مفكرون

مملكة الأساطير في التوراة والتاريخ…


مملكة الأساطير في التوراة والتاريخ

يزعم الكتاب المقدس (العهد القديم) أن إبراهيم أرومة العبريين قد جاء إلى أرض كنعان / فلسطين، قادما من موطن أطلقت عليه مرة (أور الكلدانيين) ومرة (بلاد حاران) (1)، ليسكن جنوبى أرض فلسطين (النقب) التى أطلقت عليه المأثورات اليهودية الكلاسيكية (أرض الأحبار) أى أرض الأجداد الآباء البطاركة الأوائل إبراهيم وإسحق ويعقوب والأسباط.
ويحكى المقدس التوراتى أنه قد حلّت ببلاد كنعان سنوات عجاف “وجوع شديد فى الأرض” وكعادة البدو على حدود مصر، لجأ إبراهيم مع زوجته سارة إلى وادى النيل المصرى درءاً للموت جوعاً، وحصل من ملكها على خير جزيل وثروة عظيمة بعد أن زّوَج الفرعون سارة زوجته، بعد أن زعم أنها شقيقته وليست زوجته. وعاد مرة أخرى إلى أرض الأحبار.
ومرة أخرى تعود كَرّة الجفاف والجوع لتعم المنطقة بأسرها زمن الأسباط، لكن مصر تنجو من الجوع بحكمة يوسفية، حيث تمكن ذلك البدوى المتجول بعد أن بيع عبداً فى مصر أن يصل إلى أعلى المناصب بدهاء إسرائيلى متميز، وأن يفيض بحكمته على مصر وشعبها بتخزين الحبوب للأعوام العجاف، وتنجو مصر وتفيئ بخيرها على روادها من جيران جوعى.
لكن الظروف فى مصر تتغير فجأة بالكلية، ويأتى طاقم قيادى جديد إلى سدة الحكـم، ويتنكر السادة الجدد للأفضال الإسرائيلية ويستعبدون بنى إسرائيل فى أعمال المعمار والإنشاء بقسوة.
وبعد مرور 430 عاماً فيما تزعم التوراة العبرية المازورية أو 215 عاما كما تزعم التوراة السبعونية، خرجت سلالة الأسباط من مصر تحت قيادة شخصية جبارة هى شخصية موسى أول أنبياء بنى إسرائيل، بعد أن دمر الرب يهوه مصر تماماً وتركها خرابا، وعبر الخارجون البحر المنشق بمعجزة العصا الثعبانية إلى برارى سيناء فى طريقهم إلى فلسطين مرة أخرى.
ويقضى الخارجون سنتين ارتحالا حتى يحلّوا فى مدينة فى أقصى شرقى سيناء على حدود النقب باسم (قادش برنيع) أو (قادش عين مشفاط)، ويقضوا هناك ثمان وثلاثيـن عاما حتى تمكنوا من غزو فلسطين من شرقها عبر نهر الأردن عند أريحا شمالى البحر الميت. وبذلك يكون قد انقضى منذ خروجهم من مصر إلى غزو أريحا حوالى أربعين عاما. تعرف اصطلاحاً باسم سنوات التيه.
ويعيش الخارجون على هامش الحياة الكنعانية فى فلسطين تحت حكم القضاة القبلى، حيث كان القاضى هو شيخ القبيلة، ويزعم المقدس أن زمن القضاة قد استمر حوالى أربعـة قرون أخرى حتى قامت للإسرائيليين أول مملكة فى فلسطين، تلك التى أسسها شاؤول بعد أن اختاره للعرش الكاهن القاضى صموئيل، بضغط من أفراد الشعب الذين طالبوا بالتحول عن نظام القضاة البدوى إلى النظام الملكى المركزى أو كما قالوا لصموئيل فى التوارة ” اجعل لنا ملكا يقضى لنا كسائر الشعوب / صموئيل أول 8 / 5 “. ليحكم شاؤول على إسرائيل جميعاً أو على إسرائيل ويهوذا معا.
ويظهر شاب وسيم طموح باسم داود يتمكن بعصابة من شذاذ الآفاق وبمجموعة مـن الحيل السياسية والمؤامرات المدروسة، يتمكن من إنهاء حكم أسرة شاؤول ويقفــز علــى العـرش وبعدهــا يصبـح داود هـو المـؤسـس الحقيقـى لــدولـة إسرائيل الموحدة. بعد أن تم تفسير تلك الأحداث السياسية وفق رؤى دينية حيث ستفسر الملكية بعد ذلك باحتسابها عهداً بين يهوه وبين داود وسلالته وأولاده يمتد إلى العهد القديم مع البطاركة الأوائل.
وتوطدت سلطة داود المركزية، ثم من بعده سلطة ولده سليمان الذى تمكن من تحجيم دور الكهنة ونفوذ الأنبياء الكثر، حتى أن داود بدأ يعين الكهنة بنفسه (انظر صموئيل الثانى 8 / 17 و 20 / 25 ، 26) ويؤدى بنفسه الوظائف الكهنوتية ليجمع بيديه السلطة الزمنيـة والسلطة الدينية فى ديكتاتورية متكاملة. رغم أن تقديم المحرقات أو الذبائح أو القرابين للإله كانت قاصرة على الكهنة اللاويين بأوامر الرب يهوه فى شرائع موسى، وكان العقاب صارماً لمن يفعل ذلك من غير اللاويين وينتهى بالموت. وهو السيناريو الذى تم بموجبه تصفية بيت شاؤول لأنه أقدم بنفسه على كسر احتكار الكهنة وتقديم القرابين بنفسه. لكن لأن للقوة منطقها فقد تمكن داود من أن يجمع السلطتين فى يده دون أن يخشى أحداً ولا حتى الرب يهوه نفسه، ” وأصعد محرقات أمام يهوه وذبائح سلامة، ولما انتهى داود من إصعاد المحرقات وذبــائــح الســلامـة بــارك الشعب باسم يهوه رب الجنود / صموئيل الثانى 6 / 17 ، 18″.
وعندما جاء ولده سليمان جازف أكثر حتى أنه عندما اختلف مع الكاهن الأكبر أبيثار ” طرد . . أبيثار عن أن يكون كاهناً ليهوه ” أى أنه استبعد الكاهن الأكبر ليهوه والذى كان زمن داود كاهناً أولاً لتابوت العهد فى معبد يهوه المركزى، لكن كتابع لداود الملك (انظر ملوك أول 2 / 26 ، 27). وهو ما دفع بالكهنة إلى صياغة مؤامرة كبرى ضد سليمان تزعمها النبى أخيا الشيلونى (أى أخيا الذى من قرية شيلوه)، بمشاركة أحد المقربين من الملك ويدعى يربعام، ويدين المحرر التوراتى يربعام وكيف تجرأ ورفع يده على الملك (ملوك أول 11/26)، وتتضح المؤامرة من النص القائل:
وكان فى ذلك الزمان لما خرج يربعام من أورشليم أنه لاقاه أخيا الشيلونى النبى فى الطريق، وهو لابس رداء ًجديداً وهما وحدهما فى الحقل. فقبض أخيا على الرداء الجديد الذى عليه ومزقه اثنتى عشرة قطعة، وقال ليربعام خذ لنفسك عشر قطع، لأنه هكذا قال الرب إله إسرائيل: ها أنذا أفرق المملكة من يد سليمان وأعطيك عشرة أسباط، ويكون له سبط واحد.
ملوك أول 11 / 29 – 32
والنص هنا يصبح واضحاً عندما نعلم أن يربعام هذا قد قام بثورة ضد رحبعام بن سليمان بعد موت سليمان، واستقل بعشرة أسباط عرفت فى التاريخ باسم الأسباط الإسرائيلية، وأقام مملكة شمالية عرفت باسم إسرائيل، وترك الجنوبية لرحبعام بن سليمان وهى التى عرفت بمملكة يهوذا / الجنوبية، وتفككت دولة إسرائيل المتحدة أو كل إسرائيل إلى دولتين غالباً ما كانتا بعد ذلك متعاديتين.
ولما كانت تلك مصيبة كبرى قد حلت بالمملكة وكان يجب الاعتراف بها، ولما كان يهوه ربا محبا لشعبه يرجو له الخير، ولأن ما حدث لابد كان قد حدث بإرادة يهوه، ولأن ما حدث كان شراً مستطيراً، لذلك لجأ المحرر التوراتى لتبرئه يهوه وإلقاء اللوم على شعبه، ولو سألنا يهوه لماذا فرقت مملكتك وشعبك؟ فإنه يرد ويقول:
لأنهم تركونى وسجدوا لعشتروت آلهة الصيدونيين ولكموش إله الموآبيين، ولملكولم إله بنى عمون.
ملوك أول 11 / 33.
وعلينا هنا أن نلاحظ أمراً له أهميته وهو أن أمهات ملوك بنى إسرائيل كن غير إسرائيليات، فداود يعود إلى جدة موآبية باسم راعوث، وأبشالوم ابن داود من أم جشورية اسمها معكة، وسليمان ابن بتشبع الحيثية، ورحبعام ابن سليمان من أم عمونية (انظر صموئيل الثانى 3 / 2 وملوك أول 14 / 21).
وملحوظة ثانية مهمة وهى أن الإسرائيليين عندما قرروا إنشاء مملكة والتحول إلى المركزية، لم يكن لديهم مراسم تتويج معلومة، ومن هنا أخذوا مراسم التتويج عن مصر القديمة، وهو دهن المسحة أو المسح بالزيت، ومن هذه المراسيم ظهرت أهم الأفكار الإسرائيلية، لأن منشأ كلمة (شيحا) العبرية يعود إلى طقس المسح بالزيت المقدس تتويجاً للملك على العرش، أو رسم منصب الكاهن الأكبر. وتمثل الطقس التتويجى بصب الزيت أو مسحه على رأس الممسوح أو جبهته، وبعد ذلك يتحول إلى شخص مقدس لا يُمّسْ، آمراً ناهيا باسم الإله (أنظر صموئيل الأول 26 / 9)، وبعد مسح الملك يصبـح مسيحـا (؟!).

وحتى تقوم الدولة المركزية وتتوحد مجموع القبائل المتناثرة أرجع المحرر التوراتى ذلك التوحد إلى الزمن القديم، فاخترع قرابات دم بين الآباء البطاركة الأوائل أسلاف تلك القبائل، وألقى بوحدة إسرائيل فى مرآة التاريخ القديم إلى وحدة عنصر ودم قرابية تأسيسية، رغم أننا سنعلم من هذا البحث أنهم كانوا قبائل ضمن مجموعات قبلية عديدة لا ترتبط برابطة الدم قدر ما ارتبطت بروابط المصالح المشتركة.

ورغم أن سيرة داود بالكتاب المقدس تشير إلى شخص نفعى داهية يضحى بأى كم من الدماء لتحقيق مآربه، ويعقد التحالفات حتى مع أعداء شعبه، وكثيراً ما أظهر ورعا زائفا بينما كان يسعى لتحقيق مصالح دنيوية بحتة. فإن المحرر اللاهوتى اللاحق رفع داود إلى موضع المختار من يهوه شخصيا، ووضعه فى مصاف القديسين، لأن يهوه قد
وفنان أيضـاً ينشد المزامير على آلات الطرب، ” وكان أشقراً مع حلاوة العينين وحسن المنظر . . يحسن الضرب بالعود / صموئيل أول 16 / 12 ، 17″.
وبشأن داود يقول (روجية جارودى) فى كتابه الذى كتبه بعد إشهار إسلامه وترجمه له الداعية الإسلامى عبد الصبور شاهين:
حينئذ بدأ الصعود الرهيب لداود الذى جعل من إسرائيل قوة سياسية. كان داود فى بداية أمره حامل سلاح لشاول (صموئيل أول 16 / 21) ثم ابعده شاول لأنه كان يغار من انتصاراته ضد الفلسطينيين (28 / 8) بل حاول قتله (18 / 11 و 19 / 10)، فهرب داود فى جبال الضفة الغربية لنهر الأردن حيث كون عصابة مسلحة قوية للغزو (25 / 13) كما كان يفعل الخابيرو قديما، وعمل داود مع مرتزقته فى خدمة الفلسطينيين الذين كانوا فى حرب عنيفة ضد إسرائيل . . ولم يكن الأمر فى هذه الغارات أمر تحريم أو إبادة مقدسة أمر بها يهوه الرب كما كانت الحال على عهد يشوع، إنما كانت مجرد عمليات سطو مسلح دنيوية محضة وسياسية، قامت بها المملكة التى سوف يشيدها داود، لا مع الفرق المجندة من الأسباط، بل مع جنده المحترفين من كل جنس . . ولما كان داود قد تزوج من ميكال ابنة شاول فقد كان صهراً للملك القديم (18 / 22 – 27)، وهو ما جعله خليفته الشرعى ، عند ذلك تدخل الفلسطينيون للمرة الأخيرة فهزمهم داود،
لا بواسطة جيش الأسباط بل بالمرتزقة المحاربة. داود ورجاله (صموئيل الثانى 5 / 12). ( )
ويزعم المقدس أن داود تمكن فى سنوات قلائل من إقامة دولة كبرى أخضعت بلاد جيرانها مثل آدوم وموآب وعمون، بل وأجبر الأراميين فى دمشق على دفع الجزية، وأخذ أورشليم من اليبوسيين واتخذها عاصمة لملكه. وجعل ليهوه مقراً واضحاً بنقل التابوت المتجول الذى ينام فيه يهوه، لينقله من حالة البداوة المرتحلة إلى حالة الاستقرار المدنى، وأعطى أورشليم قدسية لتصبح رمزاً لوحدة إسرائيل. رغم أن هذه القدسية كان يحوزها قبل ذلك جبل حوريب المقدس بسيناء، حيث كان يتجلى الرب المدمدم المزمجر العاصف النارى، وحيث صنع التابوت، وحيث التقى موسى بربه، وحيث تلقى موسى ألواح الشريعة، وحيث كان هناك مقر الإله وعلامات قوته فى سيناء المصرية.
وقد تزامن تشكيل المملكة الإسرائيلية الموحدة فى فلسطين مع فجر القرن العاشر قبل الميلاد ومع بداية تمركز الأراميين فى ممالك ببلاد الشام. ورغم أن البحوث الأركيولوجية لم تفدنـا إطلاقا بمثل هذا التوسع للدولة، فهو مما يوعز بشدة أن حكاية إخضاع داود للشعوب الأخرى لم تكن سوى مبالغات من المحرر التوراتى، صاغها فى حبكة ملحمية. حيث لا دليل تاريخى ولا آثارى يؤكدها أو حتى يشير إليها مجرد إشارة، لا فى نصوص آثار فلسطين ذاتها، ولا فى أى أثر من آثار حضارات المحيط بالمنطقة جميعاً.
لكن ذلك لا يعنى شطب القصة برمتها وعدم اعتماد تاريخيتها، لأن أول تقاطع بين التوراة وبين التاريخ كعلم نجده فى حديث التوراة عن ملك حكم فى دمشق باسم (بن حدد بن طبريمون الأرامى) وهو ما جاء فى النص:

وأخذ آسا (ملك يهوذا المملكة الجنوبية) جميع الفضة والذهب الباقية فى خزائن بيت الرب وخزائن بيت الملك، ودفعها ليد عبيده وأرسلهم الملك آسا إلى بنهدد بن طبريمون بن حزيون ملك أرام الساكن فى دمشق قائلاً: إن بينى وبينك وبين أبى وأبيك عهداً. هو ذا قد أرسلت لك هدية من فضة وذهب، فقال انقض عهدك مع بعشا ملك إسرائيل فيصعد عنى. فسمع بنهدد للملك آسا وأرسل رؤساء الجيوش التى له على مدن إسرائيل، وضرب عيون ودان وآبل بيت معكة وكل كنروت مع كل أرض نفتالى.
ملوك أول 15 / 18 – 20
وفى التاريخ كعلم تعطينا الوثائق اسم ملك أرامى هو (بن حدد الأول) وقد عثر قرب مدينة حلب على نصب بازلتى نذره هذا الملك باسمه (بن حدد بن حزيون بن طبريمون) ملك أرام دمشق للإله ملقارت، ويرجع تاريخ النصب إلى حوالى عام 860 ق.م.
وعليه نقش يقول: ” النصب الذى أقامه بن حدد بن طبريمون بن حزيون ملك أرام لسيده ملكارت الذى نذر له فسمع قوله “. ويحفظ هذا النصب الآن بمتحف حلب بسوريا( ) والمنطق التاريخى أيضاً يجب أن يفترض وجود معارك تنافسية حول المصالح والسيادات بين دولتين تنشآن فى زمن واحد حيث يعود تاريخ نصب بن حدد إلى السنوات الأخيرة من حكم آسا، ويصدق هنا المحرر التوراتى ويثبت أن التوراة ليس كتابا للتلاوة الدينية والعظة الحكمية فقط، إنما هو أيضاً مصدر تاريخى هام ووثيقة عالية القيمة. رغم ما يشوبها طوال الوقت من تدخلات المحرر بما لديه من أوهام وأخيله وعواطف، وطموحات قادته إلى تمجيد ملوك إسرائيل تمجيداً عظيماً، يتناقض مع معلومات أخرى بذات المواضع بالكتاب المقدس تشير إلى ضعف شديد ووهن كان سمة لتلك المملكة وملوكها. كذلك لا يعرف علم التاريخ عظيما باسم داود فتح ممالك وهزم شعوبا ولا ملكا كونيا وحكيما حاز شهرة فلكية باسم سليمان. وكثيرا ما حير هذا الأمر العلماء والباحثين فلا آثار مصر ولا العراق ولا تركيا ولا الشام ولا فلسطين ذاتها تنطق ببنت شفة فى هذا الأمر. بينما تقرر رواية سفرى صموئيل الأول والثانى وسفر الملوك الأول أن داود قد أقام إمبراطورية تمتد من النيل إلى الفرات، وعليها قامت أحلام إسرائيلية كبرى فى قرننا هذا تطلب عودة الإمبراطورية الكبرى بحسبانها أمراً ربانيا وقراراً إلهياً. وتقول رواية هذه الأسفار أن تلك الإمبراطورية الكبرى قد ورثها سليمان عن أبيه داود بعد موته.، لكن رغم الهوس الأركيولوجى فى دولة إسرائيل اليوم والذى دفع إلى نبش الأرض فى كل

موضع محتمل للعثور على ما يؤيد هذه الرواية، فإن كل ذلك لم يفض إلى العثور على أى أثر مباشر أو حتى غير مباشر يشير إلى إمبراطورية داود وولده سليمان.
وكل ما يمكن قوله – بفرض وجود شخص اسمه داود – أنه ربما كان واحداً من الملوك الصغار تمكن من رئاسة تحالف القبائل الإسرائيلية التى كانت تسكن فلسطين آنذاك، وفقط فى مناطق الهضاب، لأن المسح الأثرى لم يكشف أى وجود لبنى إسرائيل لا على الساحل الفلسطينى ولا شمالى فلسطين عند الجليل ولا فى صحراء النقب جنوباً، فقط ربما امتد هذا التواجد بالمواقع الجبلية الوسطى الممتدة من دان (تل القاضى الآن شمالاً) حتى بئر سبع جنوباً.
وقد تمكن أحمد عثمان بحق من اكتشاف مميز – إن كان هو صاحب الكشف حقاً وغير مستقى من مصدر سابق له لأن كتابه يخلو من ذكر المصادر – حيث قام بعقد مقارنات انتهى منها إلى أن محررى العهد القديم فى بابل إبان القرن السادس قبل الميلاد، قد علموا بقصة الفرعون الفاتح العظيم تحتمس الثالث التى كانت تتواتر حتى ذلك الزمن بحسبانه بطلاً تاريخياً كبيراً، وأنه أقام إمبراطورية كبرى تمتد من النيل إلى الفرات. ولازالت قصة فتوحاته كأكبر فتوحات تمت فى العالم القديم حتى زمانه مدونة على جدران معبد الأقصر، ويرى عثمان أن الإسرائيليين قد بهرتهم تلك البطولات والأمجاد، ولما كـانوا طوال الوقت يعلنون ارتباطهم الوثيق بمصر، فلم يجدوا بأسا فى استعارة تلك القصة البطولية من المأثور المصرى وإدخالها كما هى دون تعديلات واسعة فى وسط قصتهم الرئيسية عن داود.
والمتابع للقصة بالعهد القديم يجد أن داود كان معه جيشاً مكوناً فقط من 600 مسلح من رجال العصابات المرتزقة، وأنه دخل بهم معارك مع بنى جلدته الإسرائيليين ومع الفلسطينيين. ثم فجأة تجد تفاصيل معركة كبرى، وتتحول العصابة المأجورة إلى جيش منظم يخوض معارك عظمى عند قلاع محصنة متعددة فى بلاد الشام. ويرى عثمان أن سفر صموئيل الثانى تحديداً يحتوى على إصحاحين هما رقم 8 ورقم 10 مقتبسان بالكامل من قصة حروب تحتمس الثالث الفاتح الأعظم. كذلك يرى أن الإصحاح الخامس يحوى جزءاً آخر من القصة المصرية وهو المتعلق باستيلاء داود على مدينة القدس التى كانت ترديداً لدخول تحتمس الثالث المظفر أورشليم ( ).
ولو حذفنا من قصة داود المستعار المصرى لاقتصرت على صراع داود مع شـاول ثم مع ابنه ثم مع شبع بكرى من قبيلة بنيامين، وكان صراعاً على العرش وليس أكثر من ذلك، فكان داود بهذا الرأى مشغولاً طوال الوقت بخلافات العائلة والثوار الذين ثاروا عليه.
هذا ناهيك عن كون ظروف بنى إسرائيل حسبما وردتنا بالعهد القديم تتناقض تناقضاً شديداً مع مسألة الإمبراطورية والتوسع والفتوحات، فهم يظهرون فى حالة دائمة من الدفاع عن وجودهم إزاء الفلسطينيين. وهى حالة تتناقض مع استعارات كتلك التى تقول أن داود ضرب حدد عزر وذهب يرد سلطته عند نهر الفرات، بينما لا نجد قبل كورش الفارسى أى ذكر لأى ملك من ملوك العالم القديم تمكن من مد حدود بين النيل والفرات سوى تحتمس الثالث ( )
ويرى أحمد عثمان أن محررى التوراة قد اختاروا قصة تحتمس الثالث لنسبتها إلى داود لأسباب أهمها: أولا أن تحتمس الثالث كان أول من أقام إمبراطورية تشمل العالم القديم المعروف فى زمانه، وثانيا أن اسمه ( تحوت – موسى) يتطابق فى شقه الأول (تحوت) مع اسم (داود)، وفى رأينا يجب نطق (تحوت) المصرى (ضحوت) أو (ضحوض) وهو الأقرب، ويتطابق مع اسم (داود) تماماً والحاء تسقط بالتخفيف والإهمال. وسنقدم فى الفصول المقبلة الكثير عن هذا الإله. وثالثاً أن تحتمس الثالث هو الفرعون الذى دخل إبراهيم فى زمنه إلى مصر وهو الذى تزوج من سارة ( )، وهنا نختلف مع عثمان ونتباعد تماماً عن بقية ما يقول حتى النهاية.
ونترك عثمان يستمر فى سرد رؤيته لنعود إلى بدايته حيث يجد ثلاثة إصحاحات خارج سياق الرواية، وضمنها ما ورد فى الإصحاح الخامس عن استيلاء داود على أورشليم ويقول هذا الإصحاح: ” ذهب الملك ورجاله إلى أورشليم سكان الأرض . . وأخذ داود حصن صهيون . . هى مدينة داود “، وعاش داود في الحصن وزاد من تدعيمه. وبدلاً من القتال المستمر بينه وبين الفلسطينيين نجد فجاة قصة حروب عظيمة خاضها داود ضد تحالف أعظم من ملوك كنعان وبلاد الشام، ويقوم داود هنا بدور البطل المغوار المهاجم الذى يغزو كل الممالك الواقعة بين النيل والفرات. وتقول النصوص المقحمة على حكاية داود الأصلية أن مركز اللقاء الحربى قد حدث عند مدينة ربة (بالعربية: الرباط / المؤلف) وكانت عاصمة بلاد عمون الواقعة شرقى نهر الأردن، ويحتمل أنها عمان الأردن الحالية. وتحكى القصة أن ملك هذه المدينة توقع مهاجمة داود له فقام بجمع ملوك دويلات بلاد فلسطين والشام تحت قيادة هدد أوحدد عزر ملك واحدة من الممالك الأرامية، وتجمعت جيوش الأحلاف عند ربة بنى عمون وقسمت نفسها قسمين واحد داخل أسوار المدينة والآخر خارج المدينة على الأرض المكشوفة بالجوار منها. وفعل داود ذات الأمر فقسم جيشه قسمين، وعند الالتحام العسكرى هربت جيوش التحالف المتجمعة في الأرض المكشوفة وأسرعت مع ملوكها بدخول المدينة المحصنة، وأغلقو الأبواب، مما اضطر داود لفرض الحصار عليها وترك جيوشه تحاصر المدينة وعاد إلى أورشليم ينتظر استسلامها. وبالفعل تمكنت جيوشه من فتح مدينة ربة” فجمع داود داود كل الشعب وذهب إلى ربة وحاربها وأخذها وأخذ تاج ملكهم عن رأسه ووزنه وزنة من الذهب مع حجر كريم، وكان على رأس داود، وأخرج غنيمة المدينة كثيرة جداً / صموئيل ثانى / 12 / 29،30 ” ( ).
ورغم الهزيمة التى منى بها التحالف نجد حدد عزر ملك صوبة الأرامية موجوداً وينظم التمرد ضد داود مما يشير إلى وجوب استنتاج أنه هرب بجلده من الهزيمة عند ربة عمون. لكن داود يتمكن مرة أخرى من هزيمته عندما سار إلى شمال سورية حين ذهب ” ليرد سلطته عند نهر الفرات “. ونصب داود تذكاراً (أقام لوحة) عند نهر الفرات يخلد بها انتصاراته الكبرى. وبعد هذا النصر المؤزر استسلمت لداود كل ممالك التحالف السورى الكنعانى وأصبحوا من أتباعه ” ولما رأى جميع الملوك عبيد هدد عزر أنهم انكسروا أمام إسرائيل صالحوا إسرائيل واستعبدوا لهم “. ومن ثم قام داود ينشر حامياته العسكرية فى سورية وكنعان ليضمن سيطرته عليها ولضمان تدفق الجزية فى مواعيدها. ( )
ويرى عثمان أن كل ذلك السرد البطولى لا علاقة له بداود الإسرائيلى بل بتحتمس/ تحوت المصرى، ويحكى: ” وكان الملك أحمس قد بدأ حكم الأسرة 18 فى مصر عام 1575 ق.م عندما طرد ملوك الهكسوس الكنعانيين من مصر [مسألة أن الهكسوس كنعانيين بهذا القطع نخالف فيها عثمان كما سيظهر من السير فى بحثنا هذا / المؤلف] . . وجاء آمنحتب الأول فخرج إلى كنعان وجنوب سورية في مطاردة لفلول الهكسوس . . ولم يكن لآمنحتب الأول ولد فزوج ابنته إلى القائد العسكرى تحتمس [الأول / المؤلف]. وتمكن هذا الملك ـ مع أن حكمه لم يتجاوز 18 سنة ـ من الوصول بجيشه إلى جنوب الأناضول عبر الفرات، وهناك أقام لوحة سجل عليها أخبار انتصاراته . . وكان لتحتمس ابن من زوجة أخرى غير زوجته الملكية أراد أن يخلفه على العرش، فزوجه حتشبسوت ابنته الوريثة، لكن تحتمس الثانى [أى هذا الابن / المؤلف] لم يكن مقاتلاً مثل أبيه فهو لم يقم بأى معركة حربية طوال عقدين من الزمان جلس فيهما على عرش مصر. وواجه تحتمس الثانى المشكلة التى واجهها الأب من قبل، فهو لم ينجب ابنا من الوريثة حتشبسوت وكان له ابن وحيد من محظية اسمها إيزيس اراد أن يجعله وليا للعهد، ومع أن حتشبسوت أنجبت له بنتاً إلا أنها لم توافق على زواجها من ابن المحظية، فحرمته من حق خلافة أبيه عن هذا الطريق [كان حق العرش في مصر القديمة لمن يتزوج الأميرة الوريثة / المؤلف].
وبسبب عدم وجود ولى عهد شرعى في البلاد، قام الكهنة في يوم احتفال العيد بحمل تمثال آمون في تابوت، وطافوا به حول قاعة الأعمدة الكبيرة بالكرنك. وتحرك التابوت وجاء عند ابن الملك ـ وكان مازال طفلا لا يتجاوز الخامسة من عمره. وقد التحق بالمعبد للدراسة ـ وقاده الكهنة وأوقفوه عند قدس الأقداس في المكان المخصص للملوك، وكان ذلك تعبيراً عن أنه أصبح ابنا لآمون بالتبنى، فصار له الحق بالتالى في خلافة ابيه في العرش، من دون حاجة إلى الزواج من الوريثة. وخلف الطفل أباه على العرش باسم نفرو رع تحتمس الثالث. ومع ذلك وبسبب صغر سنه أصبحت حتشبسوت زوجة أبيه وصيه عليه، وسرعان ما أعلنت نفسها ملكة إلى جانبه. وطوال حياة حتشبسوت التى استمرت 22 عاما بعد وفاة زوجها، ظل تحتمس الثالث بعيداً عن السلطة.
. . وعندما تولى تحتمس الثالث الحكم بعد أبيه كان مر حوالى أربعين عاماً خلال حكم أبيه وزوجة أبيه لم يشن الجيش المصرى أى حملات عسكرية. وكان ملك قادش الواقعة في منتصف الطريق بين دمشق وحمص في شمالى سورية قد تزعم تحالفا من ملوك سورية وكنعان في حركة تمرد على السلطة المصرية ” ( )
ويقف عثمان يرصد مقارنا فيرى القصتين تتفقان على مواجهة الملك لتحالف من ملوك كنعان وأرام بقيادة ملك أرامى عند مدينة محصنة، وفي كلا القصتين نجد جيوش التحالف مقسمة إلى قسمين أحدهما داخل المدينة والآخر خارجها وكذلك فعل الملك فقسم جيشه قسمين، وفي كلا القصتين تهزم جيوش الملك المتحالفين الذين يهرعون إلى داخل أسوار المدينة، وأن الملك بطل القصة في القصتين قد حاصر المدينة وأقام في مدينة أخرى ثم ذهب ليتسلم المدينة بعد استسلامها، وفي كلتا القصتين نجد ملك التحالف المهزوم يهرب ويعود إلى مملكته ويجمع شتات المتحالفين المتمردين مرة أخرى لكن ليسير إليهم بطل القصة ويهزمهم ثم يسترجع سلطته عند الفرات، ويقيم على الفرات نصبا تذكاريا، ويعلن كل الملوك ولاءهم ويدفعوا الجزية، ويقيم الملك البطل حاميات في كل مكان إعلانا عن نفوذه أينما كانت. ( )
وبعدها يعرج عثمان على القصة الأصلية حيث دونت هناك في جنوب الوادي المصري على جدران معبد الأقصر بعاصمة الإمبراطورية الكبرى ليحكى لنا:
” وخرج تحتمس الثالث بجيشه من مدينة زارو الحربية عند القنطرة شرق وسار في طريق حورس بشمال سيناء متجها إلى كنعان، ووصل الملك إلى مدينة غزة وكانت ما تزال خاضعة للنفوذ المصرى، وهناك احتفل بعيد جلوسه الثالث والعشرين، وكانت المعلومات التى وصلت القيادة المصرية تفيد بأن ملك قادش جمع عدداً كبيراً من ملوك سورية وكنعان عند مدينة مَجِّدو بوسط كنعان، وكانت أكبر مدينة محصنة. فسار تحتمس الثالث بجيشه على سلسلة جبلية وعرة محاذية للبحر، وكانت هناك ثلاث طرق تؤدى لهذه المدينة، طريق ينتهى غربى مجدو والثانى يؤدى إلى جنوبها الشرقى بينما الثالث كان طريقا أشد وعورة مع ضيق شديد، لكن تحتمس الثالث قرر ركوب الصعب فسلك الطريق الثالث رغم خطورته لأنه الطريق الذى كان لابد سيستبعد الأعداء مجيئة منه، وكانوا قد قسموا جيوشهم قسمين، واحد داخل المدينة والآخر خارجها يقف عند نهاية الطريق الممهد ينتظرون مجيئه.
واختبأ تحتمس الثالث يومين في الجبال حتى يسمح لجيشه بعبور المضيق، وقسم جيشه إلى وحدتين. كان هو نفسه على رأسهما فوق عربته الحربية المطهمة بالذهب، وخرج عليهم من عند المضيق مباغتا ليجدوه في القلب من صفوفهم. وكان لظهور المصريين المفاجئ أثره فارتبك جيش الأحلاف وأخذوا يولون الأدبار تاركين الخيول والعجلات والسلاح، فانهمك أفراد الجيش المصرى في الغنيمة دون متابعة العدو واحتلال المدينة، مما أعطى الفرصة للأحلاف للتحصن داخل أسوار مجدو إغلاق أبوابها. واضطـر تحتمس الثالث إلى فرض الحصار على المدينة، بينما تمكن ملك قادش الزعيم من الهرب. وذهب تحتمس الثالث ينتظرتسليم مجدو في مدينة أخرى فتحت له أبوابها دون قتال. وبعد سبعة أشهر سلمت مجدو وخرج أمراء التحالف يحملون الهدايا لتحتمس طالبين السلام، وسلموا كل أسلحتهم ومركباتهم، وعند حضور تحتمس لاستلام المدينة وقف أمامه 350 ملك يعلنون خضوعهم لسلطان مصر.
وعاد الفرعون المنتصر إلى عاصمته المصرية في طيبة، بينما كان ملك قادش يعيد تجميع الأحلاف مرة أخرى، فخرج إليه تحتمس الثالث بعد سبع سنوات، ليستعيد نفوذه الذى سبق وأقامه جده عند نهر الفرات، وسقطت قادش وعبر تحتمس الثالث الفرات، وأقام بجوار نصب جده التذكارى نصباً جديداً يسجل أخبار انتصاراته، وبذلك يكون تحتمس الثاث هو الشخص الذى تنطبق عليه عبارة العهد القديم جملة وتفصيلا وكلمة كلمة وهى التى تقول عن داود أنه ” ذهب ليرد سلطته عند الفرات . . ونصب تذكاراً هناك ” ( )
ولا يبقى سوى اختلافات طفيفة بين القصة التوارتية وبين القصة المصرية، وهى ما يبرره عثمان بقوله: ” أما استخدام كتبة العهد القديم لأسماء أخرى مثل ربة بدلاً من مجدو، وصوبه بدلاً من قادش، فهذا شئ متوقع منهم لمحاولة إخفاء الأصل الحقيقى للقصة، فمدينة ربة هى عمان الحالية عاصمة الأردن ولم تكن سوى قرية صغيرة غير محصنة في عصر داود، أما صوبة فلم يتم العثور على موقع بهذا الاسم في أى من المصادر التاريخية القديمة، ومجدو (تل المتسلم حاليا حسبما يرى بعض الباحثين) التى كانت أهم المدن الحربية في كنعان موجودة داخل الإمبراطورية التى يقول سفر أخبار الملوك الأول أن داود أو رثها لسليمان، وجاءت نتيجة الحفريات الحديثة لتنكر كل ما نسبه كتبة العهد القديم من انتصارات مزعومة، ومع أنه تم العثور على ما يؤكد دمار المدن التى تقول القصة بدمارها على يد داود، إلا أن تاريخ هذا الدمار ثبت أنه يرجع إلى عصر تحتمس الثالث فى النصف الأول من القرن 15 ق.م وليس فى عصر داود بعد ذلك بخمسة قرون “. ( )
ولنا هنا ملحوظة وهى أن المعلومات التى خالفت بها التوراة القصة المصرية ربما لم تكن مخالفة لو نظرنا إليها من وجهة نظر أخرى ستأتى فى حينها فى ثنايا عملنا هذا، حيث سنفترض لمملكة صوبة مكانا تقع فيه، ووفق هذا الفرض سنكتشف أن مجدو كانت تقع فى الجوار منها، وأن قادش فى النصوص المصرية كانت تقع فى الجوار من صوبـة فى النصوص التوراتية.
ويتابع عثمان مقارناته فيقرأ بالعهد القديم أن داود بعدما صار ملكا على كل إسرائيل (يهوذا وإسرائيل) قام بالاستيلاء على مدينة أورشليم ” ذهب الملك ورجاله إلــى أورشليم إلــى اليبوسيين سكــان الأرض وأخـذ داود حصن صهيون وهى مدينة داود “. وتعبير الملك ورجاله لا يشير إلى جيوش جرارة تفتح البلاد وتهزم الملوك إنما يشير إلى عصابة تتكون بحد أقصى من 600 مقاتل. وقد اعتمد داود خطة ذكية لدخول مدينة أورشليم المحصنة، فقد كانت المدينة تقوم على هضبة مرتفعة، وكانت تحصل على المياه من نبع فى أسفل الوادى بأسفل المدينة عبر ممر محفور تحت أسوار المدينة يصل إلى عين الماء، وكان يمكن الحصول على الماء أثناء الحصار بهذا الشكل دون أن يخرجوا من المدينة المرتفعة. وكان داود يعرف هذا الأمر فأعلن أنه سيكافئ الرجل الذى يمكنه أن يتسلق البئر إلى داخل المدينة ويفتح أبوابها بتعيينه رئيساً على رجاله، وهكذا تمكن داود من الاستيلاء على أورشليم، لكن عثمان يعقب بأنه قد ” عجز الأثريون عن العثور على بقايا تدعم هذه الرواية ” ( )، لكن فى واقع الأمر أن عثمان لا يعرف أنه قد تم العثور على ذلك الموقع جميعه وبتفاصيله الدقيقة مع الأثر الأركيولوجى المدون الذى يحكى قصة حفر النفق بين المدينة العالية وبين مصدر المياه البعيد المنخفض.
معروف أن أورشليم التى كانت تعرف بمدينة اليبوسيين نسبة إلى قبيلة يبوس التى سكنتها واتخذتها مدينة منيعة وقلعة حصينة، كانت تقع بكاملها إلى الجنوب من أورشليم الحالية على سلسلة تلال القدس الشرقية، وقد تطابقت جغرافية المدينة وطبوغرافيتها المكتشفة مع عرض العهد القديم بشأنها. فقد بنيت المدينة على الجزء الجنوبى من السلسلة الشرقية وبنى الهيكل على الجزء الأوسط منها أما الجزء الشمالى فلم يكن ضمن المدينة القديمة ويقع حاليا ضمن مدينة القدس. وتحيط بــأورشليم التـلال مـن جـوانب ثـلاثة كما هو واقع وكما هو وارد فى (مزامير 125 / 2)، فإلى الشمال الشرقى يقع جبل المشهد أو جبل المشارف ويسمى أيضاً جبل سكوبس. وإلى الشرق يقع جبل الزيتون وفى الجنوب جبل المكبر.
وأما الوديان فيقع وادى قدرون شرق أورشليم بين المدينة وبين جبل الزيتون، وكـان يسمى وادى يهو شافاط أيضا (يوئيل 3 / 12) ويسميه العرب وادى الست مريم. وفى الغرب بين سلسلة التلال الشرقية والغربية يقطع المسافة وادى تيبريون ويسميه العرب اليوم (الوادى) فقط، وإلى الغرب من التلال الغربية يقع وادى هنوم الذى يسميه العرب الآن وادى الربابة.
وقد أثبتت التنقيبات أن المدينة تعود إلى مطلع الألف الثالث قبل الميلاد زمن عصـر البرونز الأول، ويبدو أنها كانت مدينة صغيرة بدون أسوار. ومع مطلع الألف الثانى قبل الميلاد تظهر دلالات انقطاع حضارى وسكنى يبدو أنه قد حدث إبان الموجة الهكسوسية التى احتلت مصر حوالى ذلك الزمان. ومع مطلع عصر البرونز الوسيط يلاحظ انتعاشاً جديداً وتظهر المدينة اليبوسية التى تم العثور على سورها وتزمين بنائه بحوالى عام 1800 ق.م، وهى الفترة التى ظهر فيها لأول مرة اسم أورشليم فى نصوص مصر ( ).
وكان موضع المدينة محاصراً بنبع جيحون فى وادى قدرون وكان المصدر الرئيسى لمياه الشرب، ومن ثم تم بناء السور قرب النبع لحمايته أثناء الحصار، لكنه من جانب آخر بنى بحيث لا يهبط نحو الوادى فيكشف المدينة والمدافعين عنها، ومن هنا تم حفر نفق تحت الأرض بين المدينة والنبع يمر أسفل السور وتم الكشف عنه، وهو القناة المذكورة فى الرواية التوراتية والتى نفذ منها القائد يوآب ومجموعته لاقتحام المدينة قناة سلوام بطلب الملك داود، كما فى سفر صموئيل الثانى 5 / 8 وأخبار أيام أول 11 / 6 ، 7.
ومن أهم أعمال الملك اليهوذى حزقيا الباقية للآن هو سحبه مياه نبع جيحون إلى قناة تمر تحت مدينة أورشليم حتى وادى تبريون لتصب فى بركة سلوام فى موقع محصن، لمنع الآشوريين من السيطرة على مصدر المياه الوحيد الذى يغذى المياه، ” وحزقيا هذا سد مخرج مياه جيحون الأعلى وأجراها تحت الأرض إلى الجهــة الغــربية مــن مــدينة داود وأفلــح حــزقيا فى كل عمله / أخبار أيام ثانى 32 : 3 ، 4 ، 30 “. ولم تزل بركة سلوام موجودة وتعرف اليوم باسم بركة سلوان، ويعرف نبع جيحون باسم نبع العذراء، وقد اكتشف المنقب وارن Warren القناة فى 1867م. ونظفها المنقب باركر Parker فى 1911م وتابع العمل بها بعثة الأركيولوجية كاثلين كينيون 1961 ــ 1967، ويتطابق مجرى القناة المكتشفة الآن مع وصف سفر أخبار الأيام الثانى ( ).
وقد تم العثور على نقش حجرى يصف اللحظة الأولى لا نتهاء حفر القناة اليبوسية تحت المدينة وكيف التقى فريقى الحفر القادم كل منهما من الاتجاه المعاكس، ويقول النقش: ” بينما النحاتون يرفعون فأس الحفر كل تجاه رفيقة، وبينما بقى ثلاثة أذرع للنحت، سُمع صوت رجل ينادى أخاه لأنه وجد ثقبا فى الصخر من ناحية اليمين، وفى يوم انتقابة ضرب النحاتون رجل أمام رجل وفأس على فأس، وسالت المياة من النبع إلى البركة مسافة مائتين وألف ذراع ومائة ذراع، وكانت قمة الجبل فوق رأس النحاتين ” ( ).
ولأن أحمد عثمان فيما يبدو لم يتابع تلك الكشوف فقد أنكر قصة أولئك الجنود الذيـن دخلوا المدينة عبر النفق والقناة واحتسب أورشليم هى المدينة التى استراح فيها الملك الفاتح داود أو تحتمس سبعة أشهر، كانت هى مدة حصار ربة كما فى قصة داود أو حصار مجدو كما فى قصة تحتمس، وأنها كانت مدينة صديقة للفاتح فتحت له أبوابها دون قتال ورحبت به لذلك أطلق عليها منذ ذلك الحين اسم مدينة السلام أو أورشليم ( ).
هذا رغم أنه كان بإمكان عثمان المتابعة وافتراض أن قصة دخول المدينة عبر النبع والقناة قد حدثت بأمر من تحتمس الثالث، وليس داود، خاصة وأن أورشليم لم تكتسب اسمها زمن تحتمس الثالث كما يذهب عثمان إنما أبعد من ذلك بكثير، وقد سبقت إشارتنا إلى أن أول ظهور لهذا الاسم كان فى النصوص المصرية حوالى 1800 ق.م، أى قبل زمن تحتمس الثالث بحوالى أربعة قرون كاملة، ورغم ذلك يصر عثمان ويتابع القول إن ” هذه المدينة التى انفردت بإعلان السلام مع الملك المصرى فى تلك المعركة أصبح السلام جزءاً من اسمها منذ ذلك التاريخ، فهى صارت معروفة على أنها مدينة السلام أو أورشليم . . والمدينة التى يسميها العرب قدس أو بيت المقدس لم تعرف فى أى من المصادر القديمة باسم أورشليم إلا بعد عصر تحتمس الثالث ” ( ).
ويرى عثمان أن تحتمس الثالث لم يذكر فى قائمة المدن الكنعانية التى أخضعها مدينة باسم أورشليم، لذلك افترض أنها تلك التى جاءت فى نصوصه باسم قادش الذى هو اسم القدس الحالية، هذا بينما سنفترض نحن لقادش افتراضا آخر سيأتى فى حينه.
وكما قدم عثمان قراءته الجديدة لأهم السجلات المقدسة حول المؤسس الحقيقى لدولة إسرائيل الموحدة أو كل إسرائيل المعروف باسم داود، وأبان عن ميل شديد من المحرر التوراتى إلى نسبة الأعمال العظيمة لبنى إسرائيل كما حدث مع تحتمس الثالث و داود، فإنه يعرج على مبالغات المحرر التوراتى بشأن مملكة سليمان الأسطورية ليكشف لنا انها لم تكن سوى تسجيل لصدى أيام حكم الفرعون المصرى آمنحتب الثالث، هارون رشيد العالم القديم. لكنه يقول لنا هذه المرة أن هناك مصادر أساسية لتلك المقارنة ثم لا يذكرها لنا، فهو يؤكد أنه قد ” لاحظ كثير من المؤرخين الشبه الشديد بين قصة سليمان كما وردت فى سفر الملوك الأول، وتفاصيل حياة آمنحتب الثالث تاسع ملوك الأسرة 18 المصرية والذى حكم لمدة 39 عاما عند بداية القرن الرابع عشر قبل الميلاد ” ( ).
وعن هؤلاء المؤرخين الذين (لاحظوا) يأخذ عثمان ثم يحكى. ” كان آمنحتب الثالـث يسيطر على معظم أرجاء العالم المعروف فى زمانه . . وعندما توفى والده تحتمس الرابع كانت الأمور استقرت للملك الصغير الذى تولى الحكم وهو لم يتجاوز الثانية عشرة من عمره . . وعمد آمنحتب الثالث إلى الزواج من أميرات ممالك الإمبراطورية، وتبادل الهدايا مع الملوك خصوصا الذهب الذى كانت مصر تحصل عليه بكثرة من مناجم أفريقيا . . وفى العام العاشر لحكمه تزوج آمنحتب الأميرة جيلوخيبة ابنة شورتانا ملك ميتانى بشمال ما بين النهرين، وجاءت العروس إلى مصر فى موكب كبير ومعها 317 امرأة من الوصيفات للانضمام إلى حريم الملك “.
” .. وعاد آمنحتب فتزوج أميرة أخرى من ميتانى وأميرتين من بابل وأميرة من سوريا إلى جانب زوجاته المصريات ” ( ).
ثم يتابع ” عندما جلس آمنحتب الثالث عل عرش مصر كان الثراء قد وصل درجة لم يصل إليها من قبل ولا وصل إليها فى أى عصر لاحق، واستطاع الملك الذى ساد السلام فى عصره أن يستخدم هذا الثراء فى البناء سواء فى مصر أو فى بلاد سورية وكنعان، فشيد المعابد والقصور والمدن المحصنة، وكان لوجود عدد كبير من أسرى الحروب فى ذلك الزمان أثر فعال ” ( )
ثم يعقد المقارنات مع قصة العهد القديم التى تتحدث عن ثروة سليمان التى كانت تأتيه من الممالك الخاضعة له ” وكان وزن الذهب الذى أتى سليمان فى سنة واحدة ستمائة وستين وزنة ذهب “. وكانت فترة حكم سليمان فترة سلام فلم يقم بأى حروب طوال سنى حكمه الأربعين، لذلك استعمل تلك الثروات فى المعمار والإنشاء كبناء قصر الملك وبناء المعبد والهيكل ، استخدم فيه جيشاً من البنائين جمعه من بين الشعوب التى خضعت له، كما امتلأ قصره بالغيد الحسان من زوجات وجوارى وصل عددهم إلى ما يربو على الألف امرأة، ويلاحظ عثمان أن كل النسوة لم يكن بينهن واحدة فقط من بنى إسرائيل؟! ( ).
ثم يقول : ” وبينما لم يتم العثور على أية بقايا لكل هذه الإنشاءات ترجع إلى القرن العاشر ق.م الذى عاش فيه سليمان، نجد الأدلة كلها تؤكد أن هذه الأعمال نفسها تمت من أربعة قرون قبل ذلك فى عهد آمنحتب الثالث . . والبعثة الأمريكية التى قامت بالكشف عن القصر الذى بناه آمنحتب الثالث غرب الأقصر أكدت أنه كان مكونا من البيوت نفسها التى ورد ذكرها فى قصة سليمان، ومازال خشب الأرز اللبنانى قائما هناك ” ( ) . . وإن هذه الإمبراطورية الإسرائيلية الوهمية اختفت تماما كالسراب فى قصص العهد القديم نفسه بمجرد أن وارى التراب جثة سليمان، فلا قصور ولا حصون ولا جيش جرار ولا سفن تجوب البحر إلى أوفير ولا خشب من صور ولا جزية من أرام سورية أو من موآب وآدوم فى الجنوب. وعادت القصة إلى الصورة الأصلية لقبائل بنى إسرائيل المنتشرة على سفوح الهضاب الفلسطينية فى حالة مستمرة من الدفاع عن النفس أمام قوى كانت دائما أكبر منها بكثير “. ( )
والمعلوم أنه بعد موت سليمان انقسمت المملكة إلى يهوذا فى الجنوب وإسرائيل فى الشمال، بينما قام الفرعون شيشنق المصرى بمهاجمة مملكة يهوذا، ولم تسجل نصوصه شيئاً عن مملكة قوية فى فلسطين ولم يذكر شخصا باسم سليمان ولا بالإشارة، بينما كان العهد القديم يشير إلى مملكة وصل نفوذها إلى الفرات وطبقت شهرة ملكها سليمان الآفاق، ومن ثم يعقب فراس السواح بالقول: ” فإما أن التاريخ قد أحبك مؤامرة صمت مقصودة، وإما أن هذه المملكة الموحدة لم يقم لها قائمة إلا فى خيال المحرر التوراتى، . . فلم يتـــم العثور على بنية واحدة من بناها. وعلم الآثار كما تقول السيدة كينون لا يستطيع تقديم أية فكرة عن مدينة العصر الذهبى وثرائها وقصور سليمان التى بناها له ولزوجاتــه ” ( ).
ثم يعقب: ” وفى قصة زواج الملك سليمان من ابنة الفرعون يقع المحرر فى تناقض يظهر الطابع الخيالى لنفوذ سليمان الداخلى والخارجى . . فقد صعد فرعون مصر المجهول الاسم على فلسطين وأخذ مدينة جازر، وهذه لا تبعد عن أورشليم أكثر من بضع عشرات من الكيلو مترات، وهكذا نعرف مدى النفوذ الفعلى للملك سليمـان الـذى وصلت سلطته إلى الفرات وكان عاجزاً عن ضم مدينة كنعانية قوية لا تبعد إلا رمية حجر من عاصمته ” ( ).
ثم يتساءل السواح: ” وإذا كانت سلطة داود قد وصلت الفرات فلماذا لم يصطدم بالآشوريين؟ ولماذا خلا الخبر التوراتى من أى ذكر لهم ولتواجدهم فى عبر النهر؟ ولماذا لم يرد ذكر لداود فى الوثائق الأرامية التى اكتشفت فى عواصم ومدن ممالك أرام عبـــر النهر؟ . . هذا المحرر لم يكن يقصد إلى تقديم نص تاريخى موثق عن حـروب داود بل إلى تزيين سيرة هذا الملك الملحمى بأخبار حروب جمعها من الذاكرة القبلية للمنطقة ” ( ).
أما (زياد منى) فيقول بشأن ما جاء عن سليمان ومُلكه وحكمته فى العهد القديم: ” إن المحرر اتخذ موقفاً منحازاً لسليمان بن داود ولا يمل من كيل المديح له، لكن المتابعة الدقيقة لعهد سليمان التوراة تبين أنه كان أبعد ما يكون عن الحكمة، فولعه غير العادى بالنساء جعله يستحق صفة زير نساء من الطراز الأول، أما ضعف مقاومته لكافة أنواع البذخ والترف ومتع الحياة الدنيا فجعله أبعد ما يكون عن الحكمة وأقرب للولد العاق الذى أضاع الثروة التى قضى الأب عمره فى جمعها . . فالتوراة تسجل فى سفر ملوك أول 9 / 10 – 13 بصريح العبارة أن سليمان اضطر للتنازل عن بعض أقاليم مملكته وإجراء تعديلات حدودية لرد بعض الديون التى استحقت عليه من قبل بعض الممالك المجاورة. كما أن اهتمامه وبطانته ببذخ الحياة هى التى أدت بلا شك إلى تراخى جيشه التى عُبر عنه بفقدان بعض أقاليم مملكة داود / سفر ملوك أول 14 / 11 – 22. فأية حكمة هذه التى تؤدى إلى انهيار المملكة فور موت ملكها. إن تقسيم مملكة داود إلى إسرائيل ويهوذا بعد وفاة سليمان كانت النتيجة الحتمية لسياسة الأخير التى يمكن نعتها بأى صفة باستثناء الحكمة، أما الأحاديث التوراتية المطولة عن إنجازات عهده فلا يمكن أخذها جديا لأنها تدخل ضمن التراث الأدبى الشعرى العام، هذا عدا أنها لا تنقل لنا أى عمل مادى محدد، وفيما يتعلق بمسألة الهيكل فمن الضرورى الإشارة إلى أن علماء التوراة – كثيراً فى الخفية وقليلاً علنا – لا يقبلون الإدعاء بأن سليمان التوراة قام ببناء أى معبد، بل أنهم مقتنعون بأن الهيكل لم يكن أكثر من قاعة أو غرفة فى القصر الملكى . . إن سياسة سليمان التى قامت على استعباد الشعوب الأخرى المقيمة بالمملكة واستثنائها من المشاركة فى السلطة شكلت القاعدة الوحيدة لموقف المحرر الإيجابى تجاهه . . وهذا هو منبع مديح الكهنة لسليمان وعهده . . كما أن سليمان على عكس أبيه داود شارك المحرر الكهنوتى فى وجهة نظره القائمة على حصر إسرائيل فى مجموعة معينة، وعمل على تطبيق ذلك نصا وروحا ” ( ).

هكذا تحدث د. #سيد_القمني
#ادمن Bdair


يمكنك دعم الموقع من هنا
مؤسسة ندى لحماية الفتيات

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى