مفكرون

النسخ في الوحي…


النسخ في الوحي

#سيد_القمني

النسخ في الوحي/ الجزء الأول
محاولة فهم
(١) تأسيس
قال الأئمة لا يجوز لأحد أن يفسر كتاب الله تعالى، إلَّا بعد أن يعرف منه الناسخ والمنسوخ، وقد قال عليٌّ (رضي الله عنه) لقاضٍ: أتعرف الناسخ من المنسوخ؟ قال: لا. قال: هلكت وأهلكت.

جلال الدين السيوطي١
عن ابن عباس في قول الله عز وجل وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا (البقرة: ٢٦٩)، قال المعرفة بالقرآن ناسخه ومنسوخه …

فمن المتأخرين من قال: ليس في كتاب الله عز وجل ناسخ ولا منسوخ … وهذا القول عظيم جدًّا، يئول إلى الكفر.

أبو جعفر النحاس٢
وأهمية معرفة النسخ تتضح مما يأتي: أولًا: أن أعداء الإسلام من ملاحدة ومبشرين ومستشرقين … جحدوا وقوع النسخ وهو واقع … ثانيًا: إن الإلمام بالناسخ والمنسوخ يكشف النقاب عن سير التشريع الإسلامي، ويطلع الإنسان على حكمة الله في تربيته للخلق، وسياسته للبشرية … ثالثًا: إن معرفة الناسخ والمنسوخ ركن عظيم في فهم الإسلام، وفي الاهتداء إلى صحيح الأحكام … فالمنكرون لوقوع النسخ في القرآن الكريم … يخالفون صريح النص القرآني، والسنة النبوية الصحيحة وإجماع المسلمين.

د. شعبان محمد إسماعيل، وكيل الأزهر٣
لم تعد قضيتنا اليوم هي حماية تراثنا من الضياع … إنها ليست القضية الأولى في هذه المرحلة التي وصل فيها التهديد إلى الوجود نفسه … حيث أصبح موقفنا اليوم هو الدفاع عن وجودنا نفسه، بعد أن أفلح العدو أو كاد في اختراق الصفوف، في محاولة نهائية لإعادة تشكيل وعينا، أو بالأحرى في محاولة لسلبنا وعينا الحقيقي، ليزودنا عبر مؤسساته الثقافية والإعلامية بوعي زائف، يضمن استسلامنا النهائي لخططه، وتبعيتنا المطلقة له على جميع المستويات.

د. نصر حامد أبو زيد٤
(٢) ظاهرة النسخ في الوحي
تروي كتب التاريخ الإسلامية وكتب السير والأخبار أن النبي ﷺ في المراحل الأولى من دعوته في مكة، وبعد أن هاجر بعض أتباعه إلى الحبشة، ورأى تجنب قريش له، وأنه في نفر قليل من أصحابه استشعر الوحشة فتمنى قائلًا: أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى (النجم: ١٩-٢٠). كما يُروى أنه قرأ سورة النجم في المسجد الحرام أمام سادات قريش، ومعه بعض أتباعه يصلون معه، ولما وصل إلى الآيات أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى (النجم: ١٩-٢٠)، يُروى أنه استمر يقول: «تلك الغرانيق العلا، إن شفاعتهن لترتجى.» مما أدى إلى صدًى واسع النطاق، إذ أعلنت قريش رضاها عن محمد ﷺ وعما تلا من آيات، وقالت: «بلى؛ لقد عرفنا أن الله يحيي ويميت، ويخلق ويرزق، لكن هذه تشفع لنا عنده، وإذا جعلت لها نصيبًا، فنحن معك» … ويذكر «الطبري» أن «المؤمنين صدقوا نبيهم فيما جاءهم عن ربهم … فلما انتهى إلى السجدة، سجد المسلمون بسجود نبيهم، تصديقًا لما جاء به واتباعًا لأمره، وسجد من سجد من المشركين وغيرهم، لما سمعوا من ذكر آلهتهم، فلم يبقَ في المسجد مؤمن ولا كافر إلَّا وسجد.»٥ وروى البخاري عن ابن عباس قوله: إن رجلًا واحدًا لم يسجد لكبر سنه ووهن عظمه، «إلَّا رجلًا رأيته يأخذ كفًا من تراب فيسجد عليه.»٦ وقد سمى الواقدي هذا الرجل بالاسم في قوله: «فسجد المشركون كلهم إلَّا الوليد بن المغيرة، فإنه أخذ ترابًا من الأرض فرفعه إلى وجهه.»٧ ومعلوم أن «الوليد» كان من أشد الناس على النبي ﷺ، كما كان من ذوي الثراء بين وجهاء مكة وأشرافها، ولا شك أن موقفه هنا بحاجة إلى بعض التأمل.
وتتابع الروايات حكايتها، فتقول: إنه كان لتلك القصة المعروفة في التراث الإسلامي بحديث الغرانيق، صدًى واسع، حتى إنه وصل إلى مسامع المسلمين المهاجرين لدى نجاشي الحبشة، فقفلوا من مهجرهم راجعين بعد أن انتفى سبب اغترابهم. لكن هؤلاء التقوا في طريق عودتهم بركب منكنانة، أخبروهم أن النبي ﷺ ذكر شفعاء قريش بخير فتابعوه، لدرجة أنهم صلوا صلاته، ثم ارتد عنها فعادوا لمعاداته، فبعد أن قال «أفرأيتم اللات والعزى، ومناة الثالثة الأخرى، تلك الغرانيق العلا، إن شفاعتهن لترتجى.» عاد يقول: إن جبريل جاءه وعاتبه قائلًا: «ماذا صنعت؟ لقد تلوت على الناس ما لم آتك به من الله عز وجل، وقلت ما لم يقل.» ثم تلا أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى * أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى * تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى (النجم: ١٩–٢٢).٨
وقد عقب القدامى والمحدثون على حديث الغرانيق لنفيه، واستهجانًا له، وللإيجاز يقول «د. شعبان محمد إسماعيل» من المحدثين: «وهذه القصة غير ثابتة لا من جهة النقل، ولا من جهة العقل.»٩ ومن القدامى «أبو جعفر النحاس» الذي هاله أمرها، فقام يعلن أن «هذا حديث مفظع وفيه هذا الأمر العظيم.»١٠ وقدَّم محقق كتابه لذلك بحجة منطقية تمامًا، وهي «أنه لو أجزنا ذلك، لذهبت الثقة بالأنبياء، ولوجد المارقون سبيلًا للتشكيك في الدين.»١١ ثم أردف بما جاء عند «الواقدي» وهو يقول: حتى نزل جبريل فقرأ عليه النبي هذا، فقال له: ما جئتك به! وأنزل الله: لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا (الإسراء: ٧٤).١٢
والآية المشار إليها، لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا جاءت في عتب الله تعالى على نبيه الكريم ﷺ، في الآيات وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا * وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا (الإسراء: ٧٣، ٧٤)، ثم نجد تبريرًا قرآنيًّا لما حدث، لا مجال فيه لخلط أو لبس، يوضح أن الشيطان لعنه الله، انتهز فرصة تمني النبي القرب من قومه، فتدخل في الوحي إبان تلقيه، وألقى إليه بتلك الآيات الفظيعة، فنسخها تعالى بالآيات الصادقة. ويعلمنا الله تعالى أن ذلك ليس أمرًا جديدًا ولا غريبًا، فقد كان الشيطان يفعلها مع أي نبي من الأنبياء والرسل «المكرمين» إذا تمنى أحدهم الأمنية نفسها أو مثلها، وقد جاء هذا الإيضاح المبين في قوله جل وعلا: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آيَاتِهِ (الحج: ٥٢).

ويعقب أبو جعفر النحاس الذي استفظع الأمر على تلك الآيات، فيؤكد أنه حتى لو كان حديث الغرانيق قد حدث، وأن الشيطان وجد الفرصة في التمني، فإن النبي لم ينطق بما ألقى الشيطان، أو كما قال: «… فيكون التقدير على هذا: ألقى الشيطان في تلاوة النبي ﷺ إما شيطان من الجن، ومعروف في الآثار أن الشيطان كان يظهر في كثير وقت النبي ﷺ، فألقى هذا في تلاوة النبي ﷺ من غير أن ينطق به النبي ﷺ.»١٣ ومن هنا يحتمل أن يكون مناط احتجاجه ما جاء في آيات أخرى تقول: فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيم * إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (النحل: ٩٨–١٠٠).
هذا ما كان من أمر حديث الغرانيق، وما كان من إيضاحات القرآن الكريم لما حدث، ولكن ما يعنينا ونهتم به ويدخل في إطار بحوثنا، بعيدًا عن بحوث الدين نفسه، التي لها ميدانها وفرسانها، هو قراءة الواقع الذي حدثت فيه الحادثة، ومعرفة الظروف التي لابستها. لنفهم كيف كان القصد من الأمر فتنة قوم في قلوبهم مرض، وكيف قست قلوب آخرين فتم اختبارهم وفرزهم، وبالإطلال على تلك الفترة الزمكانية نرى الواقع لم يفرز بعد عددًا من الحواجز بين النبي وقومه، لكن كانت هناك حواجز قد قامت بالفعل، كانت من وجهة نظر المشركين هي الحواجز الأساسية والحاسمة. والمعلوم أن قريشًا لم تكن تختلف مع المصطفى ﷺ حول المسألة العقدية الأولى لدعوته، وهي الإيمان بإله واحد يحيي ويميت يخلق ويرزق، ومصدر علمنا بذلك من القرآن الكريم نفسه، والذي شهد لهم بذلك في عدد من الآيات المكرمة، ومن تلك الآيات وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ(العنكبوت: ٦١)، قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَوَاتِ السَّبْع الْعَرْشِ الْعَظِيمِ * سَيَقُولُونَ لِلهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (المؤمنون: ٨٦)، وغير تلك الآيات بالمعنى نفسه كثير. لكن وجه الخلاف، والحاجز الكبير، كان يتمثل في دعوة النبي ﷺ لإسقاط شفاعة الشفعاء من أرباب قريش الممثلين في تماثيل، إذ اعتقد الجاهليون أن أسلافهم، وبالذات من كان منهم صالحًا أو متميزًا بفعله، قد اقترب من الله الواحد رب السموات والأرض واكتسب رضاه؛ ومِن ثَمَّ يمكن أن يكون ذا قول مقبول عنده، فقاموا يبنون للأسلاف الصالحين المحاريب، وينحتون لهم التماثيل، إضافة إلى بعض التماثيل المستوردة، بغرض اتخاذهم شفعاء إلى الله مقبولي الدعاء، وبحبسان الإنسان بخطاياه بعيدًا عن الله تعالى، وأن ما يحمله من أوزار يجعله بمنأى عن القرب من الإله العظيم. ومن هنا اتخذت كل قبيلة لها شفيعًا من أسلافها، يقوم بنقل نجواهم ومطالبهم للإله رب الكون، وعادة ما كان ذلك الشفيع هو سيد القبيلة الراحل ورمزها وعلمها وضامن وحدتها وتضامنها، حتى ذابت فيه القبيلة، ولم تعد تقبل سواه سيدًا وربًّا وشفيعًا، وهو الأمر الذي ساعد على زيادة الفرقة القبلية، نتيجة اعتزاز كل قبيلة بنسبها إلى ذلك السيد الشفيع، وهكذا كانت دعوة النبي ﷺ إلى إسقاط الشفعاء، إنما تعني إسقاط الأطر القبلية، بل وتفجيرها تمامًا، من أجل توحد أكبر لكل القبائل، وهو ما كانت ترفضه الأعراف القبلية وتنفر منه.

#ادمن يوسف


يمكنك دعم الموقع من هنا
مؤسسة ندى لحماية الفتيات

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى