

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى