كتّاب

مرعب أن تشعر وكأن عصفورا طار من صدرك، أن تشعر بقلبك وكأنه…


مرعب أن تشعر وكأن عصفورا طار من صدرك، أن تشعر بقلبك وكأنه يحاول القفز للأعلى، يلوح بيده بين جنبيك، يكبر يكبر ثم ينهار على نفسه لأربع مرات متتالية في أقل من عشرين ثانية.

إنه القلب حين يحلق دون أن يقول لك تماسك، ضع حزام الأمان، وإذا كنت مصابا بفوبيا الأماكن المرتفعة لا تنظر للأسفل.

لقد مر يوم وليلة من التوتر، كنت فيها كحارس في مكان موحش يتوكس من كل شيء، كمناضل أخير في جبهة مفتوحة لا يعلم من أين يقفز عليه العدو، لحظات طويلة تداخلت فيها كل الأسئلة والاحتمالات.

ومع الفجر، كان يجب أن ينبثق الضوء لكن عيون الخوف معتمة حتى لو كانت في جمجمة الشمس.

لقد كنت أشعر وكأن في كل نجمة وجع وفي كل مقبرة أنين وفي كل أغنية دموع، بدأت أتحسس الولد بمحبة وقلق، وأنظر إلى أمه بحزن وتعلّق، وأصغي بهدوء وحذر إلى ذلك التنمل في أطراف يدي اليسرى الذي يشبه دهشة زجاجة نبيذ أحمر في أطراف قصيدة لم تكتمل.

لم يعد الخوف يحتمل، لقد عاد الانترنت أيضا بعد غياب ليلة كاملة، كانت قوقل بضغطة زر قد رمت أمامي كل التوقعات وزادتني غموضا وتوجسا، ومن محرك بحث قوقل، انتقلت بخفة راقص برع إلى ماسنجر، كان يحيى الثلايا في أول قائمة العلامات الخضراء للأصدقاء المتصلين، إسمع، يبدو أن عندي أعراض جلطة تعال نخرج مستشفى هيئة مارب.. لا ياراجل ولا فيك شيء بطل جنان، هكذا رد وبدون أن أترك له فرصة للنقاش قلت خلاص هجعني.

وفي أقل من دقيقة، لبست وأيقظت زوجتي بصوت مطمئن: حبيبتي أنا بخرج أسعف صالح السلامي للمستشفى قال تاعب شوي، لا تقلقي ها، وألقيت نظرة عليهما.. إلهام وحبيب، وغادرت إلى أكبر مستشفى في مأرب، مستشفى الهيئة، وحين وصلت بوابة المستشفى وفتح لي الحارس بعد أن جاوبت على أسئلته القصيرة، وبمجرد أن دخلت حوش المستشفى، بدأ ينتابني إحساس أسود وكأنني دخلت مقبرة مهجورة وليس مستشفى حكومي، لا شيء يبعث الطمأنينة.. يا إلهي هل ذهبت إلى الموت على قدمي.. هل دخلت هذه المقبرة بالخطأ.. هل كل هذا الخوف واقعي؟! سيل من الأسئلة قطعتها بسؤال للحارس.. ليش مغلقين؟ ولم أتأكد إن كان هو الذي رد علي أم الجدار، لكني فهمت أن بوابة الطواريء في الخلف، وفي الطريق إلى المدخل الخلفي، قررت أن أرد على اتصال يحيى الثلايا الذي يتصل منذ أن أغلقت الماسنجر وخرجت من البيت لكني لم أرد عليه لأنه لم يأخذ تخوفاتي بشكل جاد في اللحظات الأولى من حديثنا، وبمجرد أن سمعت صوته كنت أتمنى أن يقول لا تقلق أنا على شمالك، جهة القلب تماما، كنت أريد أن يخلصني من وحشة وموت المستشفى المقبرة، لكنه قال أنا قريب منك، قلت أنا في الهيئة، قال اخرج فورا تعال مستشفى السلام أنا هناك منتظرك، ولا أدري إن كنت استجبت لرغبته أو هربت من جثة مستشفى هيئة مأرب، لكني خرجت من المقبرة إلى بقالة السلام حيث ينتظرني صديقي.

– هنا حيث لا مستشفيات محترمة، ولا ضمير طبي، ولا رقابة حكومية حازمة تحدد المواصفات وتشرف على الخدمات –

وفي البقالة، وهذا ليس انتقاصا منها لأن كل الجدران الأخرى التي تحمل اسم مستشفى ليست أكثر من دكاكين تجارية قذرة ذات رائحة مقرفة ومنظر كئيب ولافتات براقة.. المهم، هناك كان شاب طواريء طيب، لا أدري إن كان طبيبا أو له صفة أخرى لكنه كان لطيفا، أخبرته بقصة العصفور الذي طار من صدري فوضع جهازا صغيرا في أصبعي وأعطاني قرصين إسبرين وقاس لي الضغط وتكلم أخيرا، أمورك كويسة، الضغط 70% 100 والنبض تمام وتدفق الأوكسجين في القلب طبيعي.. وأنتهى كل شيء في خلال عشر دقائق، وأخذنا منهم جعالة للقلب، إسبرين، لم أقتنع، وخرجنا بخيبة وقلق مضاعف، قلت لصاحبي نروح نرقد وبعدين أعمل تخطيط، لكنه كان يؤكد لي أنه لا داعي فأنا بصحة جيدة كما أخبرونا في البقالة، وفي الأثناء رد على اتصال الدكتور عبدالرقيب الحيدري الذي كان قد تواصل به يستشيره، المهم صديقنا في الاتصال كان يميل لرأي أن أذهب إلى طبيب مختص، لكن أين في هذه الصحراء وفي هذا الفجر البارد كالموت؟
قال الثلايا في مطعم الشيباني وهناك أحسست بتعاطف كبير مع كبد الكبش، تركتها لصاحبي وشغلت نفسي بقشاقش الخبز اليابس المتناثر حول واحد دبل ملوح، ولقد خطر ببالي في تلك اللحظة أن تمسية ذلك النوع من الخبز تعود إلى قيس ابن الملوح، تخيلته يابسا وصعبا على المضغ لكن ليلى كانت دائما كوب شاي أحمر.

عدت إلى البيت كما خرجت، بالقلق والتوتر والخوف، أيقضت شعبي العظيم.. يلا صبوح شريت لكم فاصوليا ناشف تجنن، كان حبيب يترنح وأمه تسأل أيش فيه صاحبك قلت لها ولا شيء صداع من القات العنسي الذي يأكله، يأكل قاتا كثور.. كيس القات حقه يتسع لجثته الضخمة، يترك أمامه نصف طن كفتة كل يوم، صالح السلامي هذا إنسان طيب وكان لا بد أن أخرج معه لأنه هنا وحيد مثلي بلا أصدقاء ولا أقارب في الحكومة والصحراء، والآن سينام ويصحو بخير، لقد أكل فطور اثنين ” أنا وصنعاء” .

أنا أيضا ذهبت إلى النوم، لكن مخاوفي لم تنم، ظل عقلي شغالا وكأنني بكامل الوعي، وتألق الوعي الباطن في صنع الأحلام المنامية، كنت أبحث عن طبيب ينقذني، دخلت مستشفى خيالية، لم أجد إلا صاحب البقالة في الطواريء كان يتصل على الأطباء لا أحد يرد، قال أحدهم وكان يبدو حكيما: اتصلوا للمقوت شملان أو الدكتور علاء الأغبري، نظرت إليه باستغراب وغضب، شملان مقوت ما دخله في الموضوع، قال الحكيم هو طبيب قلب شاطر لكن ظروف الحرب جعلته يبيع القات البلوط، أما علاء الأغبري فهو طبيب باطنية محترم ويحظى بسمعة جيدة، زرته مرة، قال الضغط مرتفع عندك، وسأل هل أنت عسكري، قلت له أنا عامر السعيدي.. معقول هو أنت يبني أنا بطلت أتابعكم أنت ضروري تبطل تكتب وتبطل القات، حاول تسافر أهرب، أخرج من اليمن..
قلت في نفسي لن أترك اليمن ولن أترك القات، كنت سعيدا أنه طلع يعرفني، أبعدت الكمامة من على وجهي وغادرت…
هذه المعرفة السطحية للدكتور هي التي جمعت بين الطبيب والمقوت في كابوس واحد.. كابوس القلب، ولقد اخترت الذهاب إلى المقوت وتركت الطبيب، في الحلم طبعا، ذلك لأني حين عدت إلى الدكتور علاء الأغبري في زيارة طارئة قبل أسابيع، لم أتمكن من التسجيل لأنه مغلق بسبب الزحمة فقلت للمساعد في الباب قل للدكتور عامر السعيدي يريد أن يراك، أخبره وحسب هو صديقي، لكن الدكتور قال أنه مشغول، فعدت إلى أدراجي وأنا أتوهم أنه جرحني إذ لم يستقبلني بالأحضان ما دام يعرفني، توهم المتعب لا المغرور.

المهم، في الواحدة ظهرا أيقظتني زوجتي وأخبرتني أن الغداء جاهز، أكلت بلا رغبة، ما زلت أشعر بالخوف من قلبي، وبعد الغداء ذهبت إلى شملان أخذت قات وعدت اتصلت بالدكتور حسن الخميسي وأخبرته بما جرى، أصر أن نخرج فورا إلى المستشفى وحين تلاقينا أخبرني أن لديه طبيب قلب جيد وهو صديقه، اتصل عليه، ألوه دكتور علاء معي صديق عزيز علي لديه مشكلة وضروري نشوفك الآن، أجابه أنه ضروري من عمل تخطيط قلب وإيكو وفحوصات دم ولا يوجد أجهزه حيث يعمل ونصحنا بالذهاب فورا إلى بقالة الحياة حيث تتوفر لديهم أجهزة ولا يتوفر أدنى حد من النظافة أو ما يوحي أنك في مشفى، حتى مناديل فاين لمسح ذلك السائل اللزج على الصدر بعد المعاينة، لكن لا خيارات أسرع.

المهم، أجرينا تخطيط قلب وإيكو وفحوصات.. ألقى الدكتور نظرة وأسئلة، وقال وهو يعود إلى مقعده لا توجد إي مبررات للمخاوف، عضلات قلبك شابة، الصمام قوي، لكن لديك بداية روماتيزم وسرعة نبض لكنه متتظم وليس مضطرب، خذ هذا الدواء لتنظيم دقات قلبك وعد بعد أسبوعين.

عدت للبيت بملف طبي ودواء، أخبرت زوجتي بالحقيقة، اعترفت لها، كنت أكذب أن صالح السلامي هو المريض، أنا لم أقم بأي عمل إنساني نبيل كما أوهمتك، فعلت ذلك لكي لا أفجعك، تكفي فجيعتي.. بكت قليلا وتفهمتني وقالت أوعدني ما تخبي علي مرة ثانية، قلت لها أوعدك.

كنت أشعر كأنني خلقت من جديد، تعشيت وجلست مع أسرتي الصغيرة وكأن الدنيا كلها تحت تصرفي.

بقيت مشكلة صغيرة، قلت..

لن أستخدم الأدوية إلا بعدما أستشير الدكتور مروان الغفوري، إنني أثق به كثيرا.

قمت بتصوير الملف الطبي وكتبت رسالة قصيرة للدكتور..

مساء الخير دكتور، أنا عامر السعيدي من جزر القمر، أود رأيك فيما ترى..
وبعد دقائق جاء رد الغفوري..
حبيبي عامر، فحوصاتك كويسة، وهذه موجات فيسلوجية عادية، لا تستخدم أي علاج، بدري على القلب يا عامر.

هااح.. أخذت نفسا عاليا، ابتسمت، وزعت الأحضان والقبل على الحاضرين، وبدأت حياة جديدة.. بدأت التخزينة، لا نريد أخبار دعونا نغني، أخذت ريموت التلفزيون وفتحت أول قناة أغاني، أول مرة أسمع هذه الأغنية، أظنها مناسبة، ما رأيك يابنت، قالت وهي تلاعب طفلها دون أن تلتفت، أيش يقولوا؟
أرد أنا .. لا شيء، لم أفهم كلمة واحدة، لكن اسمها قشطة وزبادي، وفعلا هذا اسم الأغنية.

ضحكنا وأخذت منها حبيب طيرته في الهواء مرتين وقلت له يا ولد أنت يا قشطة يا زبادي، وضممته على قلبي.
المجد للقلوب ❤

يمكنك دعم الموقع من هنا
مؤسسة ندى لحماية الفتيات

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى