كتّابمفكرون

“الولاء والبراء”…


“الولاء والبراء”
في مجتمع البداوة القبلي، حيث لا وطن ولا مواطنة، وحيث القبيلة هي المجتمع الأكبر، الحاضن لكل أفراده، في مواجهة قبائل (مجتمعات) أخري، كان ضروريا أن ينحصر الولاء للقبيلة، حيث تتركز آليات التعاون في كافة مجالات الحياة، وحيث يجد الفرد الحماية اللازمة لحياته واستمرارها.

وفي زمن الرسالة، كان من المفهوم أن يجري العمل على سلخ الفرد من قبيلته ومجتمعه، لضمه الي المجتمع الناشئ الجديد بآليات وقواعد خاصة تتصف بالدينية، ولكنها في مجملها لا تختلف كثيرا عن آليات وقواعد القبائل الأخرى، فالتراث والخبرات والثقافات واحدة.

وبدلا من تسميات القبائل المتعارف عليها كقريش وخزاعة وكنانة ومضر … صار المجتمع الجديد يدعو نفسه بالمؤمنين، ويصف الآخرين بالكفرة والمشركين، وحيث أن المؤمنين جميعا كان لهم انتماءاتهم السابقة فكان ضروريا كسر هذا الانتماء، ورفعه الي انتماء أكبر هو المجتمع المسلم.

ولهذا استحدثت قواعد الولاء والبراء، الولاء أو قل المحبة والانتماء للمجتمع المؤمن الجديد، والبراء أو التبرؤ أو قل الكراهية لكل ما هو خارج هذا المجتمع الناشئ، والمتمثل في المشركين والكفار وكل الذين لم يعلنوا إيمانهم، ولم ينضووا بعد تحت راية النبي وتابعيه من المؤمنين.

هذه الوحدة المجتمعية الجديدة بأعدادها المحدودة في مكة، لم تلبث أن انتقلت الي المدينة، بقبائلها الأكثر عددا وتنوعا، وأبرمت المصادقات والمعاهدات، لتحقيق تعايش مقبول في ظل تعددية دينية وعرقية، ولم تلبث أن تحولت الي وحدة سياسية، يرأسها النبي، تتموطن في بقعة محددة تشكل وطنا جديدا، وكان المفروض هنا أن ينتقل الولاء من هذه الجماعة الصغيرة، جماعة المؤمنين، الي الوحدة السياسية الجديدة بكل تعدداتها في الوطن الجديد، ولم يحدث، خاصة مع بدء الحروب الإسلامية التي يشنها المؤمنون، وبدء توسع الدولة الوليدة بصيغتها الدينية، علي حساب القبائل المحيطة، فبقيت قواعد الولاء والبراء، حافزا معنويا هاما، يشحذ الهمم ويوفر أسبابا للقتال، قد لا تبدو واقعية بدونه.

أن قواعد الولاء والبراء، بكل نصوصها المقدسة، قد نعذر وجودها، في مراحل نشأة المجتمع الجديد، وتوسعه على الأسس الدينية في شكلها الأولي. أمّا وقد صارت دولة كبيرة، تحوي عناصر ومجتمعات أخري غير إسلامية، فاستقامة الأمور كانت تحتم أن ينتقل الولاء الي الوطن الأكبر، حيث الدولة الجديدة بكل تنوعاتها، درءا للفرقة والانقسام والإحتراب الداخلي، أو بمعني آخر، كان المحتم أن يعم مبدأ المواطنة بحقوق وواجبات متساوية، في وطن يظل الجميع، وينضوي تحته كل مواطنيه، حتى يطلق عليها لفظ دولة حتى لو كانت إسلامية!

استغل الفقهاء والمفسرون والحكام أيضا الولاء والبراء أسوأ استغلال، وحولوها من قواعد مجتمعية الي عقيدة إيمانية، ومن خلاله أكثروا من بث سموم الكراهية والبغض للآخر، مستندين على نصوص صاحبت بداية الرسالة، وتوسع هؤلاء المتعصبين المتشنجين في تأويلها وشرحها لتزداد شرا وتعقيدا، وتلقفها عدد من المرضي النفسيين، المهووسين دينيا، فارضي وصايتهم على الناس بغير حق، فاتخذوا من التأويلات نصوصا مقدسة بعد أن نقلوا القداسة الي المؤولين، ليزيدوا النار اشتعالا.

بعد أربعة عشر قرنا يعيدون تقسيم المجتمع الي مؤمنين وكفار، وعملا بعقيدة الولاء والبراء ينثرون البغض والكراهية فيصورون موالاة من يدعونهم الكفار بأمور ينهون المؤمنين إتيانها منها:
التشبه بهم في اللباس والكلام.
التسمي بأسمائهم.
اتخاذهم بطانة ومستشارين.
السفر إلى بلادهم لغرض النزهة ومتعة النفس.
الإقامة في بلادهم، وعدم الانتقال منها إلا الي بلاد المسلمين لأجل الفرار بالدين.
التأريخ بتاريخهم خصوصًا التاريخ الذي يعبر عن طقوسهم وأعيادهم كالتاريخ الميلادي.
مشاركتهم في أعيادهم أو مساعدتهم في إقامتها أو تهنئتهم بمناسبتها أو حضور إقامتها.
مدحهم والإشادة بما هم عليه من المدنية والحضارة، والإعجاب بأخلاقهم ومهاراتهم دون النظر إلى عقائدهم الباطلة ودينهم الفاسد.
الاستغفار لهم والترحم عليهم.

هذا بعض من كمّ البلاء الكامن في الولاء والبراء، ولقد كان لهم في العهدة العمرية نموذجا ومثلا، عندما أرسل الي مسيحيي الشام شروطه للتصالح ووقف نزيف دمائهم فحوت ما حوت من المهانة والمذلة.
#بالعقل_والهداوة

يمكنك دعم الموقع من هنا
مؤسسة ندى لحماية الفتيات

Sameer Zain-Elabideen سمير زين العابدين

خريج الكلية الحربية فبراير 1969, أعمل حاليا في النظر حولي وأشياء أخري, عقلي هو إمامي ورئيسي

‫12 تعليقات

  1. شكرا لحضرتك علي مقالك الرائع وشكرا علي التوضيح وخصوصا كلمة البراء اما عن الوثيقة العمرية ففبها اشياء مهينة جدا للمسيحيين وانا مش عارفة اللي بيشكروا ويمدحوا فيها علي اي اساس 😥😥😥 . تحياتي واحترامي لحضرتك 💐💐💐

  2. استفيد جدا من بوستاتك استاذنا نحن أصبحنا خارج الزمن وخارج التاريخ أصبحنا نعود الي الخلف بسرعه رهيبه الناس سلمت نفسها وعقلها للشيوخ للأسف تحياتي لحضرتك

  3. جميل الإشارة الى آلية الولاء والبراء كآداة إدماج اجتماعى ومايمكن أن يؤدى الى تشكيل ” أمة ” وإشكالياتها بالإرتطام بمتغيرات مع توترات القبلية والفرق ، والخضوع للعقلية الدينية .. مبحث مهم .

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى