توعية وتثقيف

العلم و العلوم و العلماء (٢)…


العلم و العلوم و العلماء (٢)

ذكرت فى الحلقة (١) أن مصدر هاتين الكلمتين هو ‘عَلِم (learned)’. و عَلِم فلان بالشيئ أي صار يعرفه. على هذا الأساس يستعمل المصريون كلمة عالِم لوصف أينشتين وأحمد زويل، و كذلك لوصف رجال الدين. ولا بأس فى ذلك، فهؤلاء وأولئك “يَعلمون” ما يخصهم. لكن الكثيرين يرون أن هذا التعميم لا يجوز، لأن طبيعة المعرفة تختلف جذرياً بين النوعين – النوع الأول من العلماء أسلوبه الإختبار والتمحيص ورفض ما لايمكن إثباته، والنوع الآخر أسلوبه النقل و القبول بدون دليل أو برهان. من هذا المنظور – إذا كان النوع الأول علماً، فالنوع الثانى ليس علماً، والعكس بالعكس. وهذه وجهة نظر وجيهة من الصعب تجاهلها.

الأوربيون كانوا فى نفس المكان قبلنا بنحو ٢٠٠ سنة، وكانوا أيضاً لا يميزون بين هذين النوعين من المعارف. كلمات ‘عِلْم’ و ‘علماء’ فى اللغة الألمانية، مثلاً، مشتقة من كلمة (wissen) أي ‘يعرف’. و فى اللغتين الإنجليزية والفرنسية التسميتان لهما نفس المصدر اللاتيني (scientia) و هو يعنى المعرفة. فى كلتي الحالتين لا تميز اللغة بين المعارف الدنيوية والمعارف الدينية. بل أن بعض العلماء الأوربيين (نيوتن مثلاً،) كانوا ينتمون إلى النوعين فى نفس الوقت. وبعض أعرق الجامعات فى الغرب (السوربون وأوكسفورد وهارڤارد مثلاً) بدأت نشاطها ككليات لتدريس علوم الدين.

لكن الأوربيين بعد الثورة الصناعية-العلمية جنحوا بالتدريج إلى قصر إستعمال كلمة ‘science’ على العلوم الطبيعية، وكلمة ‘scientist’ على المشتغلين بتلك العلوم (*). و إسترشدت الجامعات المصرية عند إنشائها بتقاليد الأوربيين ومفاهيمهم، فأطلقوا إسم ‘كلية العلوم’ على كلية مختصة بتدريس العلوم الدنيوية فقط مثل الفيزياء والبيولوجيا والرياضيات، ولا تحتوى مناهجها على علوم دينية. وحتى فى المرحلة قبل-الجامعية إنقسمت المدارس فى مصر إلى قسمين – قسم علمي يجهز التلاميذ للإلتحاق بالكليات العلمية بالمفهوم الأوربي؛ و قسم أدبي يجهز تلاميذه لدراسة ‘العلوم الإنسانية (Humanities)،’ (و سأتحدث عنها فيما بعد. )

وهكذا إستقر العرف على أننا إذا تحدثنا عن “العلوم” بدون صفة، فنحن نقصد ما يسميه الأورپيون sciences، أي العلوم الطبيعية، وهي الفيزياء والكيمياء والرياضيات والبيولوچيا، وكذلك تطبيقات تلك العلوم مثل الهندسة والطب والصيدلة.

هذه العلوم لها مقومات مستتبة وواضحة تميزها عن أنواع المعرفة الأخرى. تلك المقومات هي:
* لا توجد فيها مسلمات ولا حقائق مطلقة.
* أية معلومة لم تثبت صحتها هي مجرد فرضية خاضعة للشك وقابلة للنفي.
* إثبات صحة المعلومة يقتضى واحداً أو أكثر من الشروط الآتية:
– ملاحظتها (بالحس أو بالقياس أو بكليهما؛)
– إستنباطها منطقياً أو بإستخدام الرياضيات من معلومات أخرى مثبتة.
* النسبية، وهي تعنى أن أية معلومة صحيحة فى ظروف معينة ليست بالضرورة صحيحة فى ظروف أخرى.
* التكرارية (reproducibility)، و هذه لها معنيان –
– إذا أعدنا التجربة (أو الملاحظة) تحت نفس الظروف نحصل على نفس النتيجة؛
– إذا أعاد باحث آخر نفس التجربة تحت نفس الظروف يحصل على نفس النتيجة.
* التنبؤية، بمعنى أن النظرية العلمية التى تفسر ظاهرة ما فى ظروف معينة، قادرة على توقع ما سيحدث فى المنظومة إذا تغيرت العوامل المؤثرة فى هذا الإتجاه أو ذاك.

هذا هو ما إصطلح العالَم الحديث على تسميته بالعِلم. أما المعارف التى تختلف مقوماتها عن ذلك، فلها إحترامها ودورها فى مساندة النفس البشرية روحياً ومعنوياً فى لحظات ضعفها (**)، لكنها لا تدخل فى نطاق ما نسميه science.

ذكرتُ عرضاً فيما سبق ‘العلوم الإنسانية’ (Humanities)، وهي تشمل التاريخ و الفلسفة و النقد الأدبي و النقد الفني والأنثروپولوچيا. هذه أيضاً علوم حقيقية تشارك العلوم الطبيعية فى بعض مقوماتها، مثل الشك والتحليل و النسبية و القابلية للمراجعة والرفض، و إن كانت تختلف عنها فى معايير أخرى مثل الدقة و الكَمّية (quantitativeness) و التكرارية. العلوم الإنسانية لا تقل فى أصالتها و أهميتها عن العلوم الطبيعية، و فى العادة لا يعترض أحد على تسمية المشتغلين بها ‘علماء’.
_________________________________
*) هناك إستثناءات نادرة – فنحن نجد فى أمريكا مثلاً عبادات ناشزة (cults) تتمسح بالعلم مثل ‘Christian Scientists’.
**) فى المجتمعات الفقيرة والمتخلفة تكاد الحياة كلها تتكون من سلسلة متصلة من لحظات الضعف واللا-حول.

يمكنك دعم الموقع من هنا
مؤسسة ندى لحماية الفتيات

Farid Matta فريد متا

كاتب ادبي

‫7 تعليقات

  1. بالفعل أري إشكالية كبري في أن تتشارك مخرجات الفكر العلمي مع مخرجات الفكر الديني في تسمية واحدة رغما عن التضاد الجوهري بينهما … فأحدهما يعتبر التشكك أرقي الفضائل بينما يراه الآخر أسوأ النقائص 🤔 …

  2. Science and Technology is the Only way of any Progress, In Egypt we love to mix anything with religion to get a yukky Salad of nonsense and sleep happy every night with no hope for bright future, As a graduate of a very nice name College or Faculty of Electronic Engineering, I want to assure you that the education we had was a bad kind of mixed Salad of Mathematics and little spices of electronics, Very Theoretical with no room for design or practice, All I have learned later was through training abroad, let them enjoy their Ulama of Hagayes.

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى