مجتمع الميم

الصدرية الأصغر مقاسًا – ترانسات Transat


 

كتبت: ملك الكاشف

 

 

أزرق ، وردي ، دمية ، مسدس ، لحية ، ثدي

 

 إن الاختباء خلف مصطلح ما يجعل دائما الأمر أسهل، ليس على مستوى الاستيعاب وإنما على مستوى الحكي والتوصيف، فمثلاً إن قال لي أحدهم أنه تعرض لعنف جسدي سأفهم أن شخصاً ما قد اعتدى عليه، ومع الاستمرار في الحكي سأفهم ربما جانب من القصة، لكن ما سوف يظل مجهولاً بالنسبة لي هو الذي شعر به ذلك الشخص في تلك اللحظة، وما ترتب عليه في وقت لاحق .

 

لقد نشأت في منزل كباقي الأشخاص يضع خطًا واضحاً يفصل الرجال عن النساء، ويحدد صفات كل جنس، خطُ يمتد للملابس والألوان والعمل وحتى التفاعل العاطفي والإنساني فمثلا يجب أن يلبس الأولاد ملابس زرقاء أو سوداء وأن تلبس الفتيات الزهري والأحمر، أن ترتدي النساء تنورة أو فستان و أن يرتدي الرجال بذلة و قميصاً، أن يمتلك الرجال لحية وشعر قصير وأن تمتلك النساء أثداء وضفائر طويلة. في ذلك العمر كنت طفلة يَملي عليّ الأخرين -وتحديدا أسرتي- كل تلك القواعد لكوني ذكراً يعكس صورة والديه وربما يصبح (راجل البيت) بعد أن يشيخ والده .

 

لم تسر الأمور في ذلك السياق جيداُ فقد كنت أشعر بأنني امرأة، ولازلت، وحين واجهت أسرتي خسرت كل ما يمكن لشاب في المجتمع المصري الحصول عليه وتركت منزلي في رحلة اللاعودة. بعد رحيلي من المنزل وجدت أن ذلك لا يتعلق بأبي وأمي فقط، وأن مجتمع بالكامل ينتظر مني أن أسير وفق الخطة .. خطة فرضها المجتمع يلتزم بها كل رجل وامرأة بتوازيٍ واحترام للأدوار المنوطة اجتماعيا، والخروج عن تلك الخطة بمثابة تخلي عن أي امتياز يحصل عليه الأخرين، ليس على مستوى امتيازات الرجل عن المرأة وإنما امتياز الأمان وحق التعلم والعمل. وخوفي أن أفقد امتيازاً لم أحصل عليه في الأساس جعلني استتر بدوري خلف نمطية النوع الاجتماعي والشكل النمطي المحافظ للجندر وقضى على أي نية للتحدث عن حرية الهوية الجندرية، فعندما أعلنت عن هويتي اجتماعيا اضطررت للقول أنني أملك دموراً في جهازي التناسلي، وأنني أملك رحماً داخلياً، وأنني أعاني من خلل في الهرمونات! في محاولة للتمسك بذلك الخط الفاصل بين النمطية واعمالا بمبدأ: أن أكون ضمن الثنائية الجندرية أفضل من ألا أكون من الأساس .

 

تلك الكذبة تحديداً هي ما جعلت مجموعة من الفتيات (كنت أعيش معهن في ذلك الوقت) يجبرنني على خلع ملابسي الداخلية بحجة أن مبلغاً ما من المال قد فُقد وأنني الوحيدة التي قد تخفيه في ملابسها الداخلية! ليتأكدن فقط من ذلك الدمور وبعد رؤيتهم لأعضائي التناسلية غير الضامرة ألقين بي في الشارع وأنشأن حملة لتكذيب قصتي وقصة عبوري وللتشكيك في كوني امرأة، لا أفضل أن أتذكر ذلك الوقت تحديدا لأنني وقتها اضطررت للاعتذار عن شئ لم اقترفه، شيء أقتحم جسدي و لم استطع ان أرفض، خوفاً من التشرد. الشئ الوحيد الذي أتحمل لأجله كل ذلك الخوض في ذكرياتي هو أن حملتهن تلك لم تتوقف عند ذكر سلامة “عضوي التناسلي” وإنما امتدت لما هو أبعد .. أنني أملك لحية وشعري قصير وملامحي ذكورية ولا أملك ثدي ممتلئ.. كل ذلك جعلني أشعر على مدار وقت طويل بعدم الرغبة في النجاة، كنت وحيدة تماماً، أنفصل عني شريكي، وكنت أنام على مقاهي عامة. أما على مستوى علاقتي بجسدي فقد ساءت تماماً، أصبحت أجرح يدي عمداً وأرتدي ثلاثة “بناطيل” وسترات مقفلة وطويلة و”آيس كاب” كي أداري كل مَعلَم سخرن منه .

 

بعد مرور عام على تلك الواقعة تحسنت علاقتي بجسدي، عندما قررت أن أفصح عن هويتي الجندرية كما هي، بل وأصبحت لا أخفي أن رغبتي في تصحيح جنسي تنبثق من شعوري نفسه بأني امرأة حتى وإن كان الشكل الخارجي لا يشرح ذلك جيداً، وحتى إن كنت أمتلك أعضائاً سليمة، الأمر يشبه السعادة والحزن، ليس في مضمونها الشعوري، وإنما في القدرة على إخفاء ما نشعر به داخلياً، وفصلة عما يظهر خارجنا. ومع الوقت أصبحت في دوائر أكثر وعياً، دوائر ليس لديها مشكلة في أن تكون أعضائي مختلفة عن شكلي الخارجي، وأن أرغب في التصحيح. ولكن ذلك الوعي والتقبل كان مشروط بالتزامي بالمعايير النمطية للأنوثة التي لا يجب أن أحيد عنها فمثلا لم يكن يتضمن ذلك الدعم احتفاظي بأعضائي التناسلية ولم يكن يتضمن أن أقص شعري أو أن أتوقف عن تعاطي العلاج الهرموني فأصبح بلا ثديين، ولم يكن يتضمن أن ارتدي ملابس محايدة الجنس (يوني سكس) لأن النساء لا يفعلن تلك الأمور! عدت مرة أخرى لسؤالي “ما الذي تتطلبه الأنوثة تحديداً؟ وما سماتها؟” واخترت مرة أخرى أن أخضع لمعايير الأنوثة المفروضة اجتماعياً، فأصبحت ارتدي وصلات الشعر، وأحلق ذقني يومياً حتى يحترق جلدي من احتكاك الأمواس واتناول العلاج الهرموني كالمقبلات.

 

أصبحت وبسبب تلك الخطوات اليومية المرهقة أبدو قليلاً كامرأة نمطية، فيخاطبني الغرباء ب”إنتي” و يراني شريكي العاطفي جميلة ومناسبة لرغباته. ساعدني هذا على الانخراط في العمل العام، مرة عن طريق ظهوري في البرامج والجرائد، ومرة في ورش توعوية. وفي خضم كل ذلك أسمع مجاملات يومية من زملائي ومتابعيني، كـ”شكلك ست أوي مش عارفة إزاي كنتي ولد!” أو “إنتي ست أكتر مني” أو “إنتي فيكي أنوثة أكتر من أي بنت عرفتها”. وهو الأمر الذي كان يسعدني، ولكن ذلك لم يدم طويلاً، ففي أي زيارة لأصدقائي لي في منزلي كانت هناك أوقات تنزف فيها بشرتي بسبب الحلاقة اليومية، وكنت أتوقف عن تعاطي العلاج الهرموني الذي لا استطيع متابعة تأثيراته مع طبيب، وكنت أربط شعري للوراء فتظهر فراغات رأسي و كان ذلك كافيا لتحويل المجاملات الى جمل كـ” ماتعملي ليزر شكل وشك وحش أوي ” أو “خدي هرمون تاني عشان أنا حاسس إني مرتبط براجل” أو “ماتلميش شعرك لورا شكله كده أحلى “حتى انهارت ثقتي بجسدي مجدداً .

 

الأمر غير المتوقع في وسط كل هذا كان اعتقالي الذي غير كل ذلك! لكنه في الواقع أيضاً أكسبني ثقة بجسدي لا مثيل لها، فقد كنت معتقلة في انفرادي وسط ضغط دولي ومحلي يعطيني الفرصة أن أشرح لأول مرة وبوضوح من أنا! وما هي هويتي! وما الذي يحدد ذلك! وهل للمعايير الشكلية ضرورة ملحة! ضربت الثوابت جميعاً، فلم يكن هناك مصير أسوء قد يؤول اليه وضعي، إذا ما اخترت ان أتحدث صراحة عن هويتي! عندما كانو يسألوني كيف تملكين لحية ! كنت أجاوب ببساطة أن كل النساء يمتلكنها.. لماذا لا تمتلكين ثدي! كنت اجاوب بأني لم اولد به ولا أملك رفاهية الحصول على واحد.. كانت تجربة السجن هي “اللحظة الفاصلة التي لا تعود الحياة بعدها كما كانت من قبل”، وذلك التغير لم ينحصر فقط في علاقتي بالمجتمع والعمل والدولة، بل وعكس المتوقع كان المكان الذي صمم لحبس أجساد الأخرين هو من أعطى جسدي الشعور بالحرية.

 

وبعد عام من النقاشات والأفكار والأسئلة التي لا تطرح إلا في مكالماتي مع رفيقتي وصديقتي المقربة “مهى” اكتسبت وعياً أكبر. أو كما تقول هي “أصبحت رؤيتي أوضح”. وقادني كل ذلك لما هو أبعد من حلاقة الذقن ووصلات الشعر. قادني لنقطة أرى فيها جميع النساء يرتدين ملابس محايدة للجنس، ويحلقن شعرهن بالكامل إذا أردن، ولا يسمحن بالسؤال عن الذي يملكنه أسفل ملابسهن، لا يعبئن بإظهار الأنوثة ولا يدخلن في صراع من أجل إثباتها كما نجبر يومياً! وعندما دارت التساؤلات داخل رأسي توصلت لإجابات أبعد من مجرد مفهوم الامتيازات، وأقرب من الواقع نفسه، الواقع الذي يقول أننا نجبر دائماً على مواكبة النمطية، لأن الحياد عن ذلك لا يعني سوى حرباً نجبر فيها على تبرير هوياتنا وملامحنا والشكل التشريحي لأجسادنا، بل اننا نجبر على شرح ما نشعر به! ليس فقط في نطاق الحكي و إنما أيضاً من أجل إثبات هوياتنا! فيؤدي بنا ذلك إلى قمع من نوع آخر، فإن كُنت مثلية مثلاً لن أصرح عن حبي لامرأة خوفاً من أن أخسر مصداقية هويتي. وإن سُألت عن طفولتي لا أستطيع مثلاً أن أقول أنني كنت أحب المسدسات وألعاب الحرب، ويجب أن أتحدث فقط عن حبي للدمى! إن عبء إثبات الهوية أصبح قاسياً ومؤلماً .. ذلك الألم الذي سيقودنا نحو ثورة تنزع فيها الملابس حتى آخر قطعة، ويحلق فيها الشعر عن آخره، ويهدم كل ما بني على النمطية كأساس، وتظهر صدريات -هي الأصغر مقاساً على الإطلاق- وهي خاوية.

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ملك الكاشف.. كاتبة عابرة جندرياً

العمل الفني للفنانة العابرة “نور الجندي”

 



Source link

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى