كتّاب

حكاية النيل…


حكاية النيل
نيل الإثارة والدهشة:
تبدأحكايتنا مع النيل بكل ماهو مثير ومدهش، حتى قبل أن يتفتح وعينا ومداركنا، فكثيرا ماكانت أمى و”ستى” وخالتى”بهية” تخوفنا من المخاطرة بالاقتراب من النيل ( كنا نسميه البحر) أوالنزول إليه أو العبث معه، لكي لا نقع فى يد “أم الشعور” أو “أمنا الغولة” وزوجها الغول أو النداهة، الذين يعيشون فى كهوف غامضة فى أعماقه..رغم أنهم جميعا لم يكونوا قتلة أشرار دائما بل كثيرا ما كانوا يكافؤن المطيع صاحب السلوك الطيب والخلق الحسن، ومازال يتردد فى سمعى صوت أمى على لسان “أمنا الغولة” ولا حظ الألفة فى ضمير الإضافة “أمنا” وهى تقول لست الحسن: “يجعل حمارى فى خديكى.. ولا يجعلوش فى عنيكى.. يجعل سوادى فى شعريكى ولا يجعلوش فى بدنيكى”.. وتقول للبئر: “يابير يابير إكسيها حرير كتير.. يا بير يابير لبسها دهب كتير”.. أو قولها للشاطر حسن: “لولا سلامك سبق كلامك لكلت لحمك قبل عظامك”.. وبالفعل كنا نشعر برهبة إذا سرنا وحدنا على شاطئ النيل، أو شاءت الظروف أن نراه ليلا، وكلما تأملنا تيار مياهه المتدفقة بقوة غامضة وثقة نحو الشمال
ومع دخولنا المدرارس وزيادة أعمارنا واستقلالنا شيئا فشيئا، اتخذت تلك الدهشة صورا مختلفة ونحن نفكر فى تلك المراكب الشراعية الى تقطعه من الجنوب إلى الشمال ومن الشمال إلى الجنوب، ونحن نعرف أحيانا ماتحمله من بضائع كالقصب والبلاليص وفى معظم الأحيان لا نعرف شيئا، ومع هذا نتأمل هؤلاء الرجال الأشداء ذوى البشرة السمراء الذين يستطيعون ترويض هذه المراكب العملاقة لتسير على سطح الماء بهدوء وسلام،
وتستمر الدهشة مع حكايات الأهل عن هؤلاء الشباب الذين استهتروا بالنيل ونزلوه دون سابق خبرة ولا مهارة، فجرفهم تياره وغرقوا ولم يستطع أهلهم العثور على جثامينهم إلا عندما طفت على سطح الماء بعد عشرات الكيلومترات نحو الشمال، أو ربما لم يعثر عليهم أصلا، وعاشت أسرهم بحسرتهم تروى حكاياتهم جيلا بعد جيل، بينما يقسم بعضهم بأن “النداهة” قد ندهتهم، كما يحكى الناس عن تلك الجثث التى مرت بالبلاد طافية على سطح الماء لنساء ورجال يأتون من بعيد فى جرائم مازالت غامضة
كما أدهشتنا حكاية عروس النيل، أجمل فتيات البلاد التى كان القدماء يلقونها إلى النيل فى أبهى زينة ليظل النيل راضيا عنهم، قبل أن نعرف أن الحضارة المصرية القديمة لم تعرف القربان البشرى ولا الحيوانى مطلقا، واندهشنا أيضا عندما عرفنا أن كثيرا من النساء الذين تأخر حملهن ولم يرزقن الولد يملأن إبريقا من الفخار من ماء النيل ويصعدن إلى المقابر ويخلعن ملابسهن كلها ويصببن من “بزبوز” الإبريق على جسمهن العارى طلبا للحبل والولادة.
وفى منتصف مرحلة الدراسة الابتدائية كنت وكثير من رفاقي قد تأكدنا من قدرتنا على السباحة والغطس فى الترع الصغيرة التى لا يخشى علينا فيها من الغرق، فانتقلنا إلى السباحة فى النيل عبر “المنايل” ومعنى المنيل هنا قديم قدم النيل نفسه فقد عاش النيل منذ وجوده حتى بناء السد العالى، عفيا فتيا شابا يتدفق تياره بقوة وعنف فينحت لنفسه مجرى ذى جروف وضفاف عاليه حادة تجعل من مجرد الاقتراب من النيل مخاطرة مهلكة حتى يتقدم أحدهم فيحطم جرفا وينزع ماحوله من بوص وبردى ويصنع ممرا متدرجا ببطء إلى النيل، بحيث يسمح لنساء بملء جرارهن أو غسيل الملابس ويسمح لفلاح بسقيا بهائمه، ويسمح لعابد بالاستحمام والوضوء ويسمح للأطفال والصبيان باللهو والقفز والسباحة فى النيل، وفى الريف اعتاد الأطفال السباحة وهم عراة تماما حتى مطلع سن البلوغ وتكفلت عبقرية النطق المصري باختصار جملة: “منزل هابط إلى النيل” فى كلمة واحدة هى: “منيل”.
وتستمر دهشتنا مع النيل عندما كنا نعوم ونلهو فتصطدم أقدامنا بشئ هلامى “ذلق” نرفعه لنجده غشاء جلدى مدمم، عرفنا فيما بعد أنه “خلاص” أو مشيمة مولود، دأبت أمهاتنا على رميها فى النيل امتنانا له وعرفانا بدوره فى الحفاظ على خصوبة المرأة واستمرار قدرتها على الإنجاب وكأنها ترد له الوعاء بعد أن فرغ ليملأه من جديد، كما أشرنا من قبل مع النساء اللائى تأخر حملهن
هذا بعض ما وقر فى قلوبنا وعقولنا وأرواحنا حول نيلنا المدهش والمثير، ومع هذا لكل من حكايته الخاصة، سنعود إليها فيما بعد …. يسعد أوقاتكم

يمكنك دعم الموقع من هنا
مؤسسة ندى لحماية الفتيات

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى