توعية وتثقيف

جولة فى تاريخ البشريه (١٢)…


جولة فى تاريخ البشريه (١٢)

كان موديليانى (Modigliani) فناناً مغموراً هاجر إلى باريس من إيطاليا ولم ينجح بعد فى التعيش من فنه. أخيراً تمكن من تنظيم معرض للوحاته فى أحد الأحياء، وكانت المعروضات خليطاً من پورتريهات و لوحات عارية (nudes). لمح مأمور قسم البوليس إحدى تلك اللوحات أثناء مروره أمام المعرض فدخل ليتفقد الأمور. وما أن وقعت عيناه على اللوحات الأخرى حتى أمر بإغلاق المعرض لخطورته على الأمن العام. لم يكن ذلك الجاندرم يدرك أن اللوحات التى خدشت حياءه ستشَرِّف ذات يوم أعظم متاحف العالم، من National Gallery فى واشنطون إلى Courtauld Gallery فى لندن إلى L’Orangerie فى باريس.

نادراً ما كان موديليانى يحتاج إلى أكثر من يوم لإكمال لوحة. فقد كانت فرشاته عريضة سريعة جريئة وألوانه بسيطة نقية. ولم يكن يستعمل لون البشرة الذى إعتدناه (*)، بل كان يستعيض عنه بألوان لا نتوقعها. ومع ذلك كانت لوحاته تبدو واقعية وتتفجر بالحياة. (وهذا هو ما جعل تلك اللوحات تبدو فاضحة لرجل البوليس على الرغم من غياب أية تفاصيل.) أما البورتريهات فكانت أكثر غرابه – كل من إشتغل بالبورتريه يعرف أهمية العينين، لكن موديليانى كان كثيراً ما يترك العينين فارغتين، ومع ذلك كان البورتريه الذى يرسمه يعبر عن الواقع أكثر من أية صورة فوتوغرافيه.

عاش موديليانى فى أواخر فترة فريدة فى تاريخ الفنون التشكيلية، كانت فيها پاريس بوتقة لإبتكارات فنية مذهله. منذ إستضافة الملك فرانسوا الأول لليوناردو داڤينشى فى شيخوخته (**) ترعرعت الفنون التشكيلية وتوالت إتجاهات فنية مختلفة نذكر منها النيو-كلاسيكية (Poussin)، والروكوكو (Boucher, Fragonard)، والمرحلة الأكاديمية (Ingres, David)، والمرحلة الرومانسية (Delacroix). بعد ذلك ظهر جيل جديد من الفنانين المسلحين بفهم عميق لنظرية الضوء والألوان. رسم هؤلاء لوحات من نوع مختلف، تراجع فيها دور الخط والشكل والمنظور، وبرز دور الضوء والهواء وتفاعل الألوان. قيل عنهم أنهم كانوا يرسمون إنطباعهم عن الواقع بدلاً عن الواقع ذاته، وصاروا يُعرفون بالإنطباعيين (Impressionists). وكان من أبرز هؤلاء كلود مونيه (Monet) وأوجوست رينوار (Renoir). لم تسود الحركة طويلاً، وتوالت بعدها حركات أخرى متعددة تَعِب النقاد فى تصنيفها، ولن أُتعب أنا بدورى القارئ بتفاصيلها. ووصل التطور إلى منتهاه عندما إختفى تماماً الشكل والعمق والمنظور، وأصبحتَ لا تتعرف على ما فى اللوحة من أشكال. ونقول عن تلك الأعمال إنها تجريديه (***).

هذا ما حدث فى أوربا، أما فى أمريكا فكان الناس يلهثون وراء الفلوس لا الفنون. وما ظهر هناك من فن كان أغلبه مكرساً للأعمال التجارية مثل الإعلانات والديكور وأفلام ميكى ماوس. كان هناك أيضاً فنانون حقيقيون، مثل نورمان روكويل (Norman Rockwell) الذى كان واقعياً رومانسياً بديعاً يسجل بفرشاته الحياة الأمريكية بأسلوب إنساني راقى ومتفائل. لكن الواقع الأمريكى كان يحتم أن تظهر أيضاً بِدع (gimmicks) مثل سكب الألوان على الكانڤاس، أو رشها بنفض الفرشاة، أو الرسم بالقدم أو بالمؤخرة … إلخ. وسارع السماسرة إلى خلق سوق لهذا “الفن” الذى سموه ‘الفن الحديث (Modern Art)’. وصار الأغنياء يقتنون هذه الأعمال لا لقيمتها الجمالية، بل لأن السماسرة ضمنوا لهم إستمرار إرتفاع الأسعار. كان أشهر من مارَس هذا النوع من “البَكَش(gimmickry)” الرسام آندى وارهول (Andy Warhol)، وكانت أشهر أعماله لوحة رسَم عليها علبة شوربه (soup can) ٣٢ مرة لا إختلاف بين واحدة وأخرى. وقد إشترى أحد متاحف الفن الحديث الأمريكية هذه اللوحة منذ بضعة سنوات بحوالى ٤٠ مليون دولار.

فى الإتحاد السوڤييتى كانت الفنون تحتل مكانة عالية، لكن الحزب الشيوعى كان يعتبر أي أسلوب ما عدا الواقعية الرومانسية (*4) معادياً للنظام، فأصبح الرسامون السوڤييت كلهم يشبهون Norman Rockwell الأمريكى، لكن بموضوعات تمجد الإشتراكيه. لم يحدث هذا بعد الثورة البلشفية مباشرة، بل كانت هناك فى البداية فترة إزدهرت فيها الفنون بمختلف أنواعها إلى أن وضع ستالين نهاية لذلك. أما قبل الثورة فقد شهدت روسيا فى أواخر العهد القيصرى نهضة عظيمة فى الفن والموسيقى والأدب (*5) كان لها تأثير عميق على البشرية بأكملها.

كانت للنظام السوڤييتى مساوئ كثيره، لكن من محاسنه التى لا جدال فيها أنه شجع الفنون بسخاء، وكانت نتيجة ذلك أن روسيا أصبح لديها عدد من أعظم المتاحف فى العالم (*6)، وأصبح الشعب الروسى من أكثر الشعوب معرفة بالفنون وتذوقاً لها.

نختم بهذا حديثنا عن تطور الفن التشكيلى لننتقل إلى مناحى أخرى من تاريخ البشريه فى الحلقة القادمه.

____________________________

*) كنت فى الستينات أشترى هذا اللون جاهزاً من محل بوتشيلاتى فى شارع شريف، وكنا نسميه ‘لحم الهوانم’. وما زالت شركات صنع الألوان تنتج مثله.
**) لم ينتج ليوناردو شيئاً فى فرنسا لكنه أحضر معه بعض إنتاجه القديم (لهذا السبب نجد المونا ليزا فى اللوڤر وليس فى فلورنسا.)
***) إبحث عن خوان ميرو (Miro) وكاندينسكى (Kandinsky) لترى أفضل أمثلة للفن التجريدى.
*4) كانوا يسمونها عندهم ‘الواقعية الإشتراكيه’.
*5) الثقافة الروسية لها مكانة خاصة فى تطور الحضارة. أعظم الأدباء فى تلك الحقبة (وربما فى التاريخ) هم الثلاثى تولستوي (Tolstoy) وتشيخوڤ (Chekhov) ودوستوييڤسكى (Dostoyevsky). أما فطاحل الموسيقى فأشهرهم تشايكوڤسكى (Tchaikovsky) وريمسكى-كورساكوڤ (Rimsky-Korsakov) وراخمانينوڤ (Rachmaninov). ومن أشهر الفنانين إيليا ريپين (Repin) وكوستودييڤ (Kustodiev).
*6) متحف الإرميتاچ (Hermitage) فى سانت پيترسبورج ينافس اللوڤر على المكانة الأولى فى العالم. وهناك أيضاً ‘المتحف الروسى’ فى نفس المدينه ومتحف تريتياكوف (Tretyakov) فى موسكو وغيرهم.

يمكنك دعم الموقع من هنا
مؤسسة ندى لحماية الفتيات

Farid Matta فريد متا

كاتب ادبي

‫16 تعليقات

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى