توعية وتثقيف

عن الفنون والآداب – ٥ (الفنون التشكيلية – الجزء الثالث)…


عن الفنون والآداب – ٥ (الفنون التشكيلية – الجزء الثالث)

خواطر عن فن الپورتريه

فى أيام طفولتى كان الشخص إذا أراد أن يمتلك صورة لنفسه، (أو مع حرمه المصون)، توجب عليهما أن يذهبا إلى أنيس ‘المصوراتى’ مرتدين أثمن ما لديهم من حلل ومجوهرات. وكان أنيس يستعمل صندوقاً سحرياً وعمليات كيميائية لإنتاج لوح زجاجي عليه صورة مقلوبة. تلك الصورة، التى كانت تسمى ‘نيجاتيف’، كانت مقلوبة بكل معانى الكلمة، فأعلاها كان أسفلها، ويمينها يسارها، والأبيض فيها أسود، والأسود فيها أبيض. بعد ذلك كان أنيس يقوم بعملية تسمى “رتوش” يزيل فيها يدوياً ما طبعه الزمن من تجاعيد على وجوه العملاء، حتى يبدو كل موديل وكأنه فى عز شبابه وأوج صحته. وفى النهاية يطبع أنيس على ورق مخصوص نسخة معكوسة من النيجاتيف، فيعتدل المقلوب وتستوى الأمور، ويجيء الزبون بعد ايام لإستلام البورتريه وهو فى سعادة غامرة.

بالطبع لم يكن فى مقدور أي من هب ّودبّ أن يتحمل تكاليف جلسة عند أنيس المصوراتي، فكان الپورتريه الفوتوغرافى مقصوراً على الأطباء والمحامين والتجار، والموظفين (من الدرجة الأولى حتى الثالثة على الاكثر). لكن حتى هذا الوضع كان تقدماً هائلاً فى “ديموقرطة” الپورتريه بالمقارنة إلى ما كان فى الأزمنة السالفة.

قبل إختراع الفوتوغرافيا لم يكن البورتريه فى متناول أحد سوى علية القوم من الملوك والأمراء والإقطاعيين. على سبيل المثال كان الرسام الروسي إيليا ريپين (Repin) فى مطلع القرن العشرين يتقاضى ٥٠٠٠ روبل فى الپورتريه كامل القامة، وذلك فى زمن كان فيه ثمن البقرة الحية لا يتجاوز ٢٠ روبل. وكان Winterhalter فى ألمانيا و Ingres فى فرنسا يتقاضون أجوراً مماثلة.

هذا فى ماضى ليس ببعيد (القرن ١٩-٢٠). فما بالك بالقرون التى سبقت ذلك؟ لوحة مونا ليزا الشهيرة هي بورتريه لزوجة أحد كبار تجار فلورنسا تعاقد عليه الرجل المحظوظ مع ليوناردو داڤينشى. لا نعرف ماذا كان سعر التعاقد، لكننا نعرف أنه لم يُدفع، لأن ليوناردو لم يسلم “البضاعة”. كذلك نعرف أن ليوناردو لم يرسم پورتريهات أخرى، وميكلانچلوا لم يرسم أو ينحت پورتريه إلا لولي نعمته لورنتسو دى ميديتشى، الذى كان ملكاً (تقريباً) على مدينة فلورنسا.

الهولنديون قوم يتميزون بالواقعية والحنكة التجارية. فى مطلع القرن ١٨ لاحظ الرسامون الهولنديون من ذوى المواهب المتواضعة أن الطبقة البورجوازية الصاعدة تريد أن تقلد الطبقة الأرستقراطية فى أسلوب حياتها، بما فى ذلك تعليق بورتريهات شخصية وعائلية فى مساكنهم. لكن لم يكن فى مقدور صاحب محل بقالة (مثلاً) أن يطلب پورتريه لنفسه أو لأم العيال من فنان مشهور. لذلك نشطت فى أمستردام و هارلم ودلفت صناعة جديدة تنتج بورتريهات من نوعية متواضعة بأسعار فى متناول الطبقة المتوسطة. و بسرعة إمتلأت هولندا بورش لإنتاج الپورتريهات الرخيصة على نطاق شبه صناعي. كان معظم هذه الپورتريهات على مستوى سوقي، لكن الزبون لم يكن يفهم على أي حال.

وكما رأينا فى نهضة كوريا الجنوبية وقبلها اليابان، سرعان ما تحول ‘الكم (quantity)’ إلى ‘كيف (quality)’. ومن بين هذا الجيش الجرار من “الصنايعية” الذين كانوا ينتجون پورتريهات سريعة رخيصة بزغت نجوم لامعة على أعلى مستوى مثل رمبرانت وفرانس هالس وروبنز.

حدث شيئ مشابه فى مصر فى العصر الهيلينيستى نراه فى الپورتريهات الفيومية. إحتفظ المصريون بعادة ورثوها من العهد الفرعوني، وهي رسم پورتريه للميت على غطاء تابوته. وحيث أن كل الناس تموت (بعد عمر طويل بإذن الله،) كان لا بد أن يتخصص عدد كبير من الحرفيين فى هذه الصنعة. معظم أولئك كانوا لا يرتقون إلى مستوى الفنانين، لكن، (كما حدث فى هولندا بعد ٢٠ قرن،) ما لبث ‘الكم (quantity)’ أن تحول إلى ‘كيف (quality)’، و ظهرت بينهم مواهب فذة.

يمكنك دعم الموقع من هنا
مؤسسة ندى لحماية الفتيات

Farid Matta فريد متا

كاتب ادبي

‫5 تعليقات

  1. Thanks for the knowledge
    Very interesting
    Looks like man was always interested in himself expressing it by the portrait..
    Nowadays we have the photography which since I was a baby I learned that the photo is a documentation and one day will turn into precious memories for our children and grandchildren

  2. Ancient Egyptians were very much in statues and paintings on the walls of their tombs as a way to come back to life
    As a matter of fact it worked well for them…
    After thousands of years…they are immortal and we all know them and how they look like

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى