توعية وتثقيف

الدراسة فى الإتحاد السوڤييتى – ٤…


الدراسة فى الإتحاد السوڤييتى – ٤

أعود إلى سنة ٥٨. لما إنتهت البيروقراطيتان المصرية و الروسية من عملهما، كنا فى النصف الثانى من ديسمبر عندما وصلنا إلى موسكو. وصلنا فى سواد الليل و كل شيئ مغطى بالثلج، ولاتوجد ألوان سوى الأبيض و الأسود والرماديات. حتى الناس كانت معاطفهم و أغطية رؤوسهم و أحذيتهم كلها سوداء. الأنوار كانت قليلة و خافتة. و كان المنظر كئيباً مقبضاً.

كان الإتحاد السوڤييتى خارجاً لتوه من حرب ضروس إلتهمت الأخضر و اليابس و ٢٦ مليون مواطن. تلى ذلك مباشرة حصار محكم من الدول الغربية الغنية التى كسبت الحرب بمجرد الإنتظار حتى يموت أكبر عدد من الروس. كان الناس يبدون فقراء، لكن الفقر الروسي كان يختلف عن الفقر المصري، فلم تكن عندهم قذارة و لا نفايات و لا همجية و لا تسول و لا أمراض … . لكن معرفة هذا لم تغير كثيراً من وقع المنظر الكئيب. زد على ذلك أن البرد كان “يقطع ذيل الفأر،” و لم تكن لدينا ملابس مناسبه.

فى الصباح نزلنا إلى البوفيه للإفطار فلم نرى وراء الزجاج شيئاً نعرفه إلا البيض و اللبن. الخبز كان مثل قوالب الطوب، و كانت رائحة السجق المسلوق تثير الغثيان عند من لم يعتاد عليها. صاح زميل سوري إسمه جبور: “شو ها القرف يا خيو ؟ يحرق *ين هالشغلِه!” (*)

بدأت الظلمات تنقشع قليلاً عندما قابلنا يوليا دميتريڤنا مدرسة اللغة الروسية. كانت يوليا سيدة فى الخمسينات من عمرها، وجهها الجميل يشع طيبة و حناناً و أمومة. كنا ٦ صبية مصريين فى مجموعتها، و أحبتنا جميعاً حباً دافقا لم تكن فيه ذرة من التظاهر. صحيح أننا كنا cute، (أقصد الخمسة الآخرين،) لكن ليس بالدرجة التى تبرر كل تلك العاطفة و الحنية. إشترت لنا يوليا دميتريڤنا معاطف و أغطية رأس وأحذية و قفازات. أخذتنا إلى مسرح البلشوي لمشاهدة باليه بحيرة البجع، (و نعس أغلبنا من فرط الملل؛) أخذتنا إلى متحف تريتياكوف للفنون؛ و فرجتنا على مترو موسكو الذى كان، و ما يزال، إعجازا تقنياً و معماريا فريداً، وعلمتنا كيف نستعمله، و كانت تقضى معنا بسخاء كل ما نحتاجه من وقت.

مع إنحسار الصدمة الأولى بدأنا نلاحظ الإيجابيات – كيف كان الناس ينتظرون دورهم فى طابور لركوب الأوتوبيس؛ كيف كانوا يحترمون الوقت و الوعد و الكلمة؛ وفرة الكتب و رخص أثمانها …. إكتشفنا المطاعم الجورجية و الأرمنية و الأوزبكستانية، و وجدنا أطعمتهم لا تقل عن الطعام المصري فى طعامتها، بل تفوقه. وقليلاً بقليل بدأنا فى إستساغة الطعام الروسي. و أصبحت بعض الأطباق الروسية من الوجبات المفضلة عندى حتى الآن. و بالتدريج بدأنا فى تذوق الموسيقى الأوربية، ثم الباليه، ثم المسرح، ثم الأدب، ثم الأوپرا.

كاڤيار البيلوجا الأسود كان متوفراً فى أي محل بقالة، و بثمن تافه. أذكر أننى أوشكت على التقيئ عندما جربته لأول مرة سنة ٥٩. و الآن لا نتردد فى دفع ٣٠٠ دولار فى الأوقية الواحدة. و هكذا روسيا ، مثلها مثل الكاڤيار – تصعب إستساغتها فى البداية، و تحتاج إلى وقت طويل و تعوّد لتذوقها.

سرعان ما جاء الربيع و تفجرت الخضرة. المدينة أصبحت جميلة و أكثر مرحاً. و البنات أصبحن مثل الزهور اليانعة. إشترينا دراجات و إتسع مجال مغامراتنا. و كانت يوليا ديميتريڤنا قد نجحت فى جعلنا طلقاء فى اللغة الروسية. فصرنا أكثر قدرة على الحركة و التعامل، و كذلك على فهم النكت الذكورية قليلة الأدب التى كان يعلمنا إياها زملاؤنا الروس فى بيت الطلبة.

أصبحت الأمور عموماً لا بأس بها. لكن ما أن جاء ٣٠ يونيه، و هو نهاية العام الدراسي، حتى هرعنا إلى مصر لقضاء الأجازة الصيفية هناك. لم تبكى يوليا دميتريڤنا علناً وهي تودعنا، لأنها كانت مثل الأميرة، لكنى لا أشك فى أنها كانت تبكى فى داخلها، فقد كنا مجموعة مسلية من الأولاد (أقصد الخمسة الآخرين. )

ذلك كان أول صيف … فى الصيف الثانى لم أتعجل على السفر إلى مصر؛ و فى الصيف الثالث و ما بعده فضلت أن أبقى فى روسيا و أستكشف أقاليمها المترامية و ثقافتها المتنوعة. و هذه قصة أخرى.
_________________________________
*) كان مجموعتنا تضم ٣٠ طالب من مصر و ٣٠ من سوريا.

يمكنك دعم الموقع من هنا
مؤسسة ندى لحماية الفتيات

Farid Matta فريد متا

كاتب ادبي

‫21 تعليقات

  1. ما أجمل إستعادة الذكريات ، حديث ممتع مكتوب بسلاسة وعذوبة ، وكمال قال يوسف إدريس فى حديث له مع توفيق الحكيم ” القارئ المصرى قارئ صعب ولكى تجعله يقرأ المقال من بدايته إلى نهايته ، يحتاج ذلك إلى مقدرة خاصة فى فن التشويق مع بساطة فى السرد ، ولقد نجحت فى ذلك بإمتياز .

  2. ما لم تذكره حضرتك هو العلاقة بين مصر والاتحاد السوفيتى التى كانت مع مطلع 1959 فى أدنى درجاتها وأسوأ حالاتها, خاصة بعد تبادل الإتهامات والعبارات الجارحة بين ناصر وخروشوف علنا, تلى ذلك حملة اعتقالات الشيوعيين المصريين, الم يتسبب ذلك لكم فى بعض المشاكل , الم يمثل تهديدا لكم بالإعتقال ردا على ما حدث فى مصر, … , على جانب آخر طبعا المصريين والسوريين ذهبوا كتلاميذ لوطن واحد (الجمهورية العربية المتحدة) ياريت تذكر لنا ما حدث بعد الانفصال, خالص التحية

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى