كتّاب

فى ذكرى وفاتها، الملكة نازلى: (2 من 2)…


فى ذكرى وفاتها، الملكة نازلى: (2 من 2)
التى ظلمها الناس والتقاليد والتاريخ
عاشت نازلى حياتها الملكية وهى تضع قدم فى بيت زوجها فؤاد معقل الرجعية والاستبداد، والأخرى فى بيت الأمه معقل الوفد والحركة الوطنية، فعرفت كيف تنعكس على البلاد طبيعة العلاقة بين سلطة الملك ممثلة فى القصر، وسلطة الشعب ممثلة فى الوفد، سواء كانت تلك العلاقة يحكمها الوئام والاتفاق أو يحكمها الصراع والتربص، وفى بيت الأمة الذى ظل مقرا لاجتماعات الهيئة الوفدية بعد وفاة سعد زغلول 1927، وتولى مصطفى النحاس باشا رئاسة الوفد بعده، وعرفت من خلال وجودها فى بيت الأمة كيف دبر محمد محمود باشا رئيس حزب الأحرار الدستوريين مع الملك تعطيل دستور 1923 (دستور الشعب)، وكيف دبر اسماعيل صدقى باشا الذى اصطنع حزبا سلطويا (حزب الشعب) ليلغى دستور 23 كلية ويفرض على الناس دستورا ملفقا (دستور 1930)، مهدرا بذلك تضحيات الشعب وثورته فى 1919، وهو ما أدى إلى اشتعال الثورة فى البلاد تهتف: “أعيدوا دستور 23″، حتى ألغى صدقى دستوره الملفق وأعاد دستور الشعب، ولم يكن إدراكها للدستور ودوره بمعزل عن ما سمعته عن جدها الكبير محمد شريف باشا “أبو الدستور المصرى”، ومن خلال وجودها فى بيت الأمه عرفت مصطفى النحاس وعرفت خصاله السياسية وكيف لا يبتغى إلا مصلحة البلاد، وكم هو بعيد عن كل مايمت للفساد بصله، وتمسكه بالدستور حكما ومرجعا فى كل شئون الحكم والسياسة.
وبعد مرض قصير مات الملك فؤاد الأول (ابريل 1936)، بينما ولى عهده فاروق ابنها لم يتم بعد تعليمه العسكرى، ولم يتجاوز عمره ستة عشر عاما ونصف،
وأدركت نازلى أن ابنها فاروق سيتحمل مسؤليته فى حكم البلاد وهو فى خضم بحر عاصف متلاطم الامواج: فهو مازال فتى غضا لم يعرف حتى عن الشعب الذى سيحكمه أى شئ، ولم يعرف بعد عن الحكم الذى سيتولاه وأعبائه شيئا، ولم يختبر خباياه ودهاليزه، ولا يعرف عن رجاله أى شئ الصالح منهم والطالح، وسيظل فاروق ملكا تحت الوصاية وقت غير قليل، وهناك ابن عمه الأمير محمد على توفيق صاحب العلاقة الطيبة بالإنجليز والذى مايفتأ يعلن أحقيته بحكم البلاد حتى بعد مولد فاروق، والعالم يتهيأ لحرب طاحنة ستكتوى مصر بأتونها.
وراحت نازلى تدبر لابنها الأمور، فتتفق مع أحمد حسنين باشا رائده فى انجلترا عن كيفية تقديمه للناس، وتتفق مع على ماهر رئيس الديوان الملكى “الداهية العتيد” على تشكيل مجلس الوصاية وتحديد صلاحياته، بحيث تمر فترة الوصاية رخاء لا يعكرها شئ،
أما عن الحكم والوزارة فقد راحت نازلى تطلب من فاروق أن يثق فى مصطفى النحاس ويوليه ثقته ويعمل وفق مشورته، ويضع يده دائما فى يده، وألا يستمع للوشاة الذين ينقموا على النحاس شعبيته وجماهيريته الكبيرة ورئاسته لأكبر الأحزاب المصرية، فهى تثق فى نزاهته وعفته وأنه لا يعمل إلا لمصلحة الوطن..وتقول له: لو احبك النحاس سيحبك الشعب
وبالفعل تولى النحاس رئاسة الوزارة فى بداية عهد فاروق، فشكل جبهة وطنية لإنجاز اتفاقية 1936، بين مصر وبريطانيا، فى الوقت الذى كان فيه “على ماهر باشا رئيسا للديوان الملكى” وهو بحكم منصبه يعد أقرب الناس للملك وألصقهم به والمشرف على شئونه والذى يرعى مصالحه وهو الوسيط بين الملك ووزارته وشعبه
وعلى الرغم من إننى كباحث أرفض التوصيف الأخلاقى للساسة إلا أننى لم أمقت وأكره وأحتقر سياسيا كما احتقرت على ماهر
فهو يعلم أن فاروق ذو الستة عشر ربيعا، صفحة بيضاء فيما يتعلق بالساسة والسياسيين وشئون الحكم وخباياه، وهو أقرب الناس له ويعرف بالتأكيد أنه لو هيمن على الملك الصغير فسوف يستولى على صلاحياته الدستورية كلها، فراح كالشيطان يوسوس له: أن النحاس متغطرس مغرور بحزبه وشعبيته يتدخل فى كل كبيرة وصغيرة، متصورا أنه زعيم الأمه، بينما الواقع يؤكد يا جلالة الملك أنك الزعيم الفعلى للأمه، وأنه لا يمكن أن يكون هناك زعيمان لأمة واحدة، وأن الوفد بحكم أغلبيته يرى أنه صاحب البلاد دون الملك، وأن صاحب الجلالة الملك فؤاد رحمه الله لم يكن يحبه ولذلك فهو لم يتول الوزارة فى عهده أكثر من تسعة شهور، وراح ماهر يوغر صدر الملك على النحاس حتى لم يعد يطيق رؤيته ولا سماع صوته
وفى ظل هذا الوضع كان من الطبيعى أن يبدأ الصراع مبكرا بين فاروق والنحاس، فالملك يريد أن يجرى على الديوان الملكى وموظفيه تغييرات تناسبه وتختلف عن عهد أبيه، فيصر النحاس على أن هذا ليس من حقه وانما من حق مجلس الوزراء، فالمادة75 من الدستور تقول: “أن مجلس الوزراء هو المهيمن على مصالح الدولة”، ويقنع ماهر الملك بأننا لو حسبنا عمر بالتقويم الهجرى فسوف يتولى صلاحياته الدستورية مبكرا ستة أشهر عما لو حسبناه بالتقويم الميلادى، ومرة ثانية يرفض النحاس على أساس أن الدولة مدنية تعتمد التقويم الميلادى فى جميع شؤنها ومعاملاتها وأن التقويم الهجرى لا نستخدمه إلا فى مناسبات المسلمين الدينية، ويحاول ماهر ويوعظ لبعض النواب بأهمية تتويج الملك فى احتفال دينى مهيب فى الأزهر، فيرفض النحاس لأننا لسنا بصدد خلافة ولا بيعة وإنما بصدد سلطات دستورية وإن مصر دولة مدنية ومن حق الأقباط واليهود الإحتفال بملكهم كالمسلمين تماما وأخيرا أن الدستور ينص فى مادته 50 على: ” قبل ان يباشر الملك سلطته الدستورية يحلف اليمين أمام البرلمان بغرفتيه النواب والشيوخ”
وعندما بات من الواضح أن هناك خلافات كبيرة بين النحاس والملك راحت الجماهير تطوف بقصر عابدين وهى تهتف: “الشعب مع النحاس”، فإن على ماهر قد التقى حسن البنا مرشد الإخوان المسلمين طالبا منه أن يكون الإخوان المسلمين هم حزب الملك وأن ينزل بكل قوته لميدان العمل السياسى، فراحت جماهير الإخوان تواجه الوفديين ويهتفوا: “الله مع الملك” وكانت هذه الأزمه هى الباب الملكى الذى نفذ منه الإخوان إلى ميدان السياسة والذى ندفع ثمنه حتى الآن
ولما كان النحاس يرى أن التفاوض مع الإنجليز فى جميع الأحوال هو السبيل الواقعى لتحقيق الجلاء، ومن هنا كانت اتفاقية 36، فإن على ماهر قد أقنع الملك بأن إنجلترا تتهاوى تحت ضربات “هتلر” الجبارة ومن هنا فالتعاون مع المانيا النازية هو فرصتنا التاريخية للتخلص من الإنجليز، وقد وصل الأمر بالملك فاروق أن أعد فى القصر جهاز إرسال يرسل من خلاله لهتلر أسرار خطط القوات الإنجليزية فى مصر، وقد رصد الإنجليز هذا الجهاز ومكانه ورسائله، فلم يغفروها لفاروق مطلقا، وربما لهذا السبب لم يتعاطفوا معه عند قيام ثورة يوليو وتركوه يواجه مصيره المحتوم، على الرغم من أن قواتهم فى الإسماعيلية على بعد 100 كيلومتر فقط من القاهرة
ربما لو استمع فاروق لمشورتها منذ البداية ووسد أمر الحكم للنحاس باشا والوفد صاحب الأغلبية المطلقة فى البلاد لعاشت الملكية فى مصر أكثر مما عاشت
ونعود لنازلى التى عشقت وأحبت أحمد حسنين باشا رئيس الديوان الملكى والذى كان شخصية ساحرة، فتزوجته وقد شعرت أخيرا بأنها قد وجدت شريك حياتها الذى سيعوضها سنوات العذاب والقهر التى عاشتها مع الملك أحمد فؤاد، ولكن لم يلبث أحمد حسنين أن يلقى مصرعه فى حادث تصادم مع لورى إنجليزى على كوبرى قصر النيل (فبراير 1946)
كانت قد جرت فى نهر الوطن مياه كثيرة بعد الحرب العالمية الثانية وتهاوت صورة الملكية والملك فخرجت الجماهير تهتف:”يافاروق يانور العين.. أمك اتجوزت اتنين.. على ماهر واحمد حسنين”.. وهتفت جماهير الإخوان:” من لا يحكم أًمه (يقصدوا نازلى) لا يحكم أمه (يقصدوا مصر)”.. وشعرت نازلى بأنها لن تستطيع البقاء فى مصر فجمعت مجوهراتها وغادرت البلاد هى وبنتيها فايقة وفتحية، بعد مقتل حسنين بشهور قليلة، واستقرت فى أمريكا ولما فشل فاروق فى استعادتها فإنه قد جعل مجلس البلاط يحرمها من لقب الملكة ويصادر ممتلكاتها ويسحب باسبورها المصرى، وتعرضت لعديد من عمليات النصب فعاشت على حد الكفاف
وتزوجت بنتها الصغرى فتحية من نصاب سكير مقامر انجب منها ثلاث ابناء ثم قتلها.. وعاشت تلك الملكة المظلومة وحيدة حتى ماتت فى مثل هذا اليوم من 44 سنة.
يسعد أوقاتكم

يمكنك دعم الموقع من هنا
مؤسسة ندى لحماية الفتيات

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى