كتّاب

أمس اشتريت شجرة الميلاد. في العادة نشتري شجرتين، مطلع ديسمبر وقبل الكريسمس….


أمس اشتريت شجرة الميلاد. في العادة نشتري شجرتين، مطلع ديسمبر وقبل الكريسمس.
وعدت هيلين صديقتين لها بأن يزيّنَ الشجرة معاً.
أحضرت أشياء الزينة أيضاً، وجلسنا للعشاء.

قالت هيلين:
لماذا نحتفل بعيد الميلاد؟

هذا مدخل درامي لحوار سيكون صعباً، وعلى ساره ياسين أن تتدبر أمرها كالعادة. من الواضح أن الأطفال قد جلبوا معهم سرديات أهاليهم إلى المدرسة وفتحوا صناديق أسراراهم مع أقرانهم. لم يكن هذا قط سؤالاً في الأعوام الماضية.

ساره ياسين:
هذا عيد لكل الدنيا.

هيلين:
هناك أطفال يرفضون الاحتفال بهذا العيد. حتى إنهم لا يصدقون حكاية سانتا كلوز.

ساره ياسين:
صدقتِ. هناك أطفال كثيرون لا يحتفلون بعيد الميلاد ذلك أنهم يعتقدون أنه احتفال يخص فقط المسيحيبن.

هيلين:
هذا عيد لكل الدنيا. لا تنسي يا أمي أنك وعدتني بأن تتركي لي حرية اختيار الدين عندما يصبح عمري 18.

ساره ياسين:
ولكنني لم أقل الآن. أنت الآن مسلمة. وهذا لا يعني شيئاً. لا يعني أنك أفضل من الآخرين أو أسوأ منهم. أنت فقط لديك أفكار مختلفة عن الآخرين إلى حد ما.

هيلين:
هل كنت تحتفلين بعيد الميلاد وأنت صغيرة مثلي؟

ساره ياسين:
نعم، كنت أحتفل مع صديقاتي المسيحيات في العراق. وكانوا يأتون إلينا في عيد السكّر [عيد رمضان] ونذهب إليهم في عيد الميلاد.

هيلين:
رائع.

ساره ياسين:
بالفعل كان شيئاً رائعاً. الله يكره الكذب وظلم الناس والحروب. هذه هي الأشياء التي لا يحبها الله. عدا ذلك فكل الناس رائعون.

هيلين:
فهمت منك أننا مسلمون ومع ذلك سنحتفل بعيد الميلاد.

ساره ياسين:
مثل كل عام. وسيأتي [….] لزيارتنا. سيحضرون لك ولصوفيا الهدايا. هل لاحظت أنهم لا يشعرون بوجود حواجز فيما بيننا رغم أنهم مسيحيون.

هيلين:
نعم لاحظت. أنا في الأساس لا أعرف حتى ما إذا كنت مسلمة أو هم مسيحيون.

ساره ياسين:
نحن بشر حبيبتي، وعلينا أن نحرص على أن نكون رائعين ومفيدين للعالم.

هيلين:
سأعلم صوفيا هذه الأشياء وإذا رفضتها سأجبرها عليها.

ساره ياسين:
نحن لا نجبر الناس على الأشياء الجميلة ولا نلقنهم إياها. علينا أن نمارسها لنريهم كم هي جميلة. بعد ذلك سيفعلون مثلنا.

هيلين:
أنا حزينة لأن بعض صديقاتي لن يحتفلن بعيد الميلاد.

ساره ياسين:
ذلك شأنهم. اسمعي يا حبيبتي سألخص لك الحكاية: الإسلام مثل أي دين آخر ينقسم إلى قسمين: تقليديين وحداثيين. إذا لم تفهمي الجملة فهي تعني: قديم وحديث. الحداثيون يحتفلون بأعياد الآخرين، والتقليديون لا يحتفلون سوى بأعيادهم. نحن نحتفل بأعياد الآخرين ليس لأننا نريد مشاركتهم إياها وإنما لاعتقادنا أن كل الأعياد الجميلة هي أعيادنا.

هيلين:
لأننا مسلمين حداثيين.

ساره ياسين:
بالفعل. وهذا يحدث في كل دين.

تنظر هيلين إليّ وتسألني:
وأنت بابا هل كنت تحتفل بعيد الميلاد في طفولتك في الهند؟

تقول ساره ياسين صارخة:
الهند؟

أقاطعها:
دعيها.

أغالط الطفلة بكلام خارج الموضوع. تصر ساره ياسين على إعادة فتح الموضوع، أضع سبابتي على شفتي. ولكنها تواصل حديثها رغم ذلك:
أبوك لم يولد الهند. أبوك عربي، من الي..
أقاطعها، أسحب الموضوع إلى مكان آخر.

.. تعتقد هيلين أن والدها قادم من الهند، ولا أدري كيف صنعت تلك الحكاية. أما أنا فأحدثها عن أسرتي وأصحابي، عن الجبل الذي ولدت فيه والوادي العامر بالأسرار. لا أقول لها كلمة واحدة عن اسم تلك الأرض التي جئت منها. سمعت اسم اليمن أكثر من مرة، كان اسماً دون قصّة، وكلمة بلا دراما. سرعان ما نسيته. تعرف الاسم ولا تعرف له قصة ولامكاناً. إذا شئت أن أخبرها فسأقول لها الحقيقة بكل عريها وبجاحتها: ذلك بلد تمالأ أهله عليه وأسلموه للمجرمين نكاية ببعضهم البعض. لن تصدق تلك الحقيقة، ولن تحتملها. فلتكتشفها بنفسها مستقبلاً، ولتجد القصة في كتاب أو جريدة.

عندما سقطت صنعاء كان عمر هيلين عاماً بالتمام. كان ذلك اليوم هو أسوأ أيام العمر. كنت أحتضن هيلين وأتابع الأخبار، كما لو أني سأقفز من شاهق. مساء ذلك اليوم اتخذت قراري: سأحجب عنها تلك الحكاية، وسأمنع وصول الهزيمة إليها. يعرف الكاهن القذر أنه انتصر، ويعرف كل أطفال البلاد اسمه. إن انتصاره الأكبر يتمثل في وصول اسمه، وحكايته، إلى الأطفال. اتخذت الحواجز اللازمة: اللغة والقصة. في “حرب الشيخ أحمد” أعاد الشيخ هندسة كل شيء من أجل طفلته التي كانت تصنع السفن. وحين قرر أن يغزو صنعاء فعل ذلك من أجل سفن ابنته.

وكلما سألتني عن أرضي أحيلها إلى أمّها قائلاً: جاءت أمك من بلاد المسيح، ولديها أرض رائعة دعيها تخبرك عنها. فتخبرها أمها عن أرض مذهلة لا تعرفها، عن مزارع لم ترها، وعن بلاد لا تملك فيها شيئاً.

ــــــ

ملحوظة:
ـــــ

كي لا تذهب التعليقات بعيداً، وكي لا يصفي المعلقون حساباتهم الدينية مع النص بدوافع وطنية:
قلتُ في النص وبشكل واضح أن أسوأ يوم في حياتي كان يوم سقوط الجمهورية. وأني اتخذت قراراً في ذلك اليوم بأن لا أروي قصة بلدي لابنتي، لأنها قصة لا يمكن أن تروى خارج حزام الهزائم.

ليس في هذه الجملة أي قدر من التعالي أو الاشمئزاز. من يرى في الجملة تعالياً وغروراً فهو يعاني من مشكلة في الفهم والخيال، ويترك لأحقاده أن تتحدث نيابة عنه. أو سلفي أزعجته شجرة الميلاد.

بمقدورك أن تقول:
أختلف معك، ارو لها القصة الكاملة كما فعلتُ أنا.

مثلاً.

لكن المزايدات الوطنية والمضاربات الأخلاقية ستعيدنا إلى أول الحكاية: لماذا انهار البلد؟

لأننا كنا آنذاك مثلنا الآن

نهاركم سعيد.

م.غ.

يمكنك دعم الموقع من هنا
مؤسسة ندى لحماية الفتيات

اترك رد

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى