كتّاب

المبدعون فيما يبدعون مذاهب (1 من 3):…


المبدعون فيما يبدعون مذاهب (1 من 3):
الجمهور الحائر بين أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب
لن يختلف معى كثير من الأصدقاء لو قلت أن أم كلثوم وعبد الوهاب هما قطبا الغناء والطرب فى مصر فى القرن العشرين، وأنهما أغزر من قدما إنتاجا، وأنهما أكثر من شكلا وجدان الناس وشغلا الدنيا، طبعا مع اختلافات مقدرة ومفهومة حول اختلافات حقيقية وكبيرة بينهما، وتتفقوا معى انهما كانا أكبر الكبراء فى مجال الغناء والموسيقى على مدى ثلاث عقود الثلاثينيات والأربعينيات والخمسينيات وكان التنافس بينهما بالغا، حتى “أمرهما” جمال عبد الناصر بالعمل معا فقدما لنا باكورة أعمالهما أغنية “إنت عمرى” سنة 1964،
وهذا المقال ليس لتقييم فنهما ولا للمقارنة بينهما وإنما قصدت فيه أن أناقش علاقتهما وموقفهما من جمهور “السميعة” المباشر، لماذا لو كتبت مثلا على محرك البحث: الأطلال لأم كلثوم، يأتيك محرك البحث بنحو عشرة تسجيلات مختلفة من الأطلال أما لو كتبت، وكثير منها تحتها اسم مكان الحفلة وتاريخها، الأذبكية .. قصر النيل .. دمشق .. باريس أما إذا كتبت “النهر الخالد” يأتيك المحرك بواحدة فقط “النهر الخالد” بلا مكان تسجيل ولا تاريخ، بس، فما هى الحكاية؟
ولد الكبيرين فى السنتين الأخيرتين فى القرن التاسع عشر، وبدءا تجربتهما مع الغناء وهما صغيران، مع ظروف مواتية أكثر لأم كلثوم إذ كان أبوها منشدا واكتشف مبكرا موهبتها الغنائية وقدراتها الصوتية فدفعها للغناء معه وقدمها للسميعة فى الكفور والنجوع والبلاد، ولا شك أنالطفلة قد عانت معاناة قاسية، فلا أحد – غير من عاش بنفسه- يعرف صعوبة المشى شتاء فى الظلام الدامس والدروب الموحلة فى بلاد الدلتا، ومشقة انتظار القطار فى البرد الزمهرير من منتصف الليل حتى الصباح،
أما عبد الوهاب فقد كان أبوه مؤذنا لجامع سيدى الشعرانى بباب الشعرية فعرف معنى حلاوة الصوت أيضا وهو صغير، ولكنه كان يهرب من أسرته ليتسسلل إلى حلقات الذكر فى سيدنا الحسين أو مسارح كلوت بك، وكان يدخل إلى المسارح وصلات الغناء متسللا أيضا، وردد ماسمعه من غناء ومواويل، فقرر القائمين على الصاله منحة فرصة الوقوف أمام الناس، وقبل الحرب العالمية الأولى شاهده أحمد بك شوقى ساهرا يغنى على المسرح فكلم “راسل”باشا الإنجليزى حكمدار العاصمة ليذكره بأن القوانين لا تسمح بسهر الأطفال والغناء فى صلات الرقص والغناء بما تضم من بلطجية وسكارى وبائعات هوى وغيرهم، فتعهد راسل باشا بمنعه، فاضطر عبد الوهاب للبحث عن صالات بعيده وعثر على فرقة غنائية تجوب الأقاليم فسافر معها يغنى ويلقى المواويل، وفى دمنهور كانت الحرب قد ألقت بظلالها على المسارح وقلت ايراداتها، فقال له مسئولى الفرقة بأنهم لن يستطيعوا دفع أجرته اليومية “خمسة قروش” إلا إذا قام مع الغناء بدور عامل النظافة، فيقوم بعد قفل الستار بكنس الصالة من آثار الجمهور وكنس قشر اللب والسودانى واليوسفى وما بقى من ورق القراطيس، فبكى عبد الوهاب بكاءا مرا وعاد للقاهرة ليقول لأبيه أن مصيره والغناء واحدا، فتسلم له الأسرة بدخول مدرسة لتعلم العزف على العود والموسيقى، ومع انتقال سيد درويش للقاهرة ومع ثورة 1919، يسمعه سيد درويش فيعجب به ويضمه لفرقته حتى سمح له بأن يلعب دوره فى أوبريت العشرة الطيبة ويغنى بدلا منه أمام حياة صبرى الدور الرائع: “على قد الليل مايطول” ولم يطل عمله مع سيد درويش الذى مات وهو في ريعان الشباب، سبتمبر 1923- فعاد عبد الوهاب للغناء فى المسارح والصالات،ومرة ثانية يستمع إليه أحمد شوقى سنة 1924، فيتفقا على أن يلازم عبد الوهاب شوقى وأعد له جناحا فى بيته “كرمة بن هانئ” على نيل الجيزة، وقال له شوقى: إن لديه صوتا لن يجود الزمان بمثله، ولكنه للأسف ينقصه الدراسة والتدريب والثقافة، فامتثل عبد الوهاب، وكعادة الارستقراطية المصرية فى ذلك الزمان كان شوقى يقضى ثلاث شهور الصيف فى بيته فى باريس، فيأخذ معه عبد الوهاب، وبطبيعة الحال كان الكثير من طلاب البعثات العلمية من المصريين لجامعات فرنسا يزورون شوقى بك، فكان يختار منهم من يدرس فنون الموسيقى والأوبرا والسيمفوني، ويطلب منهم مصاحبة عبد الوهاب لكل نشاط له علاقة بتلك الفنون فيتلقاها ويزور معاهدها ويتعلم منها ويترجم له ما استعصى عليه فهمه، وبين سفرة وسفرة يقدم عبد الوهاب للتسجيل وفى جلسات صغيرة أغانيه المختلفة، وقدم فى ذلك الوقت أغنيات: لما انت ناوى تغيب على طول، وقصيدة يا جارة الوادى، وطقطوقة فيك عشرة كوتشينة، وعندما قدم فى ديسمبر 1929، وأمام الملك أحمد فؤاد فى افتتاح معهد الموسيقى العربية دور “فى الليل لما خلى” فإنه قد نصب نفسه سيدا للغناء والموسيقى فى مصر
كل هذا كان مقدمة للإجابة عن السؤال: لماذا التسجيل الوحيد لمحمد عبد الوهاب، على عكس أم كلثوم بتسجيلاتها المتعددة؟، سيكون هذا موضوع مقال الغد
يسعد أوقاتكم

يمكنك دعم الموقع من هنا
مؤسسة ندى لحماية الفتيات

اترك رد

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى